Announcement

Collapse
No announcement yet.

الكيان الشعري عند بدوي الجبل - البعد السياسي

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • الكيان الشعري عند بدوي الجبل - البعد السياسي

    بدوي الجبل

    إكتشف سوريا

    الكيان الشعري عند بدوي الجبل
    أولاً – البعد السياسي
    لم يكن بدوي الجبل قد تجاوز الرابعة عشرة من عمره حين شارك بالمرحلة الوطنية حيث كان يلقي قصائده الوطنية في النادي العربي، وكذلك هيأت له الأقدار أن يرافق الشهيدين يوسف العظمة، ورشيد طليع وغيرهما في رحلاتهم إلى جنوب سورية وشمالها وغربها، وفي تهيئة الفكر العام وتوجيهه وتقويته وتنظيمه في تلك المناطق وذلك في أدق المراحل التي كان يمر بها الوطن.
    هكذا إذن، كانت الحياة السياسية التي دخلها البدوي باكراً هي بمثابة الرحم التي وُلِدَ منها الكيان الشعري لبدوي الجبل.
    إن الكيان الشعري لبدوي الجبل لم يلقَ دراسة وافية حتى الآن، ففيه الموقف وهي الحياة السياسية وفيه المعاناة وهي التجربة الشعرية.

    إن الهندسة المعمارية للقصيدة البدوية – نسبة لبدوي الجبل – تقوم على قاعدة، تشكل البناء «الأفقي» (المادي) للقصيدة، وهذه القاعدة، أي البناء الأفقي، يشكله موقف الشاعر، فالحياة السياسية التي عاشها كانت عبارة عن سلسلة من المواقف التي اتخذها إزاء الأحداث الجسام التي شهدها وطنه الأم.
    أما البناء العمودي للقصيدة المعمارية البدوية، فقد تجلى في المعاناة، وهو البناء العمودي أو «الصوفي» أو «الملحمي» للقصيدة البدوية.
    ونستطيع أن نلمح البعدين الأفقي والعمودي في البناء المعماري للقصيدة البدوية، من خلال استثارة الحس الوطني والسعي للأهداف القومية العليا وهذا هو «الموقف» وهذا كله أتى في صورة فنية لخواطره وهواجسه ونبضات فؤاده وهذه هي «المعاناة».
    يقول خليل الحاوي: «وما كان البدوي في تلك الحقبة ميالاً إلى التغيير الوجودي والماورائي، ووطنه مكبل، والأحداث تتوالى عليه بالرق والكبت والتسيير وفعل الإرادات الأخرى الخارجية التي تمتطيه بكل عبودية، وتوشك أن تمحقه محقاً. ولقد كان فعل الوجود ذاته في تلك الحقبة فعلاً قومياً وطنياً، لأن وطنه كان رازحاً تحت وطأة الآخرين يمنعون عنه فعل الخلق والحرية».
    فلنرَ «الموقف والمعاناة» في صلب القصيدة البدوية في هذه الأبيات التي نسمعه يقولها عندما احتل الفرنسيون الشام:

    لئن خان عهد الغوطتين عصابةٌ
    ففي الجبل النائي لعصبة جِلَّقٍ
    أمينٌ على عهد الشآم كأنه

    رقدتُم وما نمنا غراراً على الأذى *** رأوا بيعهم ربحاً، وألفيتُه غبنا
    من القوم خِدنٌ لم يَخُنْ في الهوى خِدنا
    يرى، وهو قيسُ الحبِّ في جِلَّقٍ لُبْنَى
    ودنتُم لأعداء الشآمِ، وما دِنّا


    فلنسمع رأي د.شاهر امرير في هذه الأبيات، يقول: «بداية يقرر الشاعر حقيقة دونية مواقف الخونة، وخسارة بيعهم، ولا يفوته أن يعلن موقف الجبال الساحلية من المسألة الوطنية السورية، فهو متمسك بتراب الوطن، التزاماً، وعهداً، ملتف حول راية الشام حتى الالتحام عشقاً.
    وهو يميز في هذه الأبيات بين عصابة وعصبة، فمن خانوا، هم "عصابة" وهي لفظة مرتبطة في الأذهان بالسطو، والقتل، والسلب، والنهب، والخروج على قيم المجتمع، ونواميسه، أما لفظة "عصبة" فتوحي بالجماعة المؤتلفة، المنسجمة، العصبة التزام بأهداف الجماعة وتعصب لها.

    وحين وصف الجبل بـ"النائي" للدلالة على البعد الجغرافي، وليقرر أن هذا البعد مهما نأى عن العاصمة فهو ليس سبباً لنقص الوطنية، وإلا فما الذي يجعل النائين في الجبل الشامخ يتعلقون بالشام بحب عارم، لا يضاهيه إلا حب قيس ولبنى؟ وحين يقول "رقدتم" فهي تشير للذين باعوا الشام، واستمرؤوا الذل والهوان».
    وفي العام 1924 يلقي البدوي قصيدة في المجمع العلمي بدمشق بعنوان أهوى الشآم يرد فيها على دعاوى المستعمرين، ويقول فيها:
    لا تكذبُ الأممُ القوية، إنها
    ولتهنأ الأممُ القوية، إنها

    قالت، لقد بلغتكم أوطاركم *** باسمِ الحضارة، ثقَّفَت خطّارَها
    قد أدركت، ممن تخادع ثارها
    وهي التي بلغت بنا أوطارها


    نحن نرى اليوم هذه الأمم القوية في ظل القطب الواحد في عصرنا هذا، أشبه بكوكب زحل التي تشير بعض الدراسات الإيزوتيرية إلى أنه رمز لمكمن قوى السلب، فهذا الكوكب الذي يسحر الألباب بحلقاته الجميلة والأقمار التي تدور حوله، ليس أكثر من كتلة في غاية القباحة وكلها سمّ!! فالقباحة تتنكر بهيئة الجمال لكي تجذب المخدوعين بها، والشر يتنكر بهيئة الخير لكي يجذب المخدوعين به. وكما يُقال أن «الخير المحقق بطرق شريرة ليس خيراًً!!».
    إن أميركا التي يعمل في نواتها السياسية اللوبي الصهيوني، وهي تنحو إلى أمركة العالم على هواها، ونحن نرى ثقل ظلها الفظيع جاثماً فوق المنطقة العربية ينهب نفطها، ويثير الفتن الطائفية في أوطانها، لا بل تُسخّر أجهزة الإعلام في بعض هذه الدول لغاياتها تبثّ سمومها بمسميات الحضارة والعولمة والديمقراطية، وهي أبعد ما تكون عن احترام حقوق الأمم في تقرير مصيرها، واتخاذ خياراتها، وحرياتها الفكرية والروحية والاقتصادية والسياسية، وبالتالي كرامتها!!.
    ماذا لو أن بدوي الجبل كان حاضراً الآن فيما بيننا حين يقول: «باسم الحضارةِ، ثقّفَت خطَّارَها» أي ثقّفَت رماحها، ماذا لو يقوم بإحصائية عن كمّ القنابل والقذائف الصاروخية التي سقطت فوق أهل العراق، وبلادهم منذ حرب الخليج حتى الآن؟! ماذا لو يقوم بإحصائية عن كمّ القنابل، والقذائف البربرية التي سقطت فوق قرى لبنان الآمنة في حرب تموز، ماذا حتى عن القنابل العنقودية، وغيرها ممن يسمونه بالأسلحة الذكية، وتوقيع أطفال إسرائيل على الصواريخ المرسَلَة إلى أطفال لبنان؟!.
    ولاشك أن البدوي في البيت الثالث يشير، ونستطيع أن نفهم ذلك نحن الآن من خلال ما يجري، إلى ما توحيه القوى الوحشية في أنها توصِل الشعوب المستعمرة إلى أهدافها، وغاياتها، وهي التي تصل في الحقيقة إلى أهدافها وغاياتها في إخصاء الشعوب الضعيفة لكي تظل تحت رحمتها واستغلالها وسيطرتها وتحويلها إلى أدوات لتنفيذ مآربها!!.
    وفلسطين، هل أصبحت ضرب النسيان؟!. هل أصبحت في الذاكرة دموع الأطفال في كل يوم، والموت الذي يتربّص بشعبها، والتنكيل والاضطهاد، والسجون والاعتقالات، والعذاب والمذابح، التي تُرتَكَب كل يوم في حق هذا الشعب. إنّ فلسطين، وشعب فلسطين بالنسبة للعرب، يجب أن تكون مثل المسيح وصليبه بالنسبة للمسيحيين، إن هذا الشعب مصلوب بأكمله، وصليبه هو أرضه، وهو فداء وذبيحة عن الأمة العربية بأكملها، ودموعه ودمه وعذاباته مقدسة ومركز شفاعة للإنسان العربي الذي ما زال ينعم بسقف فوق رأسه!!.
    ماذا للإنسان العربي أن يتعلم من هذا الشعب طفلاً، وشاباً، وفتاة، ورجلاً، وامرأة، وشيخاً عجوزاً؟!.
    إن هذا الشعب مركز ومحور عبادة وتقديس في وجدان العربي، إنه قد أصبح رمزاً، إنه يحترق، ونحن نتفرّج!! لقد خدَّرَت قوى العدوان الوحشية أحاسيسنا، ووضعتها في قالب من جليد ينذر بعصر جليدي!!.
    فلنسمع ما يقوله «البدوي» في رثائيته «من كسعد؟» التي هي نفحة وفاء لصديقه سعد الله الجابري، نرى البعد السياسي يدخل في الرثائية كألق البرق، إنه الحدس في القصيدة، وهذا الحدس يتمثل القدس، ويقول فيها:

    مُدُنُ القدسِ كالعذارى سَبَوْها
    كالسبايا لطَمْنَ خدّاً، ومزّقنَ
    ضجّ سوق الرقيقِ في ندوة القومِ
    يعرضون الشعوب عرضَ الجواري

    غيْرَةُ الله! أين قومي؟ وعهدي *** وأرادوا لكل عذراء وغْدَا
    شفوف الحرير بُرْداً، فبُرْدا
    ونخّاسُه طغى، واستبدا
    عُرِّيَت للعيون نحراً، ونهدا
    بهم ينهدون للشرِّ نهْدا



    فلنسمع رأي د.شاهر امرير في هذه الأبيات: «الشاعر يرى في هيئة الأمم سوق نخاسة، وقد كنَّى عن هذه الهيئة بـ"ندوة القوم" فكما ندوة القوم ملتقى الناس، فإن هيئة الأمم، ملتقى الدول، ومنتداهم العالمي، لكنه المنتدى الذي تباع فيه الشعوب، وتُشرى من قبل الدول القوية، فتلك الدول نخّاسة هذا السوق، والدول الضعيفة رقيقه، ونخّاسو هذه الأسواق ظالمون، طغاة، مستبدون.
    إنه يكيل الاتهامات للدول القوية المسيطرة على الهيئات الدولية، وتسيِّر العالم وفق شرعنتها، ومصالحها، وليس وفق شرعة الحق والعدل، فهم يمارسون العسف الاستعماري بكل صنوفه، وألوانه، بروح نخّاس فقد إنسانيته، وتعامل مع تجارته كسلعة، وليس كبشر، لهم كينونة إنسانية، ومشاعر وكرامة، إنهم كالنخّاس الذي لا يهمه سوى المصلحة، والمنفعة، فيعرّي جاريته ويبرز مفاتنها صدراً، ونهداً، وجيداً، كي يغري شاريها».
    أما وبعد، فمن الجدير بالذكر أن البعد السياسي الخلاّق في حياة البدوي قد ظهر في فترتين يسميها البعض مهادنة المستعمر الفرنسي، فالأولى كانت في أوائل العشرينات، والثانية في أوائل الثلاثينات حيث كان يسكن اللاذقية، وقد صنع الفرنسيون منها وقتذاك عاصمة لدويلة صغيرة، وبعد وقت قليل أعلن انضمامه إلى «الكتلة الوطنية».
    لكنني أفهم من «المهادنة» في البعد السياسي معنى «المساومة» مع العدو، وهي مرحلة لابد من المرور بها في العمل السياسي ببعده الثوري، فإذا ما كان للعدو من القدرة والبطش ما لا حول للوطني ولا قوة به، فلابد من «السياسة» التي تأخذ منحى «المساومة» أو ما يسميها البعض «المهادنة» وهي اعتراف مؤقت بالعدو، يستطيع من خلاله الوطني أن ينهض ببعد ثوري هو العمل الخلاّق الحر.
    ومع ذلك نسمع د.شاهر امرير يقول: «لقد حاول الفرنسيون تقسيم الوطن السوري إلى دويلات من بينها دويلة في اللاذقية، لم أجد في شعره ما يثبت تأييده لها، بل إني وجدته لا يرضى حتى بالوطن السوري إطاراً، بل هو دائماً يذكر الشام، ولا يذكر سورية، ولم أجده مرة واحدة يذكر الوطن السوري، فكيف يمكن أن يرضى بدولة طائفية مساحتها بمساحة محافظة اللاذقية آنذاك؟!».
    لقد كان البدوي سياسياً في حياته وشعره، وبعبارة أخرى جعل من السياسة شعراً، وسياسته الشعرية عبرت بشكل رئيسي عن مواقفه الوطنية ضمن موقف قومي أوسع، نراه حاضراً مثلاً في قوله:
    بيت العروبة حين أسجد قبلتي *** لا طوره قصدي ولا عرفاته

    وهكذا، فإن السياسة الشعرية عند بدوي الجبل أخذت بعداً ثورياً شهد من خلاله عملاًّ خلاّقاً حرّاً. هذا العمل الخلاّق تجلى من خلال ما يسميه بول شاوول بالقصيدة – الفعل، وهذا ما يذكرنا عند سعد الله ونوس الذي آمن بالكلمة – الفعل التي جسدها في مسرحه.

    فلنسمع بول شاوول يقول: «بدوي الجبل من ضمن هذا الهاجس الوطني والقومي المحرِّض، استرسل في بثه في مجمل أغراضه، من رثاء إلى هجاء (ويسميه "حقداً" على الاستعمار والشر)، وحتى إلى الغزل، إنه الشعر السياسي بامتياز. أوَليس من هذا القبيل رثى شخصيات سورية وعربية، كرياض الصلح، وسعد الله الجابري، وإبراهيم هنانو، وفارس الخوري، ويوسف العظمة؟ أوَليس من هذا القبيل تصدى للفرنسيين بعدما اقتحموا دمشق إثر معركة ميسلون واستشهاد وزير الدفاع آنذاك يوسف العظمة؟ أوَليس من هذا القبيل، أيضاً، أن بدوي الجبل عندما راح الفرنسيون في العام 1939 يغرون أجزاء من سورية بالانفصال، ظل هو وإخوانه يذودون عن الوحدة؟ أوَليس من هذا القبيل أنه يكون قد شارك – وإن مشاركة إعلامية – في ثورة الجيش العراقي على الإنكليز؟ وبالتأكيد، دفع بدوي الجبل ثمن مواقفه، بدخوله مرات عديدة إلى السجن على أيدي الفرنسيين، إلى منافيه في كل من لبنان والعراق وجنيف وروما وفيينا؟ في هذه المعارك السياسية كلها، كانت القصيدة سلاحه، يقارع بها، ويؤجج الضمائر والنفوس. وهذا ما عنينا به القصيدة – الموقف، القصيدة – الفعل، القصيدة التي تنضم إلى الحدث لتغير معطياته».
    البعد السياسي في العمل الإبداعي عند بدوي الجبل قد اتخذ أيضاً طابعاً ملحمياً في قصائده.

    إنه ذلك البعد الأفقي الذي يتجلى في الموقف، والبعد العمودي الذي يتجلى في المعاناة، هذا البعد العمودي الذي ينبجس في دفق العاطفة، وجيشان الوجدان الذي يتمخض من خلال الحدث، فيأتي تعبيراً صارخاً عن الحدث وتأريخاً له في نفس الوقت.
    وهذا ما يعبر عنه د.نذير العظمة حين يقول: «في قصائده المبدعة صار التاريخي جمالياً، والجمالي تاريخياً، وظلت القصيدة محركة ومؤثرة، لا لأنها قصيدة وطنية، بل لأنها أيقونة شعرية، والجمال وسيلتها وغايتها في آن، وجوهرها الولاء وحب الوطن».
    وكمثال على هذا نأخذ قصيدة «إني لأشمت بالجبار» وهي تأريخ لحدث شهد احتلال الألمان لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، وحينذاك هرب ديغول رئيس الجمهورية الفرنسية إلى بريطانيا، وقد نظمها أثناء إقامته في العراق، حيث عمل مدرساً. يقول في مطلعها، وهي من بحر البسيط:

    يا سامر الحي هل تعنيك شكوانا
    خلِّ العتاب دموعاً لا غناء بها
    آمنت بالحقد يذكي من عزائمنا
    ويل الشعوب التي لم تسق من دمها
    ترنح السوط في يمنى معذبها

    تغضي على الذل غفراناً لظالمها *** رقّ الحديد وما رقوا لبلوانا
    وعاتب القوم أشلاء ونيرانا
    وأبعد الله إشفاقاً وتحنانا
    ثاراتها الحمر أحقاداً وأضغانا
    ريان من دمها المسفوح سكرانا
    تأنق الذل حتى صار غفرانا


    وفي القصيدة نفسها يندد بفرنسا، ويهزأ بها يقول:

    سمعت (باريس) تشكو زهو فاتحها
    والخيل في (المسجد المحزون جائلة)

    والآمنين أفاقوا، والقصور لظى *** هلاّ تذكرتِ يا (باريس) شكوانا
    على المصلّين: أشياخاً وفتيانا
    تهوي بها النار بنياناً فبنيانا


    إلا أن البعد السياسي عند بدوي الجبل يتجلى إنسانياً خالصاً، فهو يذكر في القصيدة نفسها فتاة أفاقت على دوي المدافع، فخرجت إلى سطح منزلها، وأجالت فلم ترَ إلا بيوتاً هدمها الفرنسيون، ودمروها، يذكر د.عبد اللطيف اليونس هذه الأبيات في القصيدة نفسها:
    أفدي المخدَّرة الحسناء روَّعها
    تطوف بالقصر عدواً وهي باكية
    تجيل، والنوم ظلٌّ في محاجره

    فلا ترى غير أنقاضٍ مبعثرة *** من الكرى قَدَرٌ يشتد عجلانا
    وتسحب الطيب أذيالاً وأردانا
    طرفاً تعهد هذه الأحلام وشنانا
    هَوَين فناً، وتاريخاً، وأزمانا


    ثم يندد بفرنسا، وعملها الوحشي، ويعلن شماتته بها، وقد تغلب عليها الألمان واحتلوها، قال:

    إني لأشمت بالجبار يصرعه
    لعله تبعث الأقدار رحمته *** باغٍ، ويوسعه ظلماً وعدوانا
    فيصبح الوحش في بُرْدَيْه إنسانا

    وقد انتشرت هذه القصيدة في العالم العربي وقتها انتشار النار في الهشيم، إلى درجة أن الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة، والذي كان مسجوناً من قبل سلطات الاحتلال الفرنسي، فوجئ بها وقد تم تهريبها إلى زنزانته في جزيرة الشيطان، حيث كان معتقلاً.

    لقد ذكرنا قبل قليل أن البعد السياسي عند بدوي الجبل قد اتخذ أيضاً طابعاً ملحمياً، أشار إليه د.خليل الموسى، وذلك من خلال النزوع إلى القصائد المطوّلات مثل قصيدة «أين أين الرعيل من أهل بدر» في مئة وأربعة عشر بيتاً، وفي قصيدته «من وحي الهزيمة» وهي في مئة وخمسة وخمسين بيتاً.
    يقول د.خليل الموسى: «إن الغضبة الملحمية لسبب داخلي تتجلى في قصيدة "من وحي الهزيمة" وهي تشكل غضبة عارمة لافتقاد البطل الملحمي الذي يقود الشعب من نصر إلى نصر، ولكن الحكام القائمين على الأمر والنهي هم الذين انهزموا في المواجهة في حزيران، وتركوا الشعب في السجون والأصفاد:

    هُزِمَ الحاكمون، والشعبُ في الأصْــــــــــفادِ، فالحكمُ وحده المكسورُ
    هُزِمَ الحاكمون، لم يحزنِ الشعـْـــــــــــبُ عليهم، ولا انتخى الجمهورُ
    يستجيرون، والكريمُ لدى الغمْـــــــــــــــــــرةِ يلقى الردى ولا يستجيرُ

    ثم هو ينذر الحكام ويهددهم ويحمّلهم تبعات جسيمة، فيقول:

    كلُّ طاغٍ – مهما استبدّ – ضعيفٌ
    *** كلُّ شعبٍ – مهما استكان – قديرُ
    وهب الله بعضَ أسمائه للشَّــــــ ـــــــــعبِ، فهو القديرُ، وهو الغفورُ

Working...
X