Announcement

Collapse
No announcement yet.

الحدث الميت والحدث الهامشي والتجريب في تقنيات القص

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • الحدث الميت والحدث الهامشي والتجريب في تقنيات القص


    التجريب في تقنيات القص: الحدث الميت والحدث الهامشي


    عبد الله السالم
    * باحث وناقد قطري
    عندما نقول حديثاً أو جديداً، فهذا يدلنا بالتلازم على أن هناك قديماً، إذن هما مفهومان متقابلان في المعنى كما أنهما مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالواقع التاريخي لمرحلة محددة وليس لهما ثبات معجمي يصح تنزيله على الواقع في كل وقت، لذا فجديد اليوم سيكون قديم الغد وهكذا، إلا أن الحداثة كمفهوم أدبي مؤدلج التصق بمرحلة معينة من تاريخ الأدب الأجنبي لذا كانت الضرورة توجب تسمية المرحلة التي تليها بمرحلة ما بعد الحداثة، وفي رأيي أن سبب ذلك هو توافر الكم الأكثف من أساليب التحديث ومدارسه في هذه المرحلة أكثر مما كان في ما قبلها، بحيث أخذت شكل الثورة التي طالت كل شيء في بنية الأدب.

    إذاً فالتحديث ببساطة هو إضافة الابتكار والإبداع الحديث على الأصل القديم، وبما أننا نسمه بهذا الوصف الذي يحمل في دلالته معنى الجدة والحالية فهذا يجعله ممتنعاً على التوصيف والتحديد الاصطلاحيين، حيث إن الحديث لم يحظ بعد بالعمر الزمني الكافي ليصطلح عليه أحد، بينما عرفته جين أوستن عند تناولها له كمفهوم إيديولوجي أدبي بأنه: “حالة من التغير، ربما للأفضل”.

    لذا يبقى التحديث مجهول الماهية معلوم السمة والأثر، فكل ابتكار أدبي سواء كان في النسق أو في الصورة أو في العبارة أو في المفردة أو في الشكل أو في المضمون أو في أي شيء آخر، ما دام أنه يتماشى مع أصول الذائقة العامة ولا يخل بقوانين الأدب الضمنية، ويتصف بترك الأثر الانفعالي اللذيذ لدى المتلقي شأنه شأن كل إبداع بكر يغمر المرء بالمتعة والانبهار والبهجة، فهو تحديث وتجديد معتبر، وهو والحال كهذه مستند مستقل لإنجاح العمل الأدبي، ولذا يكرر عزرا باوند مقولته “إجعلها جديدة”.

    ما الداعي للتجديد؟


    الإنسان مجبول على البحث عن الأفضل، فهو في رحلة قديمة ودائمة ليطور أشياءه وأدواته، لذا فالتغير وتجريب الأشياء الجديدة هو فطرة الإنسان، حسناً؟ لكن من قال إن تحديث الأدب كما نرى اليوم هو نوع من الانتقال من الفاضل للأفضل؟ من يحدد هذه الأفضلية؟

    لا أحد بعينه يستطيع أن يحدد هذا منفرداً، بل الأمر عبارة عن عرف وتواضع ضمني أو صريح أحياناً، وبما أن السرد والأدب عموماً مسألة ذوقية فإنه يحكم فيه بالأغلبية، لكن الأغلبية الواعية، وهم النخبة إن شئت، أو أصحاب الرؤى، فإن كان للسرد أهل فهؤلاء أهله، لذا حين يشكل عليك أمر في السرد فالمنطق يقول: فاسألوا أهل السرد.

    حسناً، ما الداعي للتجديد إذن؟ السؤال يجب أن يكون ما المانع من التجديد؟ إذ الأصل أن الإنسان يطور كل ما حوله وهو في بحث دؤوب عن التغيير والتجديد، ولو بقي على حال واحد أكله الصدأ والموت. فالتغيير طبيعة بشرية ومطلب فني أيضاً، يقول توني بينكني: “على الفن أن يواكب من حيث الموضوع والشكل تلك الحيوية المنعشة لمجتمع تخطى التقليدية، وهو يزيح دون هوادة مخلفات الإقطاع المقيدة محرراً ليس فقط العلم والصناعة بل أيضاً الإمكانات التجريبية للذات الفردية”.

    ولا شك أن التجديد يأتي بشكل تدريجي بطيء في الأحوال الطبيعية للمجتمعات، كما أنه يأتي بهدوء وتراكم على شكل تحول غير ملاحظ في الذائقة والناس، بالرغم من وجود نماذج تاريخية عربية كان التغيير فيها صارخاً، إلا أن الملاحظ في الألفية الثالثة أن هذا الجيل، جيل الإنترنت من الأدباء العرب وأدباء الخليج على وجه التحديد قفز قفزات واسعة للتحول السريع والملاحظ من نمط قصصي سائد إلى نمط جديد، وهو بهذا التسارع والكثرة يسجل حالة من التغير الصارخ على خلاف الحالات الطبيعية للتغير الجمعي.

    وعلى الرغم من كون الطبع الإنساني معروفاً بالتغير والتطور على مستوى الأجيال خصوصاً، إلا أن هناك عينات من الناس الكبار يتقمصون دور الأب الروحي لكل كاتب قادم للتو، ويمارسون نوعاً رديئاً من الوصاية على الأدب، لذا يحاولون إيقاف الزمن عند ذائقتهم فقط، ويطالبون الكل بالسير على نمطهم فقط.


    هل الحدث من عناصر السرد أم من تقنياته؟


    الحدث من حيث الأساس عنصر من عناصر العمل السردي، وهو بهذا أحد عناصر السرد لا تقنياته. ولكن لأننا نتكلم عن التجريب والتجديد، فإن الأبواب مفتوحة أمام كل تجريب وتجديد قادم، حتى لو كان ذلك في صميم مكونات العمل السردي الأساسية مثل الحدث، وبالتالي فإن مقدار الاهتمام بالحدث في العمل السردي قوة وضعفاً يمكن أن يعد من التقنيات التي تقبل الأخذ والرد.

    والملاحظ على نتاج الألفية الثالثة في القصة العربية والخليجية على وجه التحديد اختلاط العديد من الأجناس الأدبية ببعضها، وغياب تلك الحدود العريضة التي كانت تفصل القصيدة عن القصة عن الخطابة عن المقامة ونحو ذلك. فالقصيدة تخلت عن بعض القيود الفنية واستضافت عناصر جديدة مقتربة بذلك من دائرة السرد، فسال الشعر على السرد، والسرد فعّل عناصر جديدة مثل الشعرية والقوافي والخيالات العجائبية، فانزاح إلى الشعر والمقامات والأساطير. فباتت الأجناس متداخلة يأخذ بعها من بعض.

    والسرد ومنه فن القص القصير هو إخبار عن موقف أو مجموعة مواقف، مما يتطلب عناصر أخرى لهذا الإخبار، منها الزمان والمكان والشخصية والحوار وبقية مشكلات السرد المعروفة. والناس يمارسون القص في حياتهم على نطاق واسع، يخبرون عن القصص والمواقف في يومهم عشرات المرات للأصدقاء والمعارف والغرباء وحتى الأعداء، ومع الثورة التقنية أصبح الناس يقصون القصص بالكتابة والبث الحي وحتى بالرسائل القصيرة وغرف الدردشة إضافة إلى أسلوب المشافهة التقليدي.

    والناس يميزون القصة الجيدة بناء على جودة الحدث الذي تخبر عنه، إضافة إلى جودة عناصر أخرى كوسيلة الإخبار ووضوحها ولغتها ونحو ذلك. إلا أنهم متفقون بالإجماع أن جودة الحدث من حيث قيمة الحدث نفسه أو جدته أو ندرته أو غرائبيته هو ما يميز القصة الجيدة عن الرديئة. وكلما هبط مستوى جودة الحدث توجب على القاص لإنجاح العمل القصصي الاستعانة بعوامل أخرى كأسلوب التشويق في عملية السرد أو فتح أبواب الاحتمال للتأويل أو تنشيط دور المخيلة وتضمينها القصة لتقويتها وسد ثغرات ضعف الحدث، إلى آخر تقنيات السرد المعروفة والمبتكرة.

    إذن فعنصر الحدث شرط لازم من شروط العمل القصصي، وجودة الحدث شرط لازم من شروط اعتبار الحدث حدثاً.


    ومن هنا يقع البعض في إفساد فن القصة أو إخراجه إلى فن آخر غير القصة، وسنتحدث عن هذين الشرطين مع ذكر مثال لكل واحد منهما.

    الحدث الميت


    قتل الحدث أو القص عن حدث ميت والاستعاضة عنه بالبوح الوجداني المتصل المحسوب على تقنيات الكتابة الشعرية يولد لنا جنساً أدبياً مهجناً، يصفه أصحابه مرة بالشعر ومرة بالقص ومرة بالخواطر وهكذا. والاعتراض هنا ليس على موضوع التجريب والتهجين السابق وإنما على موضوع تسمية المنتج الأدبي وتصنيفه أن شعراً أو سرداً أو غير ذلك. فالقارئ حين يذهب إلى معرض الكتاب ويختار كتاباً موصوفاً في غلافه أنه مجموعة قصصية ويدفع نقوده ثمناً لذلك سيعود إلى المنزل ليقرأ هذا الكتاب وهو منتظراً لمجموعة من القصص الحقيقية كما اتفق عليها الناس. لا أن يتفاجأ بمولود هجين ليس من القصة ولا من الشعر ولا نسب له. وبهذا يشعر القارئ أنه وقع في مصيدة الكاتب أو الناشر، وأنه مغبون.

    ومن الأمثلة على الحدث الميت في العمل السردي: “.. يثقل صدري.. وروحي تتطاير أنسامها عبر أثير هذا الجو المظلم الكئيب. ينتابني غضب أسود. لا أشعر بطعم شيء. مزكومةٌ.. تتساوى أنساب المذاقات في فمي.. وتتلخص في مذاق واحد”. (قصة “لغة الآه” لمنى خليفة الحمودي.

    وتسير القصة على هذا المنوال حتى النهاية، تصف الحالة النفسية للشخصية بطريقة تحاول أن تكون شعرية في هذه القصة. وبهذا لا أثر لأي حدث سردي يمكن الإخبار عنه.

    وهذه التقنية كما تحب الكاتبة أن ينظر إليها كذلك قد خرجت من دائرة التجريب التقني إلى الإخلال بأحد عناصر السرد الأساسية وهو الحدث عن طريق تغييبه تماماً، فتحولت القصة إلى خاطرة أو شيء آخر، لكن ليس بقصة.

    الحدث الهامشي


    وهو الحدث الروتيني البارد الذي لا يسترعي انتباه السامع أو القارئ، كالأحداث التي تحدث في اليوم العادي لشخص عادي في ظروف عادية، والناس قد ملوا منها لكثرة ما تواجههم في حياتهم اليومية فكيف بها وهي مكتوبة على الورق. مثال ذلك: “.. بعد ما يقرب من سنتين؛ عادت مباشرة اتجهت إلى غرفتها، فسريرها، .. ونامت ما اعتقدت أنه كاف لإراحتها. مرّت ساعة تكلما فيها عن كل شيء. الأم تقول: فلان مات، وفلانة..، وفلانة تزوجت، إلى آخره، وهي لا تقول سوى سماعها لأمها. وحيث إنهما قد أصبحتا وحيدتين، قررتا بيع البيت والانتقال من طنطا إلى المنصورة غريبتان هناك، كما اعتقدتا أنهما غريبتان هنا”. (قصة “تركت البيت هاربة” لمحمد المزروعي. وهنا أيضاً تسير القصة حتى النهاية مستعرضة لبعض الأحداث الهامشية في حياة امرأة انتقلت من طنطا إلى المنصورة وتزوجت بأعمى، ثم انتقلت بعد ذلك من المنصورة إلى أماكن أخرى حتى بلغت التسعين سنة، وطيلة هذه التسعين سنة لم يحدث في القصة سوى مجموعة أحداث هامشية روتينية من زواج وانتقال وعمل تجاري خفيف بدون أي حدث سردي يستحق الإخبار عنه.

    أما فيما يخص الحدث الميت فإنه ليس ثمة تقنية إبداعية تنتشل العمل من دائرة فشل القصة إلى دائرة النجاح إلا بإخراج العمل تماماً من تصنيف فن القص، والبحث له عن تصنيف آخر مناسب.

    أما فيما يخص الحدث الهامشي فإن الكاتب الجيد يوظف العديد من التقنيات المصاحبة لسد نقص حدثه العادي في القطعة السردية كتقنية التلاعب بالتسلسل الزمني أو التشويق أو الاسترداد والمقارنة في الذاكرة أو في المخيلة، وغير ذلك من التقنيات التي لا يمكن حصرها ولا حدها أيضاً.

    فالإخبار عن حدث عادي بلغة فاخرة يمنح القطعة درجة، فإذا أضاف على اللغة إجراء إبداعياً كمقارنة الحدث العادي بحدث آخر حدث في الماضي لنفس شخصية القصة أو لشخصيات أخرى في القصة أو خارجها، أو مقارنة الحدث بأحداث متخيلة في المستقبل أو في إطار الاحتمالات البعيدة فإن هذا يمنح القطعة درجة أخرى، فإذا طرز السرد بشيء من الشعر أو اللغة الشعرية منحها درجة أخرى، وهكذا حتى ينشغل القارئ بكل هذه الإضافات التحسينية عن قيمة الحدث الهابطة.

Working...
X