Announcement

Collapse
No announcement yet.

أنــــواع الحقيقــــة - بقلم جميل حمداوي

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • أنــــواع الحقيقــــة - بقلم جميل حمداوي

    مفهوم الحقيقة في الخطابين
    الفلسفي والإبستمولوجي

    بقلم جميل حمداوي

    أنــــواع الحقيقــــة:

    يمكن الحديث عن أنواع عدة من الحقيقة، فهناك الحقيقة الصورية المنطقية الشكلية التي تقوم على ربط القضايا المنطقية ببنائها الداخلي، وذلك بغية بناء تماسكها العقلي على مستوى البرهنة والاستدلال، والحقيقة المادية التجريبية التي تربط الحقيقة بالعالم الواقعي والخارجي والتجريبي لمعرفة صدقها ويقينها. كما تتنوع الحقيقة أيضا وتتلون بتعدد الخطابات ، وتعدد مرسليها ، وتختلف حسب طبيعة الخطاب وسياقه وشكله. إذ يمكن الحديث عن الحقيقة العلمية في الخطاب العلمي، والحقيقة الفلسفية في الخطاب الفلسفي، والحقيقة الدينية في الخطاب الديني، والحقيقة السياسية في الخطاب السياسي، والحقيقة الاقتصادية في الخطاب الاقتصادي، والحقيقة اللغوية في الخطاب اللساني...

    1- الحقيقة سلطة ومصدرها السلطة:

    يثبت ميشيل فوكو M.Foucault (1926-1984م) في كتاباته الفلسفية أن الحقيقة تمارس سلطتها على المجتمع ؛ وذلك بسبب طابعها الإكراهي وقوتها الحجاجية والمؤسساتية. والمقصود من هذا أن الحقيقة سلطة ومصدرها السلطة. وبالتالي، فالحقيقة لا توجد خارج السلطة، ولا تخلو من السلطة. ومن ثم، فالحقيقة في المجتمعات المعاصرة تتميز بخمس صفات أساسية، وهي:

    1- إن الحقيقة مقصورة على شكل الخطاب العلمي، ومحصورة في المؤسسات التي تنتج هذا الخطاب العلمي؛

    2- إن الحقيقة خاضعة لنوع من التحريض الاقتصادي والسياسي الدائم؛

    3- إن الحقيقة هي موضوع نشر واستهلاك عبر أجهزة التربية أو الإعلام؛

    4- إن الحقيقة يتم إنتاجها ونقلها تحت مراقبة بعض الأجهزة السياسية أو الاقتصادية الكبرى، مثل: الجيش، والجامعة، والكتابة، ووسائل الاتصال الجماهيري؛

    5- إن الحقيقة هي مدار كل نقاش سياسي وصراع اجتماعي#.

    ومن ثم ، فالحقيقة عند مشيل فوكو هي :" مجموع الأشياء التي يتعين اكتشافها أو حمل الآخرين على قبولها، بل مجموع القواعد التي يمكن بمقتضاها فرز ماهو حقيقي مما هو خاطئ، وإضفاء سلطة ذات تأثيرات خاصة على ماهو حقيقي، هذا علما بأن الأمر لا يتعلق هنا أيضا بكفاح لصالح الحقيقة، بل من أجل تحديد مكانة الحقيقة وقيمتها ودورها الاقتصادي السياسي...

    لايتعلق الأمر بتخليص الحقيقة من كل منظومة من منظومات السلطة، إذاك وهم، لأن الحقيقة هي ذاتها سلطة، وإنما يتعلق الأمر بإبعاد سلطة الحقيقة عن أشكال الهيمنة (الاجتماعية والاقتصادية والثقافية) التي تشتغل داخلها لحد الآن"#

    ويعني كل هذا أن المجتمع الغربي لا يؤمن إلا بالحقيقة العلمية، تلك الحقيقة التي لها سلطة كبرى على المستوى العلمي والمؤسساتي والثقافي والاجتماعي والسياسي. ومن ثم، فالعلم هو مصدر الحقيقة في المجتمعات الغربية المتقدمة. في حين، نجد أن الحقيقة الدينية هي التي لها سلطة كبرى وحقيقية في المجتمع الإسلامي، وهي كذلك مصدر الحقيقة في جميع مناحي الحياة، ومصدر التشريع، والاجتهاد، والاستشهاد، والترجيح بين الدلائل المختلفة والأحكام المتعارضة.

    2- الحقيقة اليقينية هي التي تقوم على البرهان:

    يؤكد أرسطو أن الحقيقة المتعالية على الشك والظن والاحتمال هي الحقيقة البرهانية القائمة على العقل والمنطق واليقين الرياضي سواء على مستوى الاستقراء أم على مستوى الاستنباط؛ " لأن الحكم الذي يقرر نفسه على أنه صادق، يقرر نفسه أيضا على أنه قد أقيم البرهان عليه. والبرهان هو، على وجه التحديد، ما يسمح له بأن يؤكد نفسه، هو القوة التي تدعمه من الداخل، وتثبت صحته وصدقه. والواقع أن امتلاء الوعي بحقيقة من الحقائق، إنما هو إدراك هذه الحقيقة في ينابيعها وأسسها الشرعية، وإذا أخذنا بهذا المعنى للبرهان... فلا يمكن لقضية أن تقرر نفسها بلا برهان. وعندما تحمل برهانها في نفسها نسميها بديهة#." ويتبين لنا من هذا النص أن السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة- حسب أرسطو- ليس هو الشك أو السفسطة أو الخطابة المغالطية ، بل المسلك الوحيد لليقين هو البرهان العقلي والمعالجة المنطقية الصحيحة.

    وتأسيسا على ماسبق، فالحقيقة واحدة (الحقيقة الربانية)، بيد أن الطرق المؤدية إليها متنوعة، قد يكون الطريق نصا أو برهانا أو بيانا أو عرفانا...أما الحقيقة العلمية – في منظورنا الشخصي- فهي حقيقة فرعية في خدمة الحقيقة الأصل، وهي الحقيقة الربانية، وهذه الحقيقة الثانوية قد نصل إليها عبر العقل أوعبر التجربة أو عبرهما معا.

    3- الحقيقة العلمية قوامها الخطأ الإيجابي:

    يرى جاستون باشلار G.Bachelard (1884-1962م)أن الحقيقة في المجال العلمي تعترضها مجموعة من العوائق الإبستمولوجية (المعرفية) كالظن وبادئ الرأي؛ لأن هذا الأخير غير نقدي، ووثوقي، ثم لا يفكر. لذا، ينبغي التحرر من هذه الأخطاء والعوائق لبناء حقيقة علمية يقينية وصادقة. وبالتالي، فالحقيقة العلمية هي بمثابة خطإ تم تصحيحه علميا. وكل الحقائق العلمية في وجودنا الكوني والمعرفي هي عبارة عن أخطاء بالمفهوم الإيجابي للخطإ لا بالمفهوم السلبي . فكل عالم يأتي ليصحح أخطاء سابقيه من الوجهة العلمية نظرية وتطبيقا، والتاريخ العلمي في الحقيقة هو تصحيح للأخطاء . كما أن العلم يتطور ويتقدم بتصحيح النظريات والتجارب العلمية السابقة كما يقول أيضا كارل بوبر. ومن ثم، فالحقيقة عند باشلار هي القائمة على الخطإ العلمي المصحح، حيث :" يتم التوصل إلى الحقيقة العلمية عبر العودة إلى الأخطاء الماضية، أي عبر عملية ندم ومراجعة فكريين. وفي الواقع، فالمعرفة العلمية هي معرفة تتم دوما ضد معرفة سابقة، وذلك بتقويض المعارف غير المصاغة صياغة جيدة، وبتخطي ما شكل، في النفس المفكرة، عائقا أمام عملية التعقل المعرفي.

    إن العلم، من حيث حاجته إلى الاكتمال كما في مبدئه نفسه، يتعارض تعارضا مطلقا مع الرأي. وإذا حصل أن أعطى العلم الشرعية للرأي، فذلك لأسباب أخرى غير الأسباب التي يقوم عليها الرأي: لدرجة تسمح بالقول بأن الرأي، من الناحية المبدئية، هو دوما خاطئ.

    الرأي يفكر تفكيرا ناقصا، بل لا يفكر: إنه يعبر عن حاجات معرفية. إن الرأي وهو يتناول الموضوعات من زاوية نفعها وفائدتها، يحرم على نفسه معرفتها. لذا لا يمكن أن نؤسس أي شيء على الرأي بل يجب أولا أن نقضي عليه.إنه العائق الأول الذي يتعين تجاوزه في مجال المعرفة العلمية."#

    وهكذا، يشتغل باشلار على الحقيقة والخطإ ، وذلك ضمن حقل المعرفة العلمية أوما يسمى بالإبستمولوجيا. وبالتالي، يؤكد باشلار بأن الحقائق العلمية مبنية على تاريخ الأخطاء، وأن هذه الأخطاء تتقدم عن طريق صراع النظريات، وتصحيح بعضها البعض.

    4- لا وجود للحقيقة مادامت هي مجرد أوهام:

    يذهب نيتشه F.Neitzshe (1844-1900م) إلى أن الحقيقة غير موجودة أصلا في هذا الوجود الذي يسيطر فيه القوي، وتنتعش فيه الإرادة والسيطرة، مادامت هذه الحقيقة مرتبطة بالوهم والزيف والضلال. ويعني هذا أن الفكر البشري خاضع لمبدأين أساسين، وهما سببان كافيان لوقوعه في هذا الوهم:

    أولا: ميل الإنسان إلى السلم والمسالمة، وذلك خوفا من إثارة الحرب، وإشعال الفتن، والتي ستدمر كل بني البشر بدون استثناء. وبالتالي، فالإنسان يحافظ على نفسه، ويحب البقاء. لذا، يلتجئ إلى الكذب والنفاق، واختلاق المبررات، ومنافقة الآخرين خوفا من العقاب والموت ، وحفاظا على ذاته ووجوده.

    وثانيا: مادام الإنسان يستخدم اللغة القائمة على بلاغة التشبيه والاستعارة، فإنه لايخلق بهذه البلاغة القائمة على التهويل والتضخيم والمبالغة سوى الأوهام والظنون الكاذبة البعيدة عن الصدق واليقين. ويعني هذا أن الكائن البشري كائن مجازي بامتياز لايخلق سوى المبالغات الزائفة في إصداره للأحكام القيمية والمعرفية. وبالتالي، يعلن الفيلسوف الألماني نيتشه أن الحقيقة منعدمة ، وهي مجرد وهم مطلسم.ومن هنا، يقول نيتشه:" بقدر ما يعمل الفرد على حفظ بقائه تجاه الآخرين، بقدر ما يغلب أن لا يستخدم العقل، في الأحوال العادية، إلا من أجل الخفاء والكتمان. غير أن رغبة الإنسان تحت تأثير الضرورة والضجر معا، في أن يحيا حياة مجتمعية وقطيعية، تجعله في حاجة إلى إبرام السلم مع الآخرين، والسعي، وفقا لذلك، إلى إلغاء حالة الحرب الشاملة والدائمة(حروب الكل ضد الكل)، ومحوها من عالمه.وإن إبرام السلم هذا ليجلب معه ما يشبه خطوة أولى نحو اكتساب غريزة الحقيقة الغامضة كاللغز. أي استتباب السلم يتم معه تثبيت وإقرار ما ينبغي أن يكون حقيقة....

    ماهي الحقيقة إذا؟ إنها حشد متحرك من الاستعارات والكنايات، والتشبيهات بالإنسان، إنها، باختصار، جملة من العلاقات البشرية، أعلي من شأنها ونقلت من مجالها، وزينت بالصور الشعرية والبلاغية، وصارت بعد طول استعمال، مثل شعب من الشعوب صلبة، شرعية قاسرة: الحقائق نسينا أنها أوهام، واستعارات فقدت، من فرط الاستعمال والتداول، جمالها الحسي الخلاب، وقطع نقدية تلاشت آثار الصورة أو الرسم المطبوع عليها، فصارت تتداول، بعدئذ، ليس بوصفها قطعا نقدية، بل بوصفها قطعا معدنية فقط."#

    ومن هنا، فنيتشه ينكر وجود أي حقيقة ما، مادامت ترتكز هذه الحقيقة على المبالغة اللغوية، والتهويل المجازي، والخوف من الموت. وهنا،إشارة واضحة إلى سخط نيتسه على واقعه المنحط، وتبرمه من القوانين والمعارف والقيم السائدة في مجتمعه الموبوء كينونة ووجودا وكونا. وعليه، فلايمكن إطلاقا القول مع نيتشه بأن الحقيقة منعدمة، وإلا أصبح هذا العالم عبثا وسخرية وعدما وتيها. وثمة حقيقتان أساسيتان: فمن جهة، هناك الحقيقة الربانية المطلقة (الحقيقة العليا) التي يتم إدراكها بالنص أولا، فالعقل ثانيا، ثم الإيمان والتسليم ثالثا. وهناك ، من جهة أخرى، الحقيقة الدنيوية النسبية (الحقيقة السفلى) التي يتم إدراكها بالعقل والتجربة معا.

Working...
X