إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

د. صلاح الدين أحمد يونس - بين قصيدة عمر أبو ريشة الهندوسية وأنشودة جون كيتس الإغريقية (1)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • د. صلاح الدين أحمد يونس - بين قصيدة عمر أبو ريشة الهندوسية وأنشودة جون كيتس الإغريقية (1)


    بين قصيدة عمر أبو ريشة الهندوسية وأنشودة جون كيتس الإغريقية (1)

    رسائل الحضارات الشعرية

    د. صلاح الدين أحمد يونس

    لابدّ من الإفضاء بأن ما دفعنا إلى هذه الدراسة المقارنة بين شاعرٍ عربي معروف كعمر أبو ريشة (1908 ـ 1990) في قصيدته “إلى معبد كاجوراء الهندوسي”، وبين شاعرٍ إنجليزي هو جون كيتس (1795 ـ 1821) الذي يعد الأشهر من بين شعراء القرن التاسع عشر في قصيدته “أنشودةٌ إلى أيقونة إغريقية”، هو الوقوف عند الفن الوثني، وماهية الرسائل التي يزجيها هذا الفن إلى التاريخ من بعده، بل إلى العوالم التي تقرؤه وهي ترى فيه عوالم مفتوحةً أيضاً، تنفتح بقدر أدوات القراءة، وتتجاوز الانفتاح النصي إلى التأويل إن قُرئ النص مرتبطاً بتاريخية الأعمال الوثنية الكبرى وأحلامها في الانتقال من طور المباشرة إلى أطوار الانعتاق والتواصل مع أحلام البشر التي لا تقف عند حد.

    لم يكن هذا وحده مغرياً، فقد داخلنا عميق إعجابٍ بمحاولة الشاعر الإنجليزي كيتس على المستوى الفني، وهو يقف أمام التحفة اليونانية ذات الشكل الأسطواني (فاز) وقفة المتعامل مع تاريخ الإنجاز لا مع المنجز من حيث هو منقطع الدلالة عن صانعه أو عن عصره، يمعن النظر في هذه الرسومات المحفورة على الأيقونة، فيجدها غالية الثمن التاريخي، ويجدها كذلك عالية القيمة الجمالية، وإن غلاءها وعلوها متماهيان في موضوعة واحدة. إنها الفن وهو يؤسس للتأريخ بنفسه، وكأنه ـ أي فن ـ لا يثق بالتاريخ.

    ومما دفع الشاعر كيتس ـ على اعتقادنا ـ إلى هذه المحاولة هو خشيته من الهلاك الذي يصيب اللقى الأثرية والأيقونات الناطقة رسمياً بتاريخ الحقبة اليونانية، والحقبة اليونانية تلك ليست ملكاً لليونان وورثتهم الأوروبيين وحسب، بل إنها ملك العقل البشري وهو يمر بمرحلة التأسيس، أو كما عبر ماركس “طفولة العقل البشري”، فرام تخليدها، لكن على طريقة الشاعر القادر على تفكيك اللوحات ورموزها، ومن ثم إعادة تأويل الرسوم إلى عملٍ آخر هو الشعر، فللشعر سلطانه وخلوده. “فإما أن يهيمن أو يتنحى”، “وعلى رأي مالارمية ـ إن الشعر يجبر نقص اللغات” هذا ما كان في مخيلة كيتس وهو يحيل العمل من شكلٍ مجسّدٍ على جسدٍ مادّيٍ إلى أنشودةٍ تعبر الأزمنة وتخلد خلود الإنسان وهو يتوق إلى الأجمل من المخلوق والأكمل من الخالق. الإنسان نفسه الشاعر الذي لا يقبل بتلقي إنجازات غيره كما يرى، إنما لابد أن تمر بعوالمه الداخلية، فكل مخلوقٍ. طبيعياً كان أم فنياً ما لم يلتحم بمخيلة الشاعر ويندغم بها (حالة الهارمونيزم) يبقى خلقاً ناقصاً أو غير قادرٍ على الاستمرار.

    صورة عيانية

    إن كلمات الشاعر القارئ المؤول تحافظ على التاريخ الفني كما هو (الصورة العيانية) وتنشأ صورةً أخرى أقوى من العيان إنها صورة الشعر التي تنتقل إلى ما وراء العيان.

    أما الشاعر العربي عمر أبو ريشة فقد دفعه فضوله ليتعرف على معبد هندوسي (كاجوراء) وهو يعمل سفيراً لوطنه في الهند، فقد وقف مراراً أمام هذا المعبد، وفي كل مرةٍ كان ينفر منه أكثر من المرّة السابقة، لكنه بعد أن وظف ما علمه عن الشرق القديم، وما قرأه عن العالم الوثني، وما حصله من علم تجريبي في المملكة المتحدة استطاع أن يقرأ تلك اللوحات الرخامية قراءة شاعرٍ عربي لا شاعراً إنجليزياً أو غير ذلك، فالمشاهد التي نقلها من المعابد إلى القصيدة (الأوضاع الجنسية العديدة، صور الأنوثة، صور الذكورة، تصور المدينة، الترف المعيشي، التقدم الغريزي) نقلها من دون أن يبرئ قصيدته من ذاكرته الشرقية والعربية الإسلامية، فقد ظلّت مخيلته تفرض عليه موقفاً رافضاً لما رآه، لكنّ شاعريته فرضت عليه الإعجاب والاندهاش الكبيرين بهذه الأعمال من حيث المستوى الجمالي.

    ولم يكن بطبيعة الحال على معرفةٍ ـ كما ظهر في القصيدة ـ بالعبادات الهندوسية التي تنصّ على الطقوسيّة المرتبطة حتماً بدورة الطبيعة، فالتناسل عند الهندوس ترجمةٌ لحالة الجزاء التي يلقاها واحدهم في الحياة الحاضرة. جزاءً عن مرتكباته في الحياة السابقة، (الإيمان بالتقمص)، أي أن الجسد متبدل والروح ثابتة ، فإما أن يقمّص بجسدٍ أفضل أو بأسوأ، ومن هنا لم يكن أبو ريشة قد دخل إلى عمق العالم الوثني في هذا المنحى، وهذه هي تاريخية المسألة، ولا يمكن أن يفهم العمل الفني على جدران المعابد الهندوسية إلا ضمن هذه الإشكالية، وبناءً عليه قدّم شاعرنا السوري قصيدةً جميلةً على المستوى اللغوي، ولكنها ليست نظيراً أدبياً مكافئاً لجماليات اللوحات الرخامية على المعبد، وذلك لأنه لم يستطع تقديمها كرسالة، فأديم القصيدة يفصح عن غياب الشاعر عن العلم بالعالم الوثني القائم على الوعي الأسطوري ولا سيّما عند الهندوس الذين أحصي لديهم أكثر من ألفي إله، ومن حيث طقوسيته كذلك ومن حيث هو ناتجٌ عن أسباب غير فنية بل ناتجٌ عن تقدم الإنسان في وعي الطبيعة أولاً والخروج من سلطانها إلى المستوطنات الزراعية وما نتج عنها من تفرّغ قسمٍ من البشر للعمل في الإدارة، وإحالة العديد منهم إلى العمل المباشر، ومع تقدم الزمن يتأسس المجتمع الطبقي في العهد العبودي الذي ورث المشاعية البدائية، والوعي الطبقي كان ناتجاً عن تفرّغ نخبة البشر إلى العمل بالمعرفة، وهذا ما ساعد بدوره على تقدم تلك النخب التي قدمت كثيراً من تأسيسات العلم وخاصةً في المرحلة اليونانية، فالشاعر أبو ريشة يمتلك ثقافة تراثية واضحة ولا سيّما في اللغة والشعر، وقد أضاف إليها معارف العلم التجريبي الذي درسه في الجامعة الإنجليزية.

    لقد استعاد أبو ريشة صورة الجنس في معلّقة امرئ القيس وهو ماثلٌ أمام المعبد، فقد حضر أمامه عالمان: عالم الشعر الجاهلي الذي تشخّص لديه بمغامرة امرؤ القيس مع النساء اللاتي تحدث عنهن في المعلّقة، والعالم الآخر هو الماثل أمامه (المعبد) لكنّه غائبٌ عن فكره، وباختصار فإنّ روعة الفن أبعدته عن قراءة الفن.

    وأمّا عند كيتس فلم يبعده الفن عن التحليل العقلي، لأنه سليل الذهنية الغربية التي ترى نفسها امتداداً للطور اليوناني التأسيسي وللطور الروماني اللاحق الذي بنى تاريخاً متفرداً، وهنا نستحضر مقولة الشاعر الناقد وليم وردزورث wordsoworth ت 1850: “لقد خشيت أن تغتني الطبيعة عن الطبيعة” أي إن العقل ما يزال قائماً بينه وبين الطبيعة، أي إن العقل البشري هو المتحكم بين مرحلة الإنجاز الطبيعي (خلق الله)، وبين الخلق البشري الذي يتوهم الإنسان الغربي أنه تجاوز ذلك الخلق (ألوهية الإنسان).

    ولكن لماذا أطلق كيتس على تلك الأعمال كلمة باستورال رغم أنها رسالة فن، وحضارة فكرٍ؟ رغم أن الباستورال حالةٌ فطرية ساذجة، وأما الأنشودة فإنها عملٌ بالغ التعقيد، وأما الأيقونة هذه موضوع القصيدة فهي ذات مشاهد عديدة من حياةٍ ريفية بسيطة أو مسطحة، رغم أنه أقدم على وصفها بسيليفيان مرتبطة بالغابات أي كأنها خلقٌ بكر، وأشار أيضاً إلى الأشجار والزهور والأعشاب الضارة وغير الضارة التي تزينه، وزيادةً على ذلك فقد تصوّر لها بل خلق لها موقعاً جغرافياً خاصاً أطلق عليه وديان أركاديا، وهي المجال الحيوي الجغرافي للفن الرعوي، فالحدائق في حالٍ ريفية دائمة المناخ الأسطوري، والمناخ الأسطوري هو بالضرورة مناخٌ جمالي من حيث هو أكبر من الواقع وممتدٌ بامتداد الخيال البشري، وأركاديا بشكلٍ خاص ترتبط بواحدٍ من أهم الموضوعات استمراراً وبقاءً، ألا وهو أسطورة العالم الرعوي اليوناني، وهذه الأسطورة تجسد نوعاً من ذاكرةٍ متوقفة، ولكن أين توقفت؟ لقد توقفت عند عصرٍ ذهبي في ماضٍ بعيد حيث الرعاة وهم في حالة رضا مثالية (التوحد الهارموني بين البشر والطبيعة) فمثل هذا النظام لم يوجد عياناً، وما كان له أن يوجد أبداً، لكن هذه هي طبيعة الأسطورة، إذ تقدم لنا حالةً تجيب فيها على بعض حاجات الإنسان، حالةً تقع خارج الزمان، وتقع أيضاً خارج عملية التغيير التاريخي ، وكم كانت تلك الحالة حميمةً، وكم اشتدت العودة إليها بعد مآسي الدورة الصناعية التي خلقت للإنسان آلاماً بقدر ما خلقت له نجاحاتٍ مهمة، ولا سيّما في الطور الصناعي الأول، لكن الصناعة في الطور الثاني تجاوزت تلك الآلام لتوفر جهده العضلي، وفي مرحلة السيبرنتيك وفّرت جهده العقلي واختصرت الزمن، وحققت ألوهيته الجديدة.

    التاريخ الكامل

    في بداية القصيدة أطلق كيتس على الأيقونة وصفاً مؤداه: بأنها تاريخٌ مؤرخ، وأعلن أنها بالإمكان أن تحكي حكايةً، بل تروي روايةً ليست تاريخاً كاملاً، ولكن التاريخ الكامل لا يستطيع الانعتاق منها، فالأدب الرعوي غالباً ما يصاغ بشكل سردي، وبمعنى أن حكاية الأيقونة حكايةٌ رعوية، لكن التاريخ الذي ترويه تاريخ التقدم البشري الذي يتجاوز المرحلة الرعوية، فموضوعها هم الريفيون، لكن الانتقالة الدقيقة حدثت ليس في الرواية إنما في لغة الشعر عند كيتس وخاصةً في المقطع الأول، فلم يعد يقول: “إن الأيقونة تحكي حكاية”، وإنما الحكاية الآن ذاتها هي التي ارتسمت على جدرانها. فأسطورة العالم الرعوي قادمةٌ من عالم لا زماني إلى البشر في أزمنتهم، وفي أية مرحلة من تواريخهم، بالرغم من أن الرجال والفتيان الرخاميين لم يكن لهم أي وجود عياني، فالرسام والحفّار (صنّاع الأيقونة) اختلقوا أولئك الرجال والفتيان كاختلاق الشاعر لعوالمه أو الروائي لأبطاله، لكن الاختلاق ذاك لم ينقطع عن مسوّغات وجوده.

    تجميد اللحظة

    لقد أقام كيتس المقطع الأول والثاني على نظام البارادوكس paradox “الطباق” أي تجميد اللحظة قبل أن يمرّ عليها زمنٌ جديد، وهنا لا يستطيع السابح أن يستحمّ في مياه النهر مرتين، لكنّ الشاعر ومن قبله الصّانع جعل المستحمّ يحقق مقولةً من مقولات الديالكتيك: وحد الانقطاع والاستمرار، فالحالة السكونية تحكي تاريخاً له منطقه الخاص (حقيقة الفن)، فمفردات الطبيعة في حالٍ من العذرية لم تلوّث بما هو مصنوعٌ من قبل الإنسان الذي يغريه التدخل في مفردات الخلق الأول، على عكس الكاتب الروائي الذي يزعم دائماً أن أبطاله يقودون أنفسهم إلى مصائرهم وخاصةً في روايات الأدب العالمي كما عند دوستوفيسكي في الإخوة كرامازوف، لكنه يعيش مع أبطاله، فكلٌ منهم يستقل عن المؤلف ويكتب عن نفسه، من دون إحساسٍ من المؤلف أنّه هو الذي يحدد مصير الشخوص والأبطال، إنها في حالٍ من البراءة أيضاً إنها صامتة، لكنك ـ كقارئٍ ـ تسمع مزامير رعاة، فالذاكرة الفردية هنا تنوب عن ذاكرة التاريخ في الأيقونة، إذاً عليك أن تسمعها بخيالك، إن كانت خيالاتك عاشقةً للفكر، بل عابدةً للجمال Worshipper، إن كنت قادراً على قراءة الشعر وهو في الوقت نفسه يقرأ الأعمال الفنية الإشكالية الكبرى، ويذكرنا الموقف هذا بميلتون وفقدانه للبصر، إذ نظر بطريقة النقد السيّري “يضيء القصيدة، لكنه ـ بعد أن بلغ الأربعين ـ صار ضريراً، وبعد العمى يرى في الحلم زوجته، ثم انتهى الحلم بعد اليقظة فعاد إلى الظلام، والشعر لا يكون إلا ضوءاً. أو مع الضوء. فالشعر يقدّم ما هو ذهبي” بل ما هو خالدٌ.

    وشاعرنا كان قد كتب مقالةً يرد فيها على البيوريتان تحت عنوان “دفاعٌ عن الشعر” Apologo of Putry فالطبيعة في الواقع لا تستطيع أن تقدم واقعاً كما هو جميلً في خيال الشعر، فالشعر يعطي الطبيعة جمالاً وليس العكس، وهنا يشير إلى مسألةٍ جوهرية في قراءة الأنجلوساكسون للشعر “خلود الروح بالفن”. أي الجسد يصبح عبئاً على الروح، إن لم يكن الجسد مهيئاً لصناعة متطلبات الروح، فثمة شرخٌ بين متطلبات الروح وقصور الجسد، لا يردم إلا بالانسجام الهارموني بين الطرفين ولكن بوسيلةٍ واحدة هي “الفن” يقول وهو يتصور نفسه متقمَّصاً: “أنا لا أختار جسداً فانياً، فدائماً أختار عملاً فنياً أتجسد فيه” وبهذا يشير إلى مشكلة البقاء. الخلود... وهو الهاجس عند البشر منذ الخلق الأول، فلم يجد ما هو أبقى من الكلمة، ليس الكلمة الإجرائية طبعاً، إنما الكلمة الشعرية.

    أما الإنجليزي ييتس صاحب النقلة النوعية للشعر ـ خاصةً في موضوع خلود الفن ـ إلى العرفانية، أي تحولات الروح، من الرومانسية الإنجليزية عبادة الجمال كما ادعى ماثيو أرنولد الشعر: “هو الدين الجديد” بل اللاهوت الجديد، وأما الأسطورة الجديدة عند الرومانسيين فهي من نوع الحنين إلى الماضي الذهبي أي إلى الطور اليوناني الذي وضع أسس العلوم كلها وكانت البداية في انتقالته من الميتوس إلى اللوغوس.

    ولقد أثار كيتس مسألة المزامير، مزامير الرعاة، فلم يذكر الصانع لأنه مشغولٌ بالمرحلة نفسها، من حيث هي مرحلةٌ خالدة أي المرحلة اليونانية منذ القرن التاسع قبل الميلاد، لكن المهم كما يبدو هو الرسالة التي تؤديها الأيقونة.... حقيقتها، فالفن الخالد ذو قدرة على التخليد، وهذا ما رأيناه قد بدأ مع وليم شكسبير ت 1616، تحديداً في الشعر، فثمة شكسبيران: المسرحي والشاعر، فقد كتب مائة وخمسين سوناتاً وقد أكد دنتكس أنه “لا تماثيل السياسيين ولا الأمراء ولا الملوك ولا الصروح الرخامية الضخمة سوف تعيش أكثر من هذه القصيدة التي أكتبها، فالخلود للفن. للكلمة الشعرية، وسوناتة الشعر تحدى بها شكسبير الزمن والحب، والحب الذي يوصل إلى الخلود يتحدى الزمن أيضاً.

    وفي المقطع الثالث: أعاد الحديث عن خلود الأحياء خلوداً له خصوصيته في عوالم الفن، لكنه أكد على موتها في عوالم الطبيعة العضوية، فالرعوية التي أتى على ذكرها هي رعوية الشعر في جوٍّ من المثالية، يشبه ـ إلى حدٍّ لا يصل التطابق ـ وضعية آدم قبل حادثة السقوط من الجنة، وتلك الحادثة لم ترد في الشعر الغربي المعاصر ـ وخاصةً بعد القرن السابع عشر ـ إلا على أنها بنية أسطورية تساعد على أسطرة العوالم الشعرية المختلقة، أو إعادة النظر فيما تركه الإرث الغربي في الطورين: اليوناني والروماني من أعمالٍ ما تزال قابلةً للتأسطر.

    مسحة الحزن

    وأما مسحة الحزن التي بدأت مع الرومانسية في إثر التحول الصناعي الثوري وخاصةً فيما أدت إليه من انقلابات اجتماعية فإن ظاهرة الحنين إلى الماضي اليوناني قد وجدت لها مستقراً عند الشاعر الإنجليزي وخاصةً جون كيتس، وهنا يكمن الخلاف الجوهري بين الرومانسية الفرنسية والرومانسية الإنجليزية.

    وقد دفع الشاعر الأمريكي والت ويثمان بالرومانسية الإنجليزية إلى الحدود اللانهائية، مما عمق الخلاف على فهم الرومانسية وعلى أدواتها وعلى توظيفها بين شطري الأدب الغربي: الشطر اللاتيني والشطر الأنجلوسكسوني.

    فالواقع يفرض على الشعر والشاعر الارتحال من مناخ الشعر القائم ـ رغم واقعية الحياة وبراغماتيتها ـ منه إلى عوالم الأسطورة، فتلك عوالم تكون فيها الفجوة بين الإنسان والروح محدودة، وهذا ما نراه جلياً ممتداً لدى الرومانسيين كلهم، وكذلك نراه ظاهراً مهيمناً عند الشعراء الفيكتوريين، فالإنسان اليوناني لم يكن عن عوالمه مغترباً، وذلك لأن العالم اليوناني في القرون الأولى التي سبقت الميلاد كانت ترث الشرق الأسطوري، ونعني به الآن الشرق السوري الكبير، وفي مرحلةٍ لاحقة نعني به ما وصل إلى اليونان من الإرث المصري الوثني. وقد شكل الإرث السوري والمصري المقدمات الأولى لانطلاقة المرحلة اليونانية، فلذلك كانت العوالم الأسطورية قريبة المتناول من الإنسان اليوناني ولا سيّما النخبة التي تفرغت للإنتاج الفكري في ذلك العصر العبودي الذي كان انقسامه بين نخبةٍ متفرغةٍ للكشف العلمي، وبين كتلةٍ كميةٍ تفرغت للعمل العضلي ضرورياً، والضرورة تلك كانت من طبائع التاريخ وجدله مع الإنسان والطبيعة.

    فإذا كان الشاعر اليوناني منتمياً إلى العصر الأسطوري وفي الوقت نفسه يحاول الخروج منه في إثر التقدم في العلوم التجريبية ولا سيّما بعد القرن الرابع قبل الميلاد (فيثاغورث، تالس، أرخميدس)، فإن إنسان العصر الفيكتوري وشاعره قد قفزا قفزةً بعيدةً في الخيال، في إثر النجاحات العلمية وما طرأ في إثرها من نجاحات مادية، مما جعل الحياة الغربية وخاصةً في العصر الفيكتوري حياةً واقعيةً اشتدت فيه الأزمة الروحية بين الشعر وإنجازات الصناعة، ومن هنا انبثقت فكرة الاغتراب، ونلحظ هذا جلياً عند الشاعر الإنجليزي الشهير ماثيو أرنولد ولا سيّما في قصيدته شاطئ دوفر، ونلحظ ذلك أيضاً واضحاً في “سكولار جيبسي”، حيث وصلت الثورة الصناعية ـ في مآسيها ـ إلى الذروة، وظل الأمر قائماً حتى تقدم النقد التاريخاني في إثر النزعة التطورية التي عمت الذهنية الغربية كلها بعد نجاحات داروين ت 1882، الذي أسهم من خلال حديثه عن عملية التطور في الكائنات الحية وعن تلازمها مع الانقلابات في الطبيعة، وعلى أن الأقوى هو الأبقى، والأبقى هو الأصلح، في وضع قاعدةٍ في التفكير الغربي كله لعملية الشك الديني التي لم تكن مفاجئةً أو منبثقة من لحظة تاريخية حاضرة، إنما كان الفكر الغربي يعيش تمرحلاتٍ غنية بدأت منذ القرن الثالث عشر إلى أن بلغت أوجها في القرن السادس عشر حيث أفصح عنها المفكر مارتن لوثر في حركةٍ تدعى حركة الإصلاح الديني.”متى ابتدأ عصر النهضة ومتى انتهى؟ بالطبع فإن الكثيرين يطابقون بين عصر النهضة والقرن السادس عشر... فالواقع أنه ابتدأ منذ النصف الثاني من القرن الرابع عشر، واستمر حتى بداية القرن السادس عشر وظهور ديكارت والثورة الغاليلية”.

    سبق نوعي

    ولو دققنا في رؤية الشاعر كيتس المبكرة للأعمال الفنية الخالدة وفي بحثه المحموم عن تخليدها بحضارة الكلمة الشعرية لوجدنا أنه قد حقق سبقاً نوعياً في الخيال الغربي، بل سبقاً آخر في الشك الديني الذي كان يجب أن يتأسس في العلوم الإنسانية أيضاً بعد أن تأسس في العلوم التجريبية، ورغم حداثة سنه، ورغم إعلانه أن الجمال هو غايته فيما يقوم به، إلا أنه كان متأثراً بمناخ القرن التاسع عشر ورؤيته للعالم رؤيةً تشكل انقطاعاً عن العوالم الأسطورية وتاريخها، لكنه ـ أي القرن التاسع عشر ـ يبني أسطورته الجديدة وهي الكشف عن قوانين الطبيعة والتقدم من دون حدود في علوم الطبيعة والفيزياء، ولم تكن الأسطورتان: أسطورة العوالم القديمة وأسطورة القرن التاسع عشر بمنفصلتين الانفصال كله، بل إن الأسطورة الأوروبية الجديدة وليدة الأسطورة اليونانية القديمة، فالقرن التاسع عشر يطرح الإشكالات الكبرى بشكل مفتوح، ثم يترك الاحتمالات العديدة قائمة، ومن هنا كانت شاعرية كيتس شاعريةً احتمالية.

    والشعرية الاحتمالية متوافقة مع انفتاحية علم الفيزياء الذي أسسه فرانسيس بيكون (ت 1626) عندما أزاح الصورة اللاهوتية للكون وأحل الصورة الفيزيائية محلها، وقد نتج عن هذا انحسار الرؤية الكنسية للعالم في عمليةٍ تاريخيةٍ أُطلق عليها فيما بعد الكشوف الجغرافية.

    وقد ترافق الشك الديني وما نتج عنه من انقسامٍ في المؤسسة الدينية الكنسية مع نتائج الثورة الصناعية، مما أسهم إلى درجة الإغناء في تقدم عقلية الشاعر الغربي وقراءته للعالم الجديد قراءة مختلفة، فقد أقدم فيتر جيرالد على ترجمة الشاعر الفارسي عمر الخيام 1831، ولم تكن تلك الترجمة عادية في تاريخ الأدب الإنجليزي، إنما كانت باعثاً مهماً على إغناء الأدب الإنجليزي في نزعة التأمل ومسحة الحزن، والحزن الذي أشاعه الخيام في الأدب الإنجليزي غير الحزن الذي أشاعته نتائج الانقلاب الصناعي، لكن في الوقت الذي أخذ كلٌّ منهما يعلن عن نفسه، كانت النتائج متقاربةً مما أسهم في تأسيس فكرتي: العصيان والالتزام، فتساؤلات الخيام الوجودية أفصحت بدورها عن التوتر بين متطلبات الجسد البشري وبين أوامر الإله، ومن هنا كانت ظاهرة الحزن طاغيةً في أعماله، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش خارج عصره، ولا يستطيع أن يعيش من دون معتقد ديني، ورغم تلك التساؤلات الوجودية فقد ظلَّ الخيام عالي اليقين بالله عميقه.

    أما الفيكتوريون فقد فقدوا اليقين بالله إلى درجة القطيعة، فصار الإنسان يحلُّ نفسه محلَّ الله، إذ لم يعد يعتقد بإلهٍ غير موجود عياناً، فالماديّة الصناعية أرخت بثقلها على التفكير الفيكتوري، وكذلك الوضع السياسي الذي بدأ يعطي الإنسان وجوداً نوعياً، ومن هنا كان تفكير الشعراء الفيكتوريين تفكيراً وجودياً، لكن الشاعر منهم وجد نفسه وحيداً منقطع الأمل، وما بين الانقطاع عن الأمل وعن الله. من جهة والتواصل مع العصر الجديد من جهة أخرى كانت العقلية الشعرية الجديدة.
يعمل...
X