Announcement

Collapse
No announcement yet.

سوانح فتاة - الأديبة مي زيادة

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • سوانح فتاة - الأديبة مي زيادة

    سوانح فتاة
    مي زياده



    سوانح فتاة..
    ليس في الثلث الأول من القرن العشرين
    صوت أدبي نسائي أشجى من صوت مَي زياده.
    وليس من فكر كفكرها يلتمع فيضئ داعيا إلى
    الحرية و التقدم مجاراة لركب الحضارة في شتى الميادين و السبل.
    و هي في كلّ ما
    كتبت تجسّد طموح الأقلام المستنيرة إلى التجديد الأدبي إبداعاً في الشكل التعبيري و في المضمون الفكري ، فضلا عن أنها تجسّد طموح المرأة العربية إلى الحياة و طموح الأمة إلى الوصول في حركة العصر و بناء المجتمع.
    سوانح فتاة مجموعة من خواطر
    وآراء في الناس و الحياة و بعض مقالات كتبتها مَي في ظروف مختلفة و بناء على اقتراحمن وليّ الدّين يَكَن وإلحاح كبير من جانبه.


    الناشر

    -السانحة الأولى-

    نحن الفتيات أسيرات الأزياء،و عبدات التبرُّج ، ولُعَب الأهواء- أنكتب نحن فتيات اليوم؟

    نعم، صرنا نكتب ليس بمعنى تسويد الصحائف فحسبُ بلبمعنى الانتباه للشعور قبل التحبير ، لقد خبرنا الاختلاء بذواتنا فأقبلنا على تفهممعاني الحياة نتفرس في المشاهد بأبصارٍ جديدة، ونصغي إلى الأصوات بمسامع منتبهة ،ونشوق إلى الحرية والاستقلال بقلوبٍ طروبة، ونعبِّر عن النزعات بأقلامٍ يشفعالإخلاصُ في تردّدها. إن الأمر لكذلك. وجرأتنا هذه لم تبدُ من اللائي سبقننا،وإقدامنا لم يألفه الرجل من سوانا ، والجمهور يرقبنا بنظرةٍ خاصة تائقاً إلىتصفُّحِ نفس المرأة في ما تصِفُ به ذاتها
    و ليس في ما يرويه عنهاالكاتبون.

    وماالغرض من ذلك؟

    يزعم الجمهور إن رغبته في تذوُّق إنشاءِالمرأة لا تُعربُ عن إكبارهِ لذلك الإنشاء ، أو عن اقرارهِ بصدق الفراسة منها. وإنما لأن في كتاباتها مظهراً من مظاهر الذات النسائية العامة.

    خطوةٌ صالحةنحو تكريم الأدب النسائي ، إلا أن فيها من الظلم و غمط الجقوق ما فيها. نحن نحبُّالحلم ، و نطلب التساهل ، و نريد أن يستعان في الحكم علينا بالظروف المخففة - كما يقول سادتنا الحقوقيون.
    نريد ذلك لأننا مبتدئات. نريده لأننا مبتدئات ولأننا بنات يوم تشرق علينا شمسه نخلق أنفسنا بأيدينا ، و نكتشف الطرق غي غاباتمهجورة ، ونمهد السبُلَ بين الصخور و الأدغال لنا و للآتيات بعدنا.

    إفساحالمجال علينا عسير. فنشكرُ للحليم تغاضيه عن القصورفي عملنا و انتباهه لضآلةوراثتنا في عالم القلم- كما نشكر للناقد الكيّس ما يُبيّنه لنا من أغلاطٍ ناتجةٍ عنضعف الفتاة و قلة اختبارها. و لكنهُ لايجوز في شرع العدل و الحقيقة أن تُرمى جميعأعمالنا بالضعف النسائي و أن يطلق عليها الحكم بلا بحثٍ و مقارنةٍ.

    لقدغالى الفكرين، لا سيما بعض الذين أقنعوا نفوسهم بأنهم مفكرون؛ لقد غالى هؤلاء فيفصل المرأة عن النوع الإنساني الذي كادوا يحصرونه في الرجل. و الواقع أن كل حميّةتهزُّ المرأة انما تنطلق من النفس الانسانية الشاملة، و كلّ نقص يشوبها انما يرجعُإلى العجز البشري الشائع ، و كلُّ أئرٍ من آثار ذكائها إنما هو وجهٌ من وجوه الفكرالإنساني العام.

    احرصي على قلبك

    أرخى الشفقُ سدولهُ على الأرضِبطيئاً

    و لُفِقت حواشي السُّحُبِ بخيوط الذهب و الفِضّة،

    وتلاشى ماكان يبدو كبحيرات الياقوت و بركِ

    الزُّمرّد حيال عرشِالغُروب،

    وغشَت الأرضُ كآبةٌ ربداءُ،

    وغشَت عيْنَيكِ كآبةٌربداء؛

    أيُّ شمس تغيب فيك، أيتها الفتاة،و لماذا يشجيكِ المساء لتغشىهذه الكآبة الربداء؟

    ألا احرصي على قلبكِ،أيتها الفتاة!

    والأشعةتغازل الأزهار و توسع المياه عناقاً و تلويناً،

    والمنازلُ تسطع كحجارة كبيرةمن نور؛

    وانتعشت حميع الأشياء انتعاشَ من خرج من أزمةٍ وانفرج،

    أماأنتِ فتلوبين جائعة عطشى،

    تقولين ما يجب ألا يقال و تفعلين ما يجب ألايُفعل،

    ثم تأسفين على القول و الفعل وتعودين تلوبين-

    ووراءَ المللِ والسآمة وهيجٌ فيكِ واحتدام؛

    اخبريني ما بكِ،أيتها الفتاة!

    لماذاأراكِ عند نافذتي ترقبين ما ليس بالموجود و تشتافين ما ليس بالبادي؟

    وإذاتحولتُ عنكِ إلى مرآتي رأيتُ هناك وجهك مفجعا حزيناً؟

    أهو أملٌ غزا نفسكِفثقلُ على فؤادٍ منكِ اعتاد القنوط؟

    أم قرب تهليل الأمل يأسٌ ينتحبُ و شعورٌبالفشل طالما خالط الرجاء؟

    جميع الأشياء انتعشت انتعاش من خرج من أزمة وانفرج و أنتِ أيّ علة تضنيكِ فتلوبين و تتأوهين؟

    ألا احرصي علة قلبك أيتهاالفتاة !

    *
    جاء المساء مرة أخرى؛جاءَ المساء و تبعه الليل
    وعيناك قربالسراج جامدتنا جمود من يتأمل جثة
    فأشعر بأن شيئا فيكِ أمسى جثة

    لقداستسلمت لجمال المساء فطعنك المساء بسكين منه سريّ يقطر دما و ظلاماً

    أخضعتِنفسك لسحرِ الغروب و لم تحرصي على قلبك!

    أما الآن و قد فرطتِ به فاحرصي علىالجرح المنفتح فيه-

    احرصي على جرح قلبك ،أيتهاالفتاة!

    ذكرى قلعة بعلبك
    معبد للأسرار قام و لكن صنْعه كان أعظم الأسرار
    خليلمطران
    تحرّك القطار صباحا في محطة بيروت وهو يهدر و يزمجرُ
    و يقذف دخاناكثيفا أثقل الهواء و ترامى على صفحة الأمواج
    فعكر صفاءها . ومافتى زئيرهُالهائل كزئير الأسود يترددُ
    في جوانب الفضاء حتى كاد الصدى منه ينتهي إلى أخربةبعلبك
    هامساً لقد سبقت الآخرين لأهزأ بكِ ، يا اشباح البلى، اهزأ
    بك فينقمتي على أناسٍ يستخدمونني أنا احدى آيات الاختراع
    الحديث ليزوروك - انتِ رمالالليالي الغاديات وبقايا الأيام الخوالي !

    وما لبث أن أسرع القطار في سيرهملتوياً بين الأشجار،
    وكأن سخطه هدأ تحت قبلات نسيم الجبال فخفّزئيرهُ؛

    و تدرّج متسلقاً أكتاف لبنان يتركُ محطةٌ و يمرُّ بأخرى حتى
    وقففي محطة صوفر ، و هي أعلى نقطة فوق وادي حمّانا-
    ذلك الوادي الذي قال فيهلامرتين أنه أجمل أودية العالم
    القديم. هناك تتطوى التلال كالأقمشة الحريرة وتمتدّ لمداعبة
    أطراف الجبال المحاذية، تتناسق ينها دوائر أظلّتها الأشجار،
    وتتخللها القرى ذوات المساكن البيضاء متوَّجة بالقرميد
    الأحمر. وهناك ،هناك على الشاطئ البعيد ربضت الآكام
    كأسود تحمي بحرا بسط لديها زرقتُه الفسيحةوارتفع عند الأفق
    كمن يستمدّ من الجوّ نعمةً ما. هذا وبيروت تستوي على شفة
    البحر استواء المليكة على عرشها.

    ثم أخذ القطار ينحدر على سهول البقاع وقد قامت على
    جانبيها سلسلتا جبال لبنان و انتي لبنان كما تحدّق أسوارالدهر
    بمروج الأبدية. و بعد السير في السهل نحو ثلاث ساعات تراءى
    لنا فيعصارى النهار طيف مدينة باعال يحيط بها نطاق
    سندسي من شجر الفاكهة و الحورالرجاج، و تتعالى فوق
    المنازل منها و الحدائق أعمدة هيكل الشمس بقدودهاالهيفاء.
    أعمدة ستة هي كل ما سلم في وسط ذلك التّهدّم، وكأنها من
    أبعادِوحشتها تنادي المسافر قائلة: تعالَ انظر إليَّ أيهذا
    المارّ، فهل عرفت حزناًأشد من حزني؟

    بقيةٌ عظيمةٌ من عظمةٍ بائدة حيالها أضخم الأشجار
    أعشاب، ذاك هو شبح الماضي المحاول تخليد الأصنام
    المعبودة...و ثلوج لبنان التي رأتيوماً من مدينة الشمس أبراج
    العزّ متعالية في الفضاء، تطلّ الآن من شاهق فمالميزاب
    و ظهر القضيب مستفسرة عن سرّ هدم المعابد و الأبراج.

    منذألوف الأعوام و الثلوج تتراكم على هذه الذُّرى.
    فالشمس تشرق ثم تغيب، والصيفيأتي و يذهب الشتاء،
    وقلعة بعلبك موحشة في عظمتها المحطمة ؛ بينا ثلوج لبنانتطل
    عليها مستفهمة أيّ خطبٍ جرى و لكنها لاتفهم.
    تجسّم حزني وجثاً عند أعتاب القلعة باكياً. ولست أدري
    أبكيهناك أسفاً على أعجوبة الدهورأم اكتئابا لمشهد درجات
    أوجدتها هناك يدُالغريب.

    عند مدخل هذا الهيكل الذي ألقت أسسه شعوب شرقية
    جاء الأجنبي يضعُدرجات توصلُه إلى معابد الشرق القديم.
    مشهد أفعم نفسي غمّاً كأن هذه الحجارةثقُلت عليّ لأنها دليل
    تدخُّل الغربيّ في قديمنا وجديدنا، وعنوان طعمه فيالآستيلاء
    على بلادنا. وكان أحرى به أن يتركنا وتراب هياكلنا الغالي
    دون أنتأتي عاملة للترميم و الاضلاح- ومدنسة ما قدّستهُ
    دهور البلايا و عزّزته بلاياالدهور.
    دخلتُ أمشي الهوينا بين أكوام الأخربة و بقايا الأبنية ،
    بينالأعمدة المطروحة على الحضيض كالعمالقة و رؤوس الأسود
    المتعانقة في تهشمهاعناقاً أبديا، بين آثار شعب لاحق تختلطُ
    بآثار شعب سابق، و التراب يتراكم في كلمكان مجتمعاً في
    الأفاريز المرضضة و النقوش المحفّرة. مشيت في عالم مشوّهٍمن
    البدائع الفنية دهشة كيف سطا الزمان عليها، كأنها غابةٌ
    هاجمتها الزوابعفكسَّرت منها الأشجار، واقتلعت الأصول،
    و تركت الأغصان ملقاةً على حضيض الهواء.
    أين من هذه الضخامة و المتانة قصور عصرنا و صروحه !
    انها لتخال ألاعيبصبيانية شيدت ساعة فراغ و لهوٍ، فيها
    الحصى تقوم مقام الحجارة و الأشبار منهاتوازي الأميال.
    لقد تألّبت الشعوب على هذا الهيكل فهلجمت جدران
    مجدهِ وخرّبت بديع معالمه.
    و حوّل المسيحيون جانباً منهُ إلى
    كنيسة فشادوا المذابحعلى قوائم معابد الأصنام. ثم انقلبت
    الكنيسة و ما يحيط بها قلعة اسلامية حتىفاجأتها الزلازل
    فتخجلت منها الأسس وانهارت الجدران، ودكت ذلك العزّ
    إغاراتالطبيعة بعد أنه طغت عليه يد الانسان.
    لكن آثار المجد في بعلبك ظاهرة باقية .والنفس العصرية
    تقف متردّدة بين الهزوء و الاحترام أمام معابدآلهة خرافيةتضحكنا
    الآن اسماؤها، وتتعاقب عليها مشاعر جمة من خوف و شفقة
    وإعجاب و سخريةلتتغلب عليها عاطفة تضمُّ في رحابها قوى
    النفس جميعا، و هي الشعور بعمق السِّرالعظيم، سر البقاء
    رغم الفناء...
    وهناك على مرتفع هيكل الشمس تقف أعمدةستة حاملةً
    إفريزاً كأنّه تاجٌ مكسور تنحني تحته رؤوسها على وهدةعزّها
    المتفتت. وما انحناء تلك الأعمدة إلا رثاءٌ و تأبين ، بل هو
    التأبينالوحيد اللائق بهيكل بعلبك..
    وثلوج لبنان التي تجهل أيّ خطبٍ جرى تنظر منعلٍ إلى
    حزن الجماد الدهري و تودُّ أن تفهم علة انهيار الجدرانوالأعمدة
    والأبراج و أنى لها أن تفهم..
    تجسّم حزني وجثاً عند أعتاب القلعة باكياً. ولست أدري
    أبكي هناك أسفاً على أعجوبة الدهورأم اكتئابا لمشهد درجات
    أوجدتها هناك يدُالغريب.
    عند مدخل هذا الهيكل الذي ألقت أسسه شعوب شرقية
    جاء الأجنبي يضعُدرجات توصلُه إلى معابد الشرق القديم.
    مشهد أفعم نفسي غمّاً كأن هذه الحجارةثقُلت عليّ لأنها دليل
    تدخُّل الغربيّ في قديمنا وجديدنا، وعنوان طعمه فيالآستيلاء
    على بلادنا. وكان أحرى به أن يتركنا وتراب هياكلنا الغالي
    دون أنتأتي عاملة للترميم و الاضلاح- ومدنسة ما قدّستهُ
    دهور البلايا و عزّزته بلاياالدهور.
    دخلتُ أمشي الهوينا بين أكوام الأخربة و بقايا الأبنية ،
    بينالأعمدة المطروحة على الحضيض كالعمالقة و رؤوس الأسود
    المتعانقة في تهشمهاعناقاً أبديا، بين آثار شعب لاحق تختلطُ
    بآثار شعب سابق، و التراب يتراكم في كلمكان مجتمعاً في
    الأفاريز المرضضة و النقوش المحفّرة. مشيت في عالم مشوّهٍمن
    البدائع الفنية دهشة كيف سطا الزمان عليها، كأنها غابةٌ
    هاجمتها الزوابعفكسَّرت منها الأشجار، واقتلعت الأصول،
    و تركت الأغصان ملقاةً على حضيض الهواء.
    أين من هذه الضخامة و المتانة قصور عصرنا و صروحه !
    انها لتخال ألاعيبصبيانية شيدت ساعة فراغ و لهوٍ، فيها
    الحصى تقوم مقام الحجارة و الأشبار منهاتوازي الأميال.
    لقد تألّبت الشعوب على هذا الهيكل فهلجمت جدران
    مجدهِ وخرّبت بديع معالمه.
    و حوّل المسيحيون جانباً منهُ إلى
    كنيسة فشادوا المذابحعلى قوائم معابد الأصنام. ثم انقلبت
    الكنيسة و ما يحيط بها قلعة اسلامية حتىفاجأتها الزلازل
    فتخجلت منها الأسس وانهارت الجدران، ودكت ذلك العزّ
    إغاراتالطبيعة بعد أنه طغت عليه يد الانسان.
    لكن آثار المجد في بعلبك ظاهرة باقية .والنفس العصرية
    تقف متردّدة بين الهزوء و الاحترام أمام معابدآلهة خرافيةتضحكنا
    الآن اسماؤها، وتتعاقب عليها مشاعر جمة من خوف و شفقة
    وإعجاب و سخريةلتتغلب عليها عاطفة تضمُّ في رحابها قوى
    النفس جميعا، و هي الشعور بعمق السِّرالعظيم، سر البقاء
    رغم الفناء...
    وهناك على مرتفع هيكل الشمس تقف أعمدةستة حاملةً
    إفريزاً كأنّه تاجٌ مكسور تنحني تحته رؤوسها على وهدةعزّها
    المتفتت. وما انحناء تلك الأعمدة إلا رثاءٌ و تأبين ، بل هو
    التأبينالوحيد اللائق بهيكل بعلبك..
    وثلوج لبنان التي تجهل أيّ خطبٍ جرى تنظر منعلٍ إلى
    حزن الجماد الدهري و تودُّ أن تفهم علة انهيار الجدرانوالأعمدة
    والأبراج و أنى لها أن تفهم..
    ألا كسروا باليأسبالأقلام،وأزيلوا المداد عن الطروس،
    وأسكتوا الشفاه المتكلمة، وألجموا الأيدي عنالتحبير
    والكتابة!
    رائحة الأكفان تفوح لدى هذا التهدم الشامل و تتكشفمعاني
    القبور ، وينتشر في الهواء عطر المجامر وتُعقد غيوم البخور،
    وتعودالأيادي القديمة إلى نحر تلك الضحايا و القرابين على أنصاب
    لاشتها يدُالدهور.
    كسروا الأقلام و مزقوا الطروس ! انما هذا موقف لاتأبين
    فيه بغيرحزن الجماد ولوعة النفوس.
    أحزن الجماد لازلتَ للأفئدة مفطراً ما طرحتعِبرُ
    الزمان الجبابرة على حضيض الهوان ! ألوعة النفوس، لازلتِ
    لاذعة مابُترت سلسلة الآجال واعتلت حركة القلوب ! أآثار
    الحياة، لا زلت عالية كآمالالمنى وسواد العيون ما ذوت
    الآمال بالمتأمل و ما بيَّض سوادُ الموتِ سواد العيون ! أأعمدة
    بعلبك، لازلتِ مهشمة، صامتة، منحنية، كئيبة ما سعى
    دبيب المنى فيزوايا المهج وتمايلت أشباح الآلام و الأوجاع طيَّ
    القلوب و الصدور!
    إذاهزأ الدهر بهذه الجدران المنيعة فماذا أنتم من الدهر
    منتظرون؟ إذا مرت قدمُالدهر على هذه المتانة الحصينة
    فهرستها هرساً فماذا تعني بعد ذلك حركة قصبتكمالضئيلة و نقش
    طروسكم البالية؟ أين من المسافة موضعها و ماهو منالخلود
    نصيبها؟
    ضموا إلى شفاهكم الأقلام وإلى قلوبكم الطروس،دعوها
    تنطق يأساً و حباً باسم قلعة بعلبك. ثم حطِّموها و إن عزّت،
    و مزّقوهاوإن كانت شطراً من الأرواح.
    الزمان يتابع المسير فويلاً لتربة تدوسها قدمه! هناك تزلزل
    الزلازل، و تهدم السدود، و تطغى البحار، و هناك يشعرالانسان
    بأنهُ عبد لحظات الأقدار وأنهُ لايعرف من أسرار الأرض غير
    اسودادالليل وابيضاض النهار...
    كتبت في أواخر سنة 1911

    قتل النفوس
    رأيتهاتنظر إلى الأشجار بعينين كئيبتين وشفتاها مطبقتان
    كأن قبلة الأسف طُبعت عليهما. كانت لي رفيقة في الصغر:
    تعلمنا شهوراً في مدرسة واحدة، و درسنا أمثولة واحدةً،
    و سمعنا إرشاداً واحداً ، وكبرنا فكانت تلك العلاقة الواهية
    متينةبيننا.

    قلت ما لي أراكِ حزينة ؟

    قالت يحزننيالربيع

    قلتُ اخبريني مابكِ !

    قالت يحزنني الربيع. يحزنني أنأرى مواكبه الجميلة تسير
    في الفضاء فلا يراه البشر إلا من كوى ضيقة نُقبت فيالجدران
    الحديدية التي أقامها المجتمع حول الأرواح. ويحزنني ألا أكون
    مستقلةبكوّتي و أن يكون للآخرين حقوق عليها يفتحونها
    ويغلقونها كيفما شاؤوا لا مثلماأريد.

    قلت ماذا يحزنك ؟

    قالت يحزنني الربيع. تحزنني هذهالأزهار الزرقاء
    والصفراء والحمراء. انها على أطراف الأغصان و تبرز
    جمالهاوسط جمال الكون. انها تستنشقُ الهواء بكل ما فيها
    من قابلية وتتمتع بالحياة بكلما فيها من استعداد. فلما قُدّر
    على بني الانسان أن يكونوا دون البناتحريةً؟

    قلتُ قولي لي سبب حزنك ؟

    قالت مسألة تافهة أعادتاليّ التأمل في هذا الصباح كما
    نبهتهُ فيّ قبل الآن. لي شقيقة تقكن الاسكندريةمع زوجها-
    ولي بها ولها بي ولع عظيم فنتكاتب مرة في الأسبوع . على أن
    تمرّرسائلها تحت نظر والدي و والدتي و أخي و أختي و أخي
    الأصغر حتى تنتهي إليّبالتالي لأنني أحدث افراد العائلة سنا.
    ولا يُلقى خطابي اليها في صندوق البريدإلا بعد أن يطلع عليه
    وينتقده ذويَّ . مع أن مراسلتنا عادية ساذجة، لاأهميةلها
    إلا بكونها جزءاً من حياتنا . وليس لديّ من سرٍّ أخفيه
    ولكني أريد أنأحفظ حقي في أن يكون لديّ أسرار. وهذه
    المعاملة تعذبني منذ شهور لأنها تنمّ عنضعف ثقتهم بي وأنا لم
    افعل قط مايستوجب سوء الظن. و صرتُ أتألم كلما وردت
    إليّ رسالة لأنها تذكرني بأن في بيتنا قلم مراقبة منظم.

    ورفعت رأسهاناظرة إلى الزهرات الفرحة بأنفاس الربيع
    و أرسلت زفرة عميقة، ثم قالت معاملةكهذه تحملني على
    الشك في صلاحي و كرامتي . و قد يدفعني الغيظ والكبرياءإلى
    فعل ما لاأفعلهُ لو كان لأهلي بي ثقة. النبات حرٌّ فلماذا
    لايكون الناسأحراراً ؟

    مسألة تافهة في ذاتها . ولكنها تتكرر بين الوالدين والأبناء
    فتقضي إلى أحد اثنين : التمرد أو العبودية و كلاهما سيء. بل
    العبوديةوحدها ممقوتة و التمرد نبيل في الغالب يدلّ على القوة
    والحياة . ولكن كثيرا همالأبناء الذين يجدون ضغط الوالدين
    على حريتهم أمراً طبيعيا فلا يتألمون لأننفوسهم عقيمة قاحلة
    لاينمو فيها غير الشوك و العوسج.

    يتألف التهذيب منأعمال وحركات متتابعة مدة أعوام بين
    الآباء و الأبناء كما يتركب تمرين الأعضاءمن حركات مستطردة
    يأتيها الفرد في أوقات معينة فتكسبه خفةً ورشاقة
    وانتظاما.

    وإن لم يروّض المرء اعضاءَ ه ضعفت وأمست ضخمة الشكل
    بطيئةالحركة، و قد يذهب به الجمود إلى فقد الصحة.فما الخلل
    الذي نراه الآن في تربيتناإلا نتيجة جمود الأعضاءالمعنوية من
    نشء الأجيال الماضية ولأننا جميعاً عبيدالجهل المقيم والضغط
    القديم.

    لماذا تراقب مراسلات الفتيات ؟ سمعتُ عنرجلٍ ينهي
    شقيقتهُ عن مراسلة صديقة لها خوفاً من أن يطلع أخوها
    على تلكالرسائل ؛ ثم اتصل بي ان ذلك الرجل يظن نفسُه
    حراً أبيا (؟!) يقضي ليلُه وشقيقتههذه حول طاولة البوكر
    مع شبان آخرين وفتيات أخريات ؛ ورأيته وإياهايحتسيان
    الجعة في حانة يتصاعد فيه جوانبها لهاث السكارى؛ ورأيته فيما
    بعدداخلا بها عارية النحر و الذراعين الى المرقص لتنتقل على
    وفق الايقاعاتالموسيقية من يد رجل إلى يدآخر. فضلاً عما
    يجيزه تمديننا الحديث من مداعبةكلامية يسميها الغربيون
    فلورت ويستعملها كثيرون منا دون أن يحاولوا ايجاد
    اسم لها.
    فكيف نوفق بين النقيضين ؟ بين التساهل في قبولالعادات
    الأوربية المتفشية بيننا وبين الاستعباد الشرقي الراكد في
    مستنقعاتنفوسنا؟ ان هذا الخلل في توازن التربية يعذب
    الشبيبة ويجعلها أليفة الحيرةوالتردد جاهلة بهما قيمة الحياة.
    انما الحياة في قيمة ننسبها اليها.فكيف نهتديالى قيمة الحياة
    التي لا تبرز إلا للمنتبه المتيقظ الواثق من حريته في القول والعمل-
    كيف نهتدي اليها في هذا التناقض المبين: تناقض الضغط الشديد
    والتهورالمجازف؟.
    انما التربية ترمي الى غاية واحدة هي توسيع دائرةالحياة
    و تأهيل الفرد للسير بحذق والتصرف باعتدال بين تشعب الشؤون
    مستخرجاًوسائل السعادة والفائدة مما يحيط به. فإن لك تكن
    هذه الغاية نصب عيون الوالدينولم تثقف الناشئة على مبادئ
    التهذيب القويم فقدت آمالنا بالمستقبل القريب. وأولقواعد
    التهذيب نعرفة الواجب، وشرط معرفة الواجب الشعور
    بالحرية.
    أقولالحرية وأعنيها ، و هي ليست الاباحية كما يزعم
    كثيرون. والفرق بينهما أنللواحدة حدوداً تهدمها الأخرى
    وتتجاوزها.
    على الوالدين أن يقوموا بماعليهم نحو الأبناء ثم فليتركوهم
    وشأنهم يأتون ما يميلون اليه والضمير الحييراقبهم والخلق القويم
    يحميهم.فإن جاء عملهم بخير كان فيه تعزية وتشجيع علىالمثابرة
    و الاقدام،وإن جاء بشرٍّ كان أمثولة مفيدة ومادة اختبارٍ
    ينتفع بهافي الكوارث و الرزايا سبل العمر.
    كل امرئ يحيا حياتهُ وعليه أن يجد طريقهُبين متشعب
    المسالك، وهو مسؤول عن كل عملٍ يأتيه و يتحمل نتائجه،
    انْ فائدةوإنْ أذىً. فالفتاة التي اعتادت الانقياد لآراء والديها
    وعجزت عن اتيان عملٍفرديّ تدفعها اليه ارادتها بالاشتراك
    مع ضميرها ، ماهي إلا عبدة قد تصير فيالمستقبل والدة
    ولكنها لا تصير أمّاً وإن دعاها أبناؤها بهذا الاسم. لأن
    في الأمومة معنىً رفيعاً يسموا بالمرأة إلى الاشراف على
    النفوس والأفكار ؟ والعبدة لا تربي عبيداً. ولا خير في
    رجالٍ ليس لهم من الرجولة غير مايدّعون، ان هم سادوا
    فعلوا بالقوة الوحشية وهي مظهر من مظاهر العبودية. أولئك
    سوف يكونون أبداً أسرى الأهواء وعبيد الصغائر الهابطة
    بهم إلى حيث لايعلمون، إلى الفناء المعنوي ، إلى الموت في
    الحياة.
    تربيتنا الناقصةجعلتنا نسيء الظن في كلّ شخصٍ وفي كل
    أمرٍ. ريح سموم تهبُّ على المجتمع فتصبغالجو ومايحويه بلونٍ
    قاتم خبيث. ولو أنصف الناس لحكموا على بعضهم بعدلٍ
    وصدقٍفأراحوا واستراحوا. الخير أصلٌ في الحياة وليس
    الشرُّ شراً إلا لأننا ، ولاظلامحولنا إلا الظلام المنبثق
    من شكوكنا وأحزاننا ومطامعنا.
    احتياجنا شديدإلى مثل هذه الكلمة ثقوا بالانسان !
    أما جاءكم خبرُ ذلك العالمالألماني الذي كان يدفع إلى ابنته
    اليالغة من العمر 16 سنة رسائلها مختومة. ولمالامهُ أحدُ
    أصدقائه أجاب ثقتي بالفطرة النسائية عظيمة. لااقرأ رسائل
    ابنتيبل أعرض عليها رسائلي. و عوضاً عن أن أشحن دماغها
    بآرائي ونصائحي التي قد لاتتفق مع ظروف حياتها أسألها
    رأيها في كل ما يشكل عليّ من الأمور. فالمرأة أوفرمن
    الرجل نبلاً لأنها أقرب منه إلى سرائر الأحوال وقلب
    الأشياء.
    معهذا الرجل الحكيم أقول ثقوا بجوهر المرأة ! ثقوا
    بابنة اليوم تجدوا أبناءالغد أهلا للثقة!
    ابريل سنة 1913

    رسائلنا اليوم وبالأمس..

    بعض الأوامر السلطاانيةتستوقف نظر الأديب برشيق
    أسلوبها وبليغ إيجازها. منها الأمر الذي صدر بتعيينصاحب
    العزة محمود فخري بك (1) أميناً أول لعظمة السلطان. وما دامت
    سراي عابدين تهتم بأساليب الإنشاء فحقَّ لمحبّي الأدب أن
    يرجوا. ولوكنت رجلاً وجاز لي البحث في ما يختص بالرجال
    لتمنَّيْتُ لدواوين الحكومة أنتحذوا حذو السراي السلطانية
    فتتوب عن اللغة والأسلوب السقيمين المستعملين فيأوامرها
    ومراسلتها.
    اسمعك مزمجراً ياسيدي الرقيب، وقد اقترب قلمكمن
    جملتي هذه يقصد الفتك بها. فاضغ إليَّ غير مأمور! لا أنت
    جندي ألمانيولاأنا جندي فرنسوي ولاهذه الصفحة كنيسة


    ريمس. فكن حليماً ولا تحذف منهاشيئاً. ثم أرجو أن تذكر
    أني بدأت تلك الجملة بكلمة لو ، وهل أنتَ مَن يخفىعليه
    قول الفرنسيس يإمكان وضع باريس في زجاجة إذا ما استعملت
    كلمو لو ؟ولا أظنك محتجاً على وضع باريس في زجاحة،
    على شريطة أن تكون الزجاجة غير ألمانيةتملأ بالغازات السامة.
    وإني لموافقة على ذلك. وكل هذا الكلام أقوله لأنسيكشطب
    تلك الجملة الأثيمة- أنساكها الله !
    (1)
    حضرة صاحبالمعالي محمود فخري باشا.
    لقد تحسّن فن الانشاء في أيامنا . بالأمس كانوا يكتبون
    طويلاً دون أن يقولوا شيئاً إذ لم يكن معظم الرسائل غيراستعارات
    محفوظة وأسجاع مرصوصة. فبعد غب الشوق الأصولية
    كان مراسلك يبعث إليك بسلام،لو كانذا أجسام لملأ الأرض
    بالتمام- دون أن بترك للأرض هامشاً ! و بتحيات أزكى
    من النعامى ( أو من نَفس النعامى لا أدري) بين ورق
    الخزامى . كذلكيبدأ الخطاب بالسلام و التحيات والأشواق
    ويختمه بالأشواق والتحيات والسلام.
    أما الآن فأخذنا نكتب لنعبّر عن شيء نريد أن يفهمه مَن
    تخاطب.فإذا اطلعتعلى رسالة تيسر لك الحكم على ذوق كاتبها
    ومعارفه و درجة تربيته ومكانتهالاجتماعية.فأخذ ينطبق علينا
    مبدأ الإنشاء هو الشخص.
    غير أن أهلالذوق وُجدوا في كل آن وزمان. وبيننا كان
    المجموع ملأ صحيفة الرسالة بالمبالغةوالإغراق كانت الخاصة
    تكتب كتابة الإيجاز واليلاغة. كلٌّ منا يعرف رسالة المتنبيإلى
    صديق كان يعوده في مرضه فانقطع عنه بعد الشفاء فكتب اليه
    المتنبي يقول : وصلتني ،وصلك الله ، معتلاً، وقطعتني مبلاً.
    فإن رأيتَ أن تحبب العلة إليَّولاتكدر الصحة عليَّ ،فعلتَ
    ان شاء الله.
    وتُحسب هذه الكلمة من بدائعالإنشاء.
    لقد كان خاصة العرب أهل ذوق وكفاءة. فاحرِ بنا
    الاحتفاظ بجميلالموروث بيننا نثقف أفكارنا وأقلامنا على
    نافع المكتَسب.
    (1915)


    بين الدكتور شميل والكاتب الأمريكي
    منذ شهرين تقريبا نشرالدكتور شبلي شميل رسالته إلى العالِمَ
    الألماني هكّل، باللغة الفرنساوية، وأردتأن أعرف رأي
    الأجانب في الرسالة ومؤلفها،فبعثت بها إلى كاتب أمريكاني
    زارمصر وأحب وادينا حباً جماً.وشفعت الرسالة بتفاصيل
    عن الدكتور وأطواره الغريبةالتي تجعل له شخصيتين تكاد
    الواحدة منهما تناقض الأخرى.وأخبرتهُ أن الدكتورشميل
    غاضب على الأمريكان لأنهم لايساعدون الحلفاء على دحر ألمانيا
    وإنه يقولعنهم انهم أنانيون.فجاء الجواب وها أنا أنشره
    ضاحكة، لأنه يهمني كثيرا أنيتخاصم الرجلان و هما على
    مسافة ستة آلاف ميل بين الواحد والآخر:
    قرأتباهتمام ما كتبتهِ عن الدكتور شميل ورسالته
    إلى هكّل، وسأبعث بنسخة من هذهالرسالة إلى المستر
    روزفلت.
    يسرني وجود رجل كالدكتور شميل في الشرق لأنهذا
    الرجل لازم لهدم الأفكار القديمة التي يتقبلها الناس بلا بحث ولا
    جدال،كأن ليس لأفكارهم أهمية إلا بقدمها.أفكار يزيد في
    ثقلها صدأالأجيال ويحاول حفظهاالتعصب الذي يحيط بها بقوة
    ودقة كأنه نسج العنكبوت. فأمثال الدكتور شميليمزقون
    خيوط العنكبوت ويبيدون الصدأ وقاعدته دفعة واحدة، ولا
    بأس من هيجانالمجموع لهذه الفوضى ، فهياجه ضروري بل لابد
    منه.أمثال الدكتور هم العنصر الهادممافي الجمعيات و الأديان
    من الغلو والإفراط، وهم فاتحون الطريق للذين سيقيمونأسساً
    جديدة ملائمة لمطالب العصر ومعارفه. والآخرون لا يتمكنون
    من العمل إلاإذا عمل قبلهم الأولون.
    تعجبين لماذا لا يشيشد الدكتور شميل أثراً مكانالأثر الذي
    يهدمه.لكن لا عجب في ذلك.اذكري ديكارت تعلمي أن
    الأمرين لايُطلبان من رجل واحد.فالطبيعة وحدها
    مدمرة معمرة.
    أما مافي أخلاقفيلسوفكم من التناقض فلا بد أنه راجع
    إلى الوراثة، نامٍ بالظروف. لابدّ أن يكونالدكتور عنيف
    الطبع حادالمزاج، ولهذا الخُلُق جماله. على اني أحبالخُلق
    الهادئ الذي يترك الآخرين يتخاصمون حتى إذا ماسمع ما
    يقولونه منالحقائق والخرافات أعرض عن التافه من أقوالهم
    وتمسك بالصواب. فلا يتحول عنه، بلكلما مرت الأيام زاد به
    ثقة وحباً.
    لا أدري لماذا يقول الدكتور شميل أن الأمريكيين
    أنانيون. هل عرف حضرته بعضأبناء وطني فحكم على أمة
    لأجل أفراد، أم هي فكرة تناقلتها الألسن والأقلامفأثرت
    في فكره؟
    ما هي البينات التي تقنعه بأن الأمريكان أكثر أنانيةمن
    غيرهم ؟ أود أن أسأله إذا حلت على العالم الويلات فمن يسارع إلى
    المساعدةقبلنا، ومن يفتح قلبه و كيسه قبل أبناء أمريكا؟ كم
    من الملايين أرسلت إلىالحلفاء في هذه الحرب الطاحنة؟ غذاء
    بلجيكا وكساؤها يذهبان من وراء البحاروأمريكا ترسل إليها
    36
    مليونا شهريا. بعض السيدات من أجمل نساء أمريكاتركن
    أزواجهن و أولادهن و ذهبن لمعالجة الجرحى في ميدان القتال.
    الرجلالأمريكي أحسن زوج في نظر الفتاة الانجليزية، لا لأنه
    أناني، بل لأنه يحترمالمرأة و يعترف بمواهبها العالية و يعاملها
    المعاملة التي تستحق رقتها و سموعواطفها. أعظم المستشفيات
    في باريز أمريكية و ينفق عليها من ثروات أمريكيةفردية.
    قد يرى الدكتور شميل في كل هذا أنانية ، ولكنها أنانية
    كريمةجميلة.

    العالم الجديد جديد في كل شيء. اختباره، واعتقاده،
    وعملهوأسلوبه ، وحريته. ولكن ليس فيه الأنانية التي
    تظنون.
    تضحكين من أمريكالأنها تبعث باحتياجاتها يمنة ويسرة.
    وأنا أضحك. صحيح اني لا أريدأن أكون فيموقف الدكتور
    ولسن في هذه الأيام.ان هذا الرجل المسكين لايدري على أي
    رجليرقص بين عشرة ملايين من الأمريكان الألمان المحتجين في
    اذنه اليمنى، وباقيملايين الأمة المحتجة في أذنه اليسرى ؛ هذا
    مع حالة المكسيك الحاضرة التي تكادتشتعل اشتعالاً.
    أمريكا رغماً عن شعبها الألماني الأصل تهاجر بميلهاإلى
    الحلفاء بلا خوف ولاتردد. لا أعني الحكومة بل الشعب.
    هناك أمر لا يحتملهأمريكاني حرّ ربي على فكر الحرية و شرب
    لبنها كما شربه من قبله آباؤه- وهومهاجمة بلجيكا و غزوتها.
    هذا لن نغفره لألمانيا قط.
    قولي هذاللدكتور شميل إذا شئتِ. واسأليه أن
    لايصدق كل ما يكتبه عنّا كتّاب فرنساوانجلترا كما اني لا أصدق
    شيئاً مما يكتب عن الشرق والشرقيين. قولي له ذلكواهديه
    احترامي.
    ها أنا قلت ذلك للدكتور و أهديتك احترامهمشفوعاً
    باحترامي، يا سيدي الدكتور. أفعل ذلك مترقّبة بعض
    صواعقك عربية كانتأم فرنجية، فقد أوحشتنا كثيراُ
    نارها العذبة.

    (1915)

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
    نقلت جريدة الأخبار فقرة من هذه الرسالة

    فأرسلأحد القراء إلى الجريدة الاعتراض التالي:

    الأفكار القديمة ومراسل الآنسة مي

    مكاتب حضرةالآنسة مي الذي نشرت الأخبار شيئا من
    كلامه نقلاً عن المحروسة. لانعرف منه سوىانه مسرور من
    وجود مثل الدكتور شميِّل في الشرق لأن هذه الرجل لازملهدم
    الأفكار القديمة التي يتقبلها الناس بلا بحث ولا جدال الخ
    فنهنئ حضرةالدكتور بهذه الحظوى - ولكنا نأخذ على
    حضرة الكاتب خوضه في مثل هذا الموضوعالخطير بكلام
    خيالي شعري هو من الابهام بحيث لا يفيد إلا التضليلوامتهان
    النفس بأشرف عاطفة فيها.

    تدل القرائن على أن حضرة الكاتب يريديالأفكار القديمة
    العقائد الدينية كالايمان بإله كامل سرمدي الخ. مثلا مماتخضع له
    العقول على سموّه وعجزها عن فهم كنهه.فمثل هذه الأفكار
    على قدميتها - ثابت على أقوى الأساس والبراهين التي طالما
    احتك بها المتفلسفون و صقلتهاالأجيال فلم تزدها إلا
    إرهاقاً.
    وأنا وايم الحق لنستغرب من الكاتبامتعاضه من تلك
    الأفكار ورميه ذويها بالجهل و التعاسة وافتتانه بالآراءالحديثة
    وادعاءه لها أرجحية الثبوت و الوضوح. و نحن نرى العلماء
    يتنازعونفيها ولا يزالون ينقضون اليوم ما بنوا أمس على حين
    نراهم هم أنفسهم يزدادون كليوم تمسكاً بتلك الأفكار التي يدعوها
    حضرة الكاتب قديمة. ويجاهرون مفاخرينبتمسكهم بها
    كنيتوتون وأراجو وباستور وأمبير وغيرهم كثيرين ممن يحسبون
    أئمةفي العلوم.
    وإنا لندهش من أن مراسل الآنسة مي يحرد نفسه الآن لذة
    التمتعبمشاهدة ما تتجلى به الأفكار الحديثة من مظاهر الرقي
    و تهذيب الطباع وتلطيفالهمجية القديمة باستعمال الغازات
    السامة وطرق القرصنة وأساليب صب البلاء علىالأبرياء
    والضعفاء عما أفادت الألمان - وهم أخص مروجيها
    ودعاتها - منالقدرة التي سمت بهم إلى قتل الأسرى و الفتك
    بالأحداث والشيوخوالنساء.
    فأحر الكاتب الغيور أن يذهب إلى ميادين القتال هناك
    ويساعدالألمان في هدم معاهد تلك الأفكار القديمة ومعاقل تلك
    المعتقدات الدينية التيأثقلها صدى الأجيال كريمس وشقيقاتها.
    ولايخفى أن المجال هناك رحب لغيرته فهذهالأفكار القديمة
    تتجلى الآن بأبهى مظاهرها في فرنسا في الخنادقوالمعابد
    والمعاهد والمعسكرات حيث تقام الشعائر الدينية ويجهر الجميع
    بالصلاة . ولك يفت أصدقاء الكاتب في مصر الوقوف على شيء
    من مظاهر هذه الأفكار في وفاةومشهد الجندي لروى ومن
    كلام الكولونل موكور الذي أبّنه بألطف كلام وسكبعلى
    جراح ذويه بلسم التعزية بذكر وفاته المسيحية متزوّداً
    الأسرارالمقدسة.
    ويحسن في هذا الصدد أن نذكر ما نقل عن العلاّمة
    الافرنسي الشهيراميل اماجات الذي خسرته العلوم ونعته
    فرنسا الى العالم حديثاً وهو أحد أعضاءالجمعية العلمية في باريس
    والجمعية الملكية في لندن له المباحث الخطيرةوالاكتشافات
    النافعة في كثير من فروع العلوم الطبيعية. فهذا الفقيد لما
    اشتدتعليه وطأة المرض استدعى الكاهن وقال له: طلبتك
    لتؤهلني للحضور أمام الله. أموت مؤمناً بكل ما تعتقد به
    المنيسة الكاثوليكية....قد كان لي ديني راية، يعلمالله اني ما
    دنستها بما يشين لأجل مجد أو مقام.
    أفلا يخجل حضرة الكاتبمن امتهانه الأفكار القديمة
    والعقائد الدينية ورميه بالجهل الناس الذين يقبلونهابلا بحث ولا
    جدال. وهو يرى أمثال اميل اماجات متمسكين بها منتمين
    بكل افتخارإلى الكنيسة التي تعلمها؟
    ب.ر

    إلى حضرة ب.ر

    أشكر لحضرة معترض جريدةالأخبار اهتمامه بما نقلتُ
    عن الكاتب الأمريكي.وما كنت لأزعجه بجوابي هذالولا اني
    شعرت في رده بشيء من سوء التفاهم بيننا. فإما أن تكون
    الأخبارنسيت سهواً نقل الجملة كما هي فأستأذنتها بالاشارة إلى
    ذلك. وما أن أكون أسأتالتعريب- و هذا الأصح-
    فوجب عليّ الإصلاح قدر المستطاع.
    لست بمناقشة،لأني يوم عرّبتُ رسالة الكاتب الاجنبي لم
    أكن ناشرة إلا رأيه دون رأيي. ولا أنابمعترضة على قول
    حضرة ب.ر .ان الكاتب أخطأ إذ خاض في الموضوع
    بكلام خياليشعري . أولاً لأن الرجل ليس شاعراً. ثانياً
    لأني أضطر آنئذٍ ان أذكَّر حضرةب.ر . ان التوراة
    و الانجيل الشريفين مكتوبان بأسلوب شعري خيالي. ففي
    التوراة يفيض الشعر فيضاناً جميلاً من مزامير داؤد إلى نشيد
    سليمان، إلى سفرأيوب، إلى نواح ارميا . وأما الإنجيل فمعلموه
    بالرموز والإشارات كما أنه مملوءبالتعاليم العالية المؤدية إلى الكمال
    الاسمى . و السيد المسيح نفسه قال انهيتكلم بالرموز ويضرب
    الامثال.
    على أني أستأذن حضرته بإلفاته إلى قولالكاتب الاجنبي ان
    أمثاله (الدكتور شميل) يهدمون ما في الاديان و الجمعياتمن
    الغلو والإفراط. هذا صريح لا يحتمل تدليلاً. فهل الغلووالافراط
    يعنيان الايمان بإلهٍ أزليٍ سرمدي؟ كلا. إن هذه
    الفكرة العظيمة أمالعقائد الدينية جميعاً.إنها
    ملازمة لفكرة الخليقة ملازَمة لا تقبل انفصالاً . وسواء دعيت
    تلك العناية المثلى هو وهي كما يدعوها الاسرائيليونالقدماء،
    أم الله ،أم الطبيعة،فهي هي، و ما كان البشر إلا معددين لها
    الاسماءوالالقاب. وأصدقاء الكاتب الاجنبي يؤكدون
    لحضرة ب.ر . أن الرجل مؤمن بالله. فلماذا لا يكون الغلو
    والافراط في التجاء امرأة ضاع منها منديلها مثلاً،إلى القديس
    أنطونيوس تستحلفه بأمه و أبيه أن ينزع منديلها من أيدي
    الشياطينو يضعه في جيبها مباشرة، وذلك بمقابل بخور بكذا
    قروش تهديه اليه في الغد.ولماذالايكون الغلو والإفراط
    في التجاء السيدات المسلمات إلى الزار والمشعوذين. ولماذا
    لا يكون الغلو و الإفراط في حرق المرأة الحية قربزوجها
    الميت عند الهنود؟
    أظن أن مثل هذه الاعتقادات الصبيانية و العاداتالفظيعة
    تستحق نعت الغلو والافراط.
    بعد خطة الدفاع يتخذ حضرة ب.ر . خطة الهجومفينتقل
    دفعة واحدة من الدين إلى الحرب. واعترف بأن هذا الهجوم
    الفجائي يدهشنيمن بعض الدهشة، و هو يعلم أن لادخل للدين في
    حروبنا اليوم. نعم انهم يفتتحونالحرب باسم الله ، وينادونه
    إلى الأخذ بيدهم ، ويملقونه-وهو الرفيع عن كلّتملُّق-
    قائلين : أنت إلهنا و أنت معنا. حتى إذا ما أفنوا حياة سُمِح
    بأنتكون ، وهدموا دياراً سُمح بأن تشاد، و مزقوا أجساداً
    وسحقوا قلوباً عادوا إلىكنائسهم و معابدهم، وجثوا أمام الإله
    العظيم إله الرحمة و الحب و الإشفاق،وأنشدوا: إياك اللهم
    نعظم! ان الاديان لتبرأ من فظائع الحروب ولا تجوّزإلا
    الدفاع عن الوطن إذا هاجمه الاعداء. ولكن جميع النفوس
    لاتفهم الأديان كماهي، بل كل منا يفهم دينه حسب درجة عقله
    وميول قلبه. ولا يقتصر البشر على الايمانبالعقائد الدينية
    الأساسية بل يتعصبون لاعتقادات أخرى إضافية لم تكن إلا
    اختراع التعصب و الجهل. و كثيراً ما يستفيد رؤساء الشعب
    و الحكومات من هذاالتعصب فيشهرون الحرب، ويقودون
    الشعب المسكين إلى حيث لا أثر للدين، ولا منفعةلغير
    السياسة.
    فان استعمل الالمان وسواهم العلم وبذلوا كل ما لديهممن
    معرفة و حيلة في سبيل قهر أعدائهم ، فهل هذا يعيب العلم؟
    الطب عائد بالخيرعلى الانسانية ، فهل إذا دسّ طبيب لعليله
    السم لغرض من الاغراض فسدت منفعة الطبووجب علينا أن
    نحسبه من حيث طبيعته شراً ؟ هذا العلم الذي هو آلة شر وفناء
    يدألمانيا و غيرها الآن كان و مازال آلة خير وحياة في يد
    ألوف من الافراد و عشراتمن الشعرب. لذلك لا يتحتم أن
    يكون المؤمن جاهلاً. فالدين شيء و العلم شيء آخر. الدين
    مهذب شخصيتنا المعنوية و العلم ضرورة من ضروريات حياتنا.
    هذا للزمان وذاك للأبدية، وليس لأحدهما أن يلاشي الآخر.
    يختم حضرة ب.ر مقاله كمن يتساءلألا يخجل الكاتب
    لأنه يعتقد اعتقاد اميل اماجات؟ لست أدري ،ياسيدي،
    لأني لمأسأله بعد. ولكني أعتقد أن الدين علاقة سرية بين الخالق
    والمخلوق، أعتقد أن كلامرئ يلاقي نتيحة أفعاله و لا يتحملها
    عنه أحد ، أعتقد أن الله منح البشرحريتهم- اسمح لي أن
    أذكر الحرية بلهجة غير لاهوتية- فعلى كلّ أن يرى وجهةالخير
    أمامه ، و يعبد ربه و يخدمه كيفما شاءَ. مادام الله سامحاً بذلك
    لماذالايسمح به الناس؟
    أما الدكتور شميل الذي تفضلت و هنأته بهذهالحظوى
    فلست أعرف كيف تقبلها وإذا كان إعجاب رجل أجنبي أو
    شرقي يهمهكثيراً. ولكني أعرف أن اسمه من الاسماء التي سيفتخر
    بها الشرقيون دواماً سواءأكانوا مؤمنين أو ملحدين. لم يكتب
    ضد الدين أحدٌ أكثر من فولتر ورغم ذلك فمقامهالأدبي محفوظ
    حتى لدى المتدينين ، و يفاخر أبناء فرنسا بأن ينعتوالغتهم
    باسمه فبقولون عنها لغة فولتر.

    (1915)

    سلام الله يا مطر عليك

    قلبتُ الشطر و غيّرتُ منهُ المعنىلأنصفك، يا مطرالجوّ،
    وأثأر لك من الشاعر العربيّ. وسواء أعَناك في شعره أمعنى
    رسولاً اسمه مطر ، أم جعل الكلمة الواحدة في الشطرين
    تعنيك مرةً وتعني الرسول أخرى-فأنتَ ، يا مطر الغيوم ،
    مظلوم. و ما أظلم الشعراء يوم لايرحمون!
    و ماذنبك أنت المنفعل و إن خلناك فاعلاً- ما ذنبكَ إذا
    امتصتكالشمس من البحر بخاراً، و عقدتك في الجو سحاباً،
    ثم تفجّرت السحب و تدفقت سيولاًتروي السنابل و الاشجار،
    و تذبل الانبتة و الازهار حيناً في انتظار ربيع يحبوهامن جديد
    بنضرة الشباب و سحر الحياة؟
    وما ذنبكَ إذا أبطأ الرسول مطر فيرسالته-فلعلّ له
    في طريقه ليلى تحدثهُ؟ و ماذنبك أن لم يعُد مطر الرسولإلى
    الشاعر بجوابٍ مرضيّ من ليلاه؟ وهب انك هطلتَ قبيل
    اجتماعهما المنتظرفكنتَ بينهما حائلاً- فما ذنبك؟
    سخط الشاعر و سبَّك بالأوزان و الأسجاع علىنحو ما يكون
    سباب الشعراء؛ و لكنه إذا كان شاعراً صميماً فما لبث أنهدأ
    سخطهُ ، وفكر في شعوبٍ جائعةٍ تنتظر منك ارواء غليلها
    و ضمانةقوتها.
    ولكن لعلّ الشاعر كان مصرياً فما استطاع أن يرى فيك
    ما تراه شعوبٌليس في ديارها نيل كريم يفيض بدموع الآلهة
    فيغنيها عن منافعك وأضرارك؟
    يحق لبعض المصريين ، من جانبٍ آخر، أن يقروا الشاعر
    القديم فيقوله وليس عليك يا مطر السلامُ ، يحق لهم ذلك
    إذا ما رأوا الأحياء غيرالأوربية في هذه المدينة. والأحياء
    الأوربية و غير الأوربية من الأمور التيتسوسها مصلخة التنظيم.
    و مصلحة التنظيم- كما تعلم أو لاتعلم- أيها المطر- دائرةمن
    دوائر الحكومة. فإذا ذكرناها بغير الثناء و التعظيم و التبجيل كان
    نصيبنامنها نصيبك من شاعر ليلى-على الأقل!

    (1916)


Working...
X