Announcement

Collapse
No announcement yet.

"تأملات في كتاب البحر" للشاعر الدكتور إبراهيم العاتي

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • "تأملات في كتاب البحر" للشاعر الدكتور إبراهيم العاتي



    عنوان ينطوي على إشارة فلسفية
    المساحة المشتركة بين الشعر والفلسفة

    في "تأملات في كتاب البحر"
    لندن - عدنان حسين أحمد
    صدرت عن "دار الأمير" في بيروت المجموعة الشعرية الأولى للشاعر الدكتور إبراهيم العاتي التي انضوت تحت عنوان "تأملات في كتاب البحر".
    ومَنْ يعرف الخلفية الثقافية والفكرية للدكتور العاتي لا يستغرب هذا العنوان الذي ينطوي على إشارة فلسفية يمكن أن يستشِّفها المتلّقي من فعل التأمّل الذي يقترن غالباً بالاشتغال الفكري والخوض في غابة السؤال الفلسفي، وهو، في حقيقة الأمر، اختصاصه الأول الذي انقطع إليه منذ أوائل سبعينات القرن الماضي وحتى الآن وأنجز فيه خمسة كتب مهمّة نذكر منها "الزمان في الفكر الإسلامي"، "الإنسان في فلسفة الفارابي" و"آفاق التجديد الإسلامي"، كما أصدر كتاباً نقدياً مهماً عن صديقه الشاعر الراحل أحمد الشاعر الصافي النجفي حيث ركّز في هذه الدراسة القيّمة على محورين أساسيين وهما "غربة الروح ووهج الإبداع" عند النجفي، وإضافة إلى ذلك فقد نشر العاتي الكثير من الأبحاث والمقالات والقصائد في عدد من الصحف والمجلات العربية والأجنبية.
    ولابد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن العاتي قد فقدَ عدداً كبيراً من القصائد التي كان يُفترَض أن تشكِّل المادة الأساسية لديوانه الأول حينما غادر العراق في أوائل سبعينات القرن الماضي ليبدأ مرحلة جديدة من الغربة والاغتراب عن الوطن متنقلاً بين سوريا ومصر للدراسة والتحصيل العلمي، وبين الجزائر وليبيا للتدريس في جامعاتها قبل أن يستقر به المطاف في لندن عام 1992 ليواصل مشروعه التدريسي كأستاذ وعميد للدراسات العليا للجامعة العالمية للعلوم الإسلامية بلندن.
    قبل الخوض في موضوعات هذه المجموعة الشعرية المتميزة لابد من الإشارة إلى توظيف العاتي للمساحة المشتركة بين الشعر والفلسفة، فهو على حدّ قوله لم يشعر بالصراع بين العقل والوجدان لأنهما كانا يتماهيان في بعضهما بعضاً الأمر الذي أوصل شعره إلى مرتبة الحكمة والقول المأثور في العديد من قصائد هذه المجموعة الشعرية.
    لم يقتصر هذا التماهي أو التلاحم بين الشعر بوصفه جنساً أدبياً محلِّقاً وبين الفلسفة بوصفها جنساً فكرياً متألقاً يتسيّد الفنون القولية ويبزّها في اختصاصه الدقيق حينما يتعلّق الأمر باجتراح الفكرة أو بالاشتغال على تجلياتها العميقة وتلاوينها المراوغة التي لا يمسك بها إلاّ منْ يمتلك المجسّات الإبداعية المرهفة التي تلتقط كل ما هو جديد وصادم وعصي على الترويض.
    الشكل الشعري
    لابد من الأخذ بعين الاعتبار أن العاتي من مواليد مدينة النجف التي تُعَّد مدرسة كبيرة في اللغة والأدب والتراث، ولأنها كذلك فلا غرابة أن تحافظ على التقاليد المتوارثة، وعلى رأسها "عمود الشعر"، الذي يُذكِّر المتلقي العربي تحديداً برصانة الشكل، وقوّة المضمون، وجزالة اللفظ، وجمالية الصورة الشعرية، لكن اللافت للانتباه أن شاعرنا العاتي قد كتب في معظم الأشكال الشعرية تقريباً بدءاً من قصيدة النثر، التي سيعزُف عنها لاحقاً، مروراً بقصيدة التفعيلة، وانتهاءً بالقصيدة العمودية التي انقطع إليها منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا وأخلصَ إليها إخلاصه للفلسفة التي درسَها وتخصّصَ بها علّه يشبع نهَمَهُ المعرفي ويريح ذاته المجبولة على "حُب الحكمة" والخوض في القضايا المعقدة التي تؤرِّق الكائن البشري ليلَ نهار!
    إن ما يلفت الانتباه في غالبية قصائد هذه المجموعة الشعرية هو ذَوَبان الذات في الموضوع، وتوحّد "الأنا" الفردية بـ "الكُلّ" الجمعي وهو أمر تسمح به القصيدة العمودية التي تعتمد على وحدة البيت وتعدد الموضوعات الشعرية بخلاف قصيدة النثر التي يعتمد بناؤها المعماري على وحدة القصيدة التي تعالج غالباً موضوعاً واحداً ولا تميل إلى التشظيات الجانبية التي تخطف انتباه القارئ من البؤرة المركزية للنص الشعري.
    يعتمد شاعرنا العاتي، كما أشرنا سلفاً، على كتابة القصيدة العمودية الموزونة المقفّاة. وقد وجدنا من المناسب أن نتوقف أولاً عند عدد من هذه القصائد العمودية المكتوبة على "بحر الكامل" بشقّيه التام والمجزوء، وربما تكون قصيدة "حسناء البحيرة" التي اجترحتها قريحته الشعرية في "جنييف" عام 1998 هي خير أنموذج عمودي في هذا المضمار حيث يقول في مطلعها: "قدٌ يتيهُ وبارقٌ يتوقَّدُ / وعلى شفاهكِ قبلةٌ تتوردُ / سكبَ الخيالُ على جمالكِ صورةً / تزهو ووهجُ شبابها يتجددُ". لا شك في أنَّ هذا النص الرومانسي المُحْكَم يُحيلنا إلى النصوص الشعرية الرصينة التي كتبها الشعراء الأفذاذ من طراز المتنبّي والجواهري والصافي النجفي الذين قرأهم شاعرنا الكبير العاتي وتتلمذ على روائعهم الفريدة، لكنه في هذا النص الحسّي تحديداً تتوهّج شاعريته وتزداد ألَقاً لأنه يُرينا ما لا نراه حينما يقول: " يتفتحُ العُنَّاب فوق نهودها / وبصدرها الحاني يذوب العَسْجَدُ".
    يا تُرى، هل نضّت "حسناءُ البحيرة" ثيابها لكي تتيح للشاعر أن يرى "عُنّابها"، أم أنها المخيّلة الشعرية المُجنّحة التي تلتقط ما لا يلتقطه الآخرون؟ آخذين بنظر الاعتبار أن هذا الصورة الحسيّة لا تكتمل إلاّ عندما نرى "العَسْجَد" المتلألئ يذوب على صفحة صدرها الحاني. تأخذ القصيدة بُعداً آخر حينما تهدي الحسناءُ الشاعرَ "قُبلةً حرّى" يتأبّد رحيقها على شفتيه فتغلي الدماء في عروقه وتعيد له فورة الشباب الغضّ الذي يمكن استرجاعه في مثل هذه السوْرة العاطفية التي تنتهي بضربة فنية جميلة تدلّل على قدرة الشاعر في ليّ عُنُق القصيدة بالاتجاه الرومانسي الذي يريد حينما يختتم حالته الوجدانية قائلاً ليس على لسانه، وإنما على لسان ضمير الغائب: "وأشادَ من أنوار حسنكِ هيكلاً / وسعى إلى محرابه يتعبّدُ"، وكأنَّ هذا الضمير الغائب هو الذي كتب القصيدة ودبّج صورها الشعرية الرقيقة، وليس صاحب ضمير المتكلّم!
    التماهي والاستلهام
    لابد أن نتوقف قليلاً عند قصيدة "ترنيمة مسافر" لأكثر من سبب، ففي هذا النص الشعري تتماهى الذات بالموضوع حيث يستلهم الشاعر تمرّده أو ثورته الداخلية من ثورة "سبط النبي المصطفى" الذي ارتدى حُلّة الشهادة في خاتمة المطاف.
    وقد كتبَ هذه القصيدة تحديداً لعيد مولده المبارك الذي يذكِّرنا بمواقفه الشجاعة التي نستخلص منها الدروس والعبِر العظيمة. إن ما يلفت الانتباه على صعيد الشكل أن هذا النص الموزون والمقفّى مكتوب على وفق الشكل الذي تُكتب فيه قصيدة النثر، لكنه ليس كذلك، فالنص، كما هو معروف، مكتوب على بحر الكامل أيضاً الذي يمحضه الشاعر حُباً من نوع خاص فلاغرابة أن يستعين به لكتابة أغراض شعرية متنوّعة تخص الأهل والأحباب، وأكثر من ذلك فهو يستعين به لكتابة مرثياته لأصدقائه ومحبّيه الخلّص الذين فارقوا الحياة بعد أن خلّفوا بصماتهم الإبداعية عليها مثل مرثية "في واحة الشعر" التي خصّ بها روح الشاعر المبدع الدكتور مصطفى جمال الدين، وهي مكتوبة على وزن مجزوء الكامل، ومرثية "المجد الثاوي" التي كتبها في تأبين المرحوم الدكتور جواد العبادي الذي لاقى أجله المحتوم بلندن عام 1995.
    وجدير ذكره أن العديد من أبيات قصيدة "المجد الثاوي" ترقى إلى مستوى الحكمة والأمثال المستخلصة، ولكي نؤكد صحّة ما نذهب إليه، سواء في هذه القصيدة أو قصائده الأخر، نورد الأبيات التالية: "فخلْصتَ أن العلمَ أشرفُ غايةٍ / تسمو بها نفس الفتى تهذيبا" إلى أن يقول: "لا المال يرفع جاهلاً في قدره / أو يجعل الفرد اللئيم نجيبا / لكنها الأخلاق زينة أهلها / وكفى بها للمؤمنين نصيبا".
    يحضر الوطن بقوّة في قصائد الشاعر إبراهيم العاتي ولاغرابة في ذلك فهو شغله الشاغل وهاجسه الأول والأخير، ومنْ يقرأ هذا الديوان سيلمس لمس اليد صحة ما نذهب إليه، وأكثر من ذلك فهو يتسلل حتى إلى قصائده الخاصة التي كتبها إلى فلذات كبده ويمكن أن نشير هنا إلى قصيدة "الثغر الباسم" التي خصّ بها ابنته الكريمة "آيات" التي ولِدت في فجر يوم مشرق من أيام الربيع الزاهية حيث يقول: "ناغيتِ فاخضلّت صحارى غربتي / وتراقصتْ من حولها النغماتُ / وقرأتُ في عينيكِ ذكرى موطني / يسقي ثراه دجلةٌ وفراتُ".
    كما يمكن تلمّس الوطن في قصيدة "عيناكِ موطني" التي كتبها خصيصاً لزوجته المصون التي أصبحت عيناها معادلاً موضوعياً للبلد البعيد الذي كان يحمل الشاعر بين ضلوعه الحانية أينما حلّ أو ارتحل.
    ربما يحتاج موضوع الغربة إلى مقال خاص ولعل الإشارة السابقة التي أوْردتها توّاً في قصيدة "الثغر الباسم" تكفي للتذكير بأنه شبّه قساوة الغربة بوحشة الصحارى وشدّة وطأتها على كائن مرهف الحس مثل شاعرنا الكبير إبراهيم العاتي الذي توطّن على حياة المدينة ودفء طابعها الاجتماعي الحميم.
    الإيقاع الراقص
    استعمل الشاعر إبراهيم العاتي معظم بحور الشعر العربي وأبدع فيها كما هو الحال في الطويل والكامل والبسيط والسريع والخفيف والوافر وما إلى ذلك لكنني أود الإشارة هنا على وجه التحديد إلى قصيدة "عينان ساحرتان.. ونظّارة" التي كتبها الشاعر على بحر الخبب الذي يُعّد من أعذب بحور الشعر العربي وأجملها إيقاعاً لما يتوفر عليه خفة وسرعة إيقاعية مُستقاة من خبب الخيل "ثلاث ضربات تساوي ثلاث حركات ووثبة رابعة توازي السكون" وهناك مئات، وربما آلاف القصائد التي كتبها الشعراء القدامى والمحدثون على هذا الوزن الواسع الانتشار وقد أشار أبو الحسن العروضي "إلى عذوبته في السمع، وصحتّه في الذوق" وإيقاعه الغريزي الصادر من الأعماق ويكفي أن نشير هنا إلى قصيدة الحصري القيرواني التي انتشرت انتشار العطر في الهواء حيث يقول في مطلعها: "يا ليلُ الصبُّ متى غده / أقيامُ الساعة موعده". أما شاعرنا الكبير إبراهيم العاتي فيقول في قصيدته المُشار إليها سلفاً والتي كتبها على بحر الخبب "فِعْلُنْ فِعْلُنْ فِعْلُنْ فِعْلُنْ": "أطلق من قلبي أسرارَه / وأصنعْ من شعريَ قيثاره / تتغنى بالأملِ المنشود / وتُحيي الحبَّ وتذكارَه".
    لابد من لفت عناية القارئ الكريم إلى أن الشاعر إبراهيم العاتي ينتقل بعفوية وسلاسة من موضوع شعري إلى آخر، فقد رأيناه في هذه القصيدة يتحدث عن عينين ساحرتين ونظّارة، وقد يبدو هذا الموضوع عابراً يسجّل بواسطته اعجابه الخاطف بهذه الصورة الشعرية العجلى التي هزّت وجدانه في لحظة حسيّة مكهربة إلا أنه آثر أن يخلّدها في نص شعري جميل له مكانته الجمالية ضمن سياق المجموعة الشعرية المتنوعة التي تشتمل على موضوعات وأغراض شعرية كثيرة.
    لابد من الاقرار بأن هذه المجموعة الشعرية المهمة للشاعر إبراهيم العاتي تحتاج إلى أكثر من دراسة نقدية وذلك لتعدد الموضوعات الكثيرة التي يتناولها الشاعر في قصائده والتي تتيح للناقد أن يرصدها من زوايا نظر مختلفة آخذين بنظر الاعتبار أن بعض قصائد الديوان يتمحور على الوطن والثورة والرموز الدينية والوطنية الكبيرة التي لا تغادر ذاكرة القرّاء في العالَمين العربي والإسلامي في أقل تقدير.
Working...
X