إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الفيلسوف أبي العلاء المعري (973-1057) شاعر يقرأ مفكراً - د. صلاح الدين يونس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الفيلسوف أبي العلاء المعري (973-1057) شاعر يقرأ مفكراً - د. صلاح الدين يونس

    في الذكرى الألفية لأبي العلاء المعري شاعر يقرأ مفكراً

    د. صلاح الدين يونس

    في الذكرى الألفية لأبي العلاء المعري (973-1057)م انتدب حجةُ الكلاسيكية المعاصرة بدوي الجبل نفسه خطيباً عن الشعر والشعراء, فكانت مطولته التي أنشدها تربو على تسعين بيتاً, وقد تخللتها- على عادة الشعراء الإحيائيين - موضوعات مختلفة, فقد أناب عن المقدمة المعهودة بين الشاعر والمتلقي مقدمة تربط اتقائية المعري الشعرية بارتقائية الصوفية.
    وفي المطولة خطاب شعري تجاوز الخطاب الإحيائي من حيث رؤية شاعر لمفكرٍ وقراءة شاعر لتاريخ لا يعترف إلا على الفكر والمفكر. والخطاب نفسه يرتبط بالإحيائية من حيث البنية اللغوية وكأنَّ المطولة قد أُعدت للإلقاء بالأمس واليوم وغداً.
    نسي بدوي الجبل شعرية المعري واستحضر فكريته, والاستحضار ذاك فيه شيء بالغ من هجاء الحاضر يغني زمن إلقاء القصيدة (خمسينيات القرن الماضي).
    الدهرُ ملكُ العبقريةِ وحدَها
    لا ملـكُ جبارٍ ولا سفـّاحِ
    والكونُ في أسرارِهِ وكنوزِهِ
    للفكرِ لا لوغى ولا لسلاحِ
    ذَرَتِ السنونَ الفاتحينَ كأنَّهمْ
    رملٌ تناولَهُ مهبُّ رياحِ
    لا تصلحُ الدنيا ويصلحُ أمرُها
    إلا بفكرٍ كالشعاعِ صُراحِ


    يُسائل القارئ نفسه: لماذا إلحاح الشاعر على غلواء الفكر (وإقراره بتاريخيته... في حين يُقصي (سلطان القوة) عن موقعه في التاريخ؟! فالشاعر لا يقبل بالتوسط بين الحالين, إنما يميل - إلى درجة الانتماء - إلى الإقرار بتقدم المفكر على السياسي.
    فليس بعيداً أن يكون بدوي الجبل (ت 1981) تحت تأثير مناخ خمسينيات القرن الماضي, تلك المرحلة التي اتسمت بليبرالية سياسية لم تكن البورجوازية حينذاك متحداةً من القوى الاجتماعية الصاعدة, فأعلنت عن نفسها على أنها سيدة الديمقراطية البرلمانية... وتلك المرحلة كانت قد شهدت انقلابات عسكرية كانت بالمجمل تفصح عن تنازع القوى الخارجية على مواطن النفوذ في سورية والمشرق العربي... ورغم قناعتنا بأن بدوي الجبل كان منتمياً إلى تلك المرحلة بجوارحه السياسية والاجتماعية، إلا أن موقفه من فكرية المعري يتجاوز - من دون شك - الموقف السياسي للشاعر ليرى مفكراً شاعراً في موقعه التاريخي. ويبدو أنه لم ير في المعري شاعراً وحسب, ولو رأى فيه ذلك لكانت القصيدة كلها تراكماً جديداً على تراكماتٍ معهودة، لكن فطانة الشاعر انصرفت إلى ما يناسب مقتضى الحال, فالجانب الفكري عند المعري ميزه عن سياق عصره وعن عصور تلتْه..
    وهنا أستحضرُ سؤالاً من العمق, مؤداه: لماذا لم يؤثر (النثر) في سياق الشعر؟ فالحماسة ورسالة الغفران ورسائل إخوان الصفا وقصة حي بن يقظان ومؤلفات ابن سينا والغزالي وابن رشد... كلها لم تفعل في الشعر, إنما ظلت السلطة السياسية هي الفاعل الأجدى في الشعرية العربية. ولو استخلصنا من هذا مستخلصاً ما, فإنما نقر على ظن قارب الاعتقاد هو أن الشاعر العربي لا يقبل أن يصوّب لنفسه من ثقافة تغاير ثقافته. فقد صرح البحتري (897م) غير مرّة أن أبا تمام أستاذه, لكن متونه الشعرية لا تتفق مع أستاذية أبي تمام, ونستذكر هنا ما قاله الصاحب ابن عباد (ت 995م) عن مصنف ابن عبد ربه (ت 940م) العقد الفريد: (هذه بضاعتنا رُدَّتْ إلينا). والمقولة هذه لا تقرأ باتجاه واحد (وهو أن المشارقة أساتذة المغاربة - وأن المغاربة أبدعوا في التقليد). فقد نرى في العبارة تلك صورة أخرى وهي أن الصاحب لم يرَ في العقد الفريد فكراً يحمله الشعر, أو شعراً حمل فكراً, أو منهجاً لمصنف لم يألفه الشعراء أو المصنفون.
    بدوي الجبل في قراءته بالشعر - وبعد ألف عام- للمعري لم تكن قراءة شعرية, فقد وضع القادة الفاتحين والقادة السياسيين في خارج التصنيف الذي وضعهم فيه المؤرخ... وهو إذا أقالهم من مراتبهم التاريخية فإنما يُقيل أيضاً عقلية كرَّسها الشعراء، وهي أوَّلية السيف على القلم, فالمتنبي
    (ت 965م) عزز في غير موقع سيادة الفروسية الميدانية على فروسية الكلمة أو القلم، رغم ريادته للكلمة القافية وإقرار عصره وعصور تليه بتلك الريادة فهو القائل:
    أسمعِتني ودوائي ما أشرتِ بهِ
    فإنما نحنُ للأسيافِ كالخدمِ
    حتى رجعتُ وأقلامي قوائلُ لي
    المجدُ للسيفِ ليسَ المجدُ للقلمِ


    والقول السابق في سياقه الزمني يسوِّغ للشاعر موقفه, فعلى الرغم من قدرات المتنبي الشعرية لم تحقق له طموحه السياسي - فعاد إلى الواقع في إثر رحلاته الوهمية عبر الشعر، فوجد أن (البطولي) يكمن في فروسية الميدان لا في فروسية الكلمة.
    وفي مطولة بدوي الجبل خطاب إنساني نبيل ينسجم مع رؤية الشاعر للمعري, فمن موقع المعري بضمنية الشاعر إلى صريحة الرأي... ومن النادر - في الشعر الإحيائي - أن يجلو الشاعر عن نفسه... كما يجلو البدوي:
    وأنا الذي وسعَ الهمومَ حنانُهُ
    وبكى لكلِّ مُعذَّبٍ ملتاحِ
    أشقى لمنْ حملوا الشقاءَ كأنَّما
    أتراحُ كلِّ أخي هوىً أتراحي
    وودتُ حينَ هوى جناحُ حمامةٍ
    لوْ حلَّقَتْ منْ خافقي بجناحِ


    يبدو أن موقف المعري من الحياة والمرأة والسلطة أثار عند الشاعر ما لا يمكن أن يثيره موقف أو شاعرٌ آخر... فالإنتاج المعرفي للمعري يتجاوز في نوعه وكمه المألوف لشاعر أو ناثر, والسلوكيات الفردية التي سلكها تشكل نسقاً حياتياً مغايراً رأى فيه البدوي شقاء شاعر وسعادة أمة...
    أعمى تلفَّتَتْ العصورُ فما رأتْ
    عندَ الشموسِ كنورِهِ اللمَّاحِ
    منْ راحَ يحملُ في جوانِحهِ الضحى
    هانَتْ عليهِ أشعةُ المصباحِ

    والمتنبي نفسه كان قد أشار إلى الشقاء شقاء العقل... وسعادة الجهل.
    ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلِهِ
    وأخو الجهالةِ في الشقَاوةِ ينعمُ

    فالعقل هنا عقل الفرد المتجاوز للسائد والقار, ويبدو أن لكل عصرٍ أمراضه ومفارقاته, فكيف لو رأى المتنبي مطرباً عربياً معاصراً يجهل الموسيقا ولا يتحسس للكلمة الشعرية وتستوي عنده مقامات العرب والعجم, ولكنه يملك عشرات الملايين في المصارف. في حين يغادر كوادر العلم والتقانة أوطانهم ليعملوا في ظروف من الشقاء لا تُحتمل، من أجل البقاء لا من أجل الترف. وقد حضرني هنا قولٌ لنزار قباني برغم عدم قناعتي بشاعريته:
    في عصرِ زيتِ الكازِ يُحرَمُ عالمٌ
    ثوباً وترفلُ بالحريرِ قحابُ

    لكن نزاراً لم يدرك أن لاعب كرة قدم مشهوراً يملك ثروة لم يكن يحلم بها أديسون مكتشف المصباح الكهربائي الذي تنعم البشرية باكتشافه رغم انقطاع الكهرباء في بلدنا- فالانقطاع شرط ضروري للديمقراطية التي اصطلح عليها الأطلسي وحراس النفط والعثمانيون الجدد.
    وما إن يغادر البدوي موضوعاً في مطولته حتى يعود إلى (العقل)، ويبدو أنه يقع بين مؤثرين رغم تباعدهما: أبي تمام والمعري, لكنه يربط عند المعري بين العقل والعبقرية ويرى فيه ظاهرةً تتخطى المعهودات من الأشخاص والفكر... فالعالم البشري تصنعه العقول المأثزه والجمال تمنحه المرأة... لعالم لولاها لبات يباباً.
    ما أحوجَ العقلَ الحكيمَ وهمُّهُ
    وسعَ الحياةَ لصبوةٍ ومراحِ
    للعبقريةِ قسوةٌ لولا الهوى
    عصفَتْ بكلِّ عقيدةٍ وصلاحِ

    العبقريةُ والجمالُ تحدّرا
    منْ نبعةٍ وتسلسلا من راحِ

    إنها آراء الشاعر التي لا يمكن - عند التحليل التاريخي أو السياسي الركون إليها - ولكن لا يمكن التغافل عنها, فكما تحتاج الأمم إلى التقدم في الزراعة والصناعة والإنتاج العلمي تحتاج أيضاً إلى التقدم في مجال الفنون من رسم ونحت وموسيقا وشعر ورواية تؤرخ بعد أن تنتقد... وفي إثر هذا وذلك لابدَّ أن تكتشف الأمم طرائق الخلاص وتقدم للحياة رجالاتٍ في السياسة كما في العلم والفلسفة والشعر، عباقرة تعبرُ المحن بعقل ناقد نافذ يرى العالم بعيداً عن أشكال الميتافيزيقيا... وقد أشار البدوي إلى هذا:
    ما للشراعِ على العواصف حيلةٌ
    إنْ لم تصرّفْهُ يدُ الملاّحِ

    د. صلاح الدين يونس
    لن اقول كل ما افكر به00 لكنني حتما سافكر في كل ما ساقوله
يعمل...
X