إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

من كتاب البعد الخامس 1-1- الدكتور طالب عمران

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • من كتاب البعد الخامس 1-1- الدكتور طالب عمران

    البعد الخامس
    تصميم الغلاف للفنان: أيمن اسمندر
    طالب عمران
    البعد الخامس
    * رواية من الخيال العلمي *

    من منشورات اتحاد الكتّاب العرب
    2000

    لا شيء يتكرّر في حياة الإنسان، ما ذهب لن يعود، اللحظات التي يعيشها تنقضي ولا رجعة إلى الماضي.. للزمن اتجاهه الإيجابي، نحو الأمام، وهو اتجاه واحد ليس لـه إياب…
    نحن في هذه اللحظة نختلف عمّا سنكون بعد ساعة لأنه سيمر علينا ساعة سيتغيّر فيها مكاننا الفيزيائي، يتغيّر فيها موضع الأرض في الفضاء، وموضع المجموعة الشمسيّة أيضاً وموضع المجرة..
    ربما كانت ساعة لا شيء في عمر الكون.. لو حسب الإنسان أنه مهما امتد عمره سيموت، ولا خالد إلا الله عزّ وجل لو فكّر بالموت لقلّت أطماعه، ولما اعتدى على أخيه أو ارتكب أعمالاً دنيئة.. ولكنه يتناسى ذلك ويتصرّف كأنه يعيش أبداً
    عمر الإنسان ليس سوى لحظة صغيرة في عمر الكون لكنه رغم ذلك يؤثر ويتأثر ويترك بصماته أحياناً..
    ليس الموت هو نهاية الإنسان المطلقة، ربما كانت نهاية جسد وليست نهاية كائن عاقل تغلفه الأسرار ويغلفه الغموض..

    -1-

    ها قد عدتُ أخيراً إلى الهند، البلد الذي عشت فيه أجمل سنوات عمري.. وما زال السفر إليه يشدّني بقوة..
    أقف مشدوهاً أمام لوحة في معرض من الصور والتماثيل والرسوم المعقدة يقام بمناسبة دينية عند الهندوس هي مناسبة (الدوشارا) ذكرى انتصار (راما) على (راوان) ملك لانكا، كما روتها ملحمة الراميانا الجميلة.. وقربي يقف رجل كهل كان يتأمل اللوحة بعمق كانت لوحة ساحرة فعلاً تمثل شجرة البشرية، وقد عُبّر عنها بشخص متقدم في السنّ له أيدٍ كثيرة وخيالات ترتبط برأسه تبدو متقنة في رسمها..
    -أترين كم هي جميلة يا لينا؟
    -فعلاً تبدو معبّرة عن الإنسان بطموحاته وخيالاته.. بأحلامه وكوابيسه..
    -لنتابع جولتنا، توجد صور أخرى هامة أيضاً.
    أتابع وزوجتي الجولة في المعرض.. نقف أمام مشهد من (المهاباراتا) يمثله ممثلون شبان طلوا وجوههم بالأبيض والأخضر.. يشرعون حرابهم وأقواسهم في لقطة جامدة بلا حركة.. كأنها لوحة مجسّمة لآل (باندو) بصحبة كريشنا..
    -الوقوف هكذا ليس سهلاً..
    -بالطبع يا لينا، ولكنهم يمارسون اليوغا وقد اعتادوا على القيام بمثل هذه الأعمال
    -انظر إلى (شجرة البشرية) اللوحة المدهشة، ذلك الرجل ما زال يقف أمامها محدّقاً مذهولاً
    -مضى عليه أكثر من ربع ساعة.. يبدو غريباً عن هذه البلاد
    فكرت: ((ترى ما الذي توحي له هذه الصورة، حتى غرق في خيالاته معها إلى هذا الحد؟))
    أيقظتني لينا من شرودي: ((لقد تعبت.. سنعود غداً إن سمح لنا الوقت))
    نستقلُّ (سكوترا) في طريقنا إلى الفندق، همست لي:
    -هذا أول يوم نقضيه في الهند، يجب علينا أن لا نضيّع الوقت دون أن نستثمره جيداً، ونحن في بلد الأساطير.
    بعد الاستحمام، جلست على طرف الكنبة أقلّب إحدى المجلاّت المصوّرة كانت لينا منشغلة بكّي بعض الثياب..
    غفوت قليلاً وقد استبدّ بي خدرٌ لذيذ وأنا أُحلّق بخيالاتي في المعرض.. صحوت على يدها تشدّني: -انهض.. حان وقت العشاء
    وأنا أرتدي ثيابي سمعت صراخها:
    -تعال إلى هنا.. عجّل
    -ما الذي حدث؟
    -انظر إلى هذا الرجل الذي يجري المذيع حواراً معه، أليس هو الرجل الذي لفت نظرك في المعرض اليوم؟
    -فعلاً.. يبدو أنه شخصيّة هامة
    -كتبوا اسمه.. إنه الدكتور (ماهر الضامن) عربي.. ترى ماذا يفعل الرجل هنا؟
    تابعت بعض الحوار على الشاشة الصغيرة، كان الدكتور ماهر يتحدّث الإنكليزية بطلاقة.. ويحكي عن قدرات الإنسان الخارقة، وبعض التجارب التي أجراها في هذا الاتجاه..
    هبطنا مطعم الفندق للعشاء، وبين من كانوا يتناولون العشاء، كان الدكتور ماهر الضامن، إنه في نفس الفندق إذن؟ همست:
    -يبدو وحيداً.. هي فرصة لنتعارف
    -ما رأيك لو دعوته بعد العشاء لفنجان من القهوة التركية؟
    -فكرة معقولة
    كنت ملهوفاً وقد رأيته أنهى طعامه، أن أتجه إليه، وأبدأ الحديث معه، قابلني بابتسامة ودعاني للجلوس إلى طاولته، فاعتذرت بأنني لست وحيداً وأنني وزوجتي نزورُ الهند، لبعض الوقت وعرفته على اختصاصي العلمي.
    -أنا أحضر مؤتمراً علميّاً عن طبّ النفس والخوارق.. والهند محطّة هامة في حياتي.
    -وأنا درست فيها أيضاً لسنوات، وأشعر نحوها برابطة ساحرة تشدّني إليها باستمرار .
    -تلك المرأة هناك هي زوجتك؟.
    -نعم.. ونتمنى أن تشاركنا في تناول القهوة التركية!
    كان الدكتور (ماهر) يزور الهند بدعوة رسمية من جامعة (جواهر لال نهرو) للمشاركة في مؤتمر (طب النفس والخوارق) وقد اشتغل فرصة وجوده في الهند، وهو عالم نفس مشهور بأبحاثه فجال في الهند في المناطق التي تمارس فيها اليوغا، والتقى مع أناس مشهورين بقدراتهم الخارقة:
    سألته وأنا أستمع لحديثه بعمق:
    -وما الذي شدّك في ذلك المعرض إلى تلك الصورة التي تمثل كهلاً كأنه شجرة متفرّعة؟
    -لو كنت تهتم بأسرار النفس البشرية، لعرفت أن الصورة تعبّر عن اتساع العقل البشري وآفاقه الكونيّة، إنها مصورة بطريقة مدروسة تدهش المتعمّق في دراسة النفس البشرية.
    -اسمع يا سيدي، منذ زمن طويل وأنا أهتم بالبحوث عن الخوارق وأسرار الدماغ، ولكن خيالي ليس جامحاً إلى الحدّ الذي ينقلني إلى عوالم خرافيّة.
    ابتسم وأطرق للحظات قبل أن يرفع رأسه وهو يحدجني بعينيه النفاذتين:
    -لو تعرّفت على أسرار عوالمنا الداخلية، لأيقنت أن قوانا المجهولة خرافيّة بطاقتها الكامنة.
    -أحاول أن أفهمك.
    -يبدو الحديث غريباً عليك؟
    -ليس إلى هذه الدرجة يا دكتور.. أرجو أن لا تفهمني بشكل مغاير لما أنا عليه.. آه يا سيدي.. ربما كان انغماسنا بمشاكل العصر الماديّة، قد طغى على الجانب الآخر من تفكيرنا..
    ولكن ثق يا سيدي أنني مندهش لحديثك، وأتوق لسماع المزيد منه
    -حسنٌ، أتعلم ما الذي أوحت لي به الصورة؟
    -لا..
    -أوحت لي أن ما فعله جدّي الدكتور (حامد) لم يكن خيالاً..
    -جدّك الدكتور حامد؟
    -إنها قصة طريفة، لا أدري إن كان لديك الوقت لسماعها..
    -أكون سعيداً لو سمعتها..
    -جدّي الدكتور حامد هو عالم (بيولوجي) معروف..
    -ما زال يعيش حتى الآن؟
    -رغم أن عمري يزيد عن الخامسة والخمسين، ولكن جدي ما زال حيّاً، قد يبدو هذا الكلام مبالغاً فيه.. ولكنها الحقيقة.
    -إذن جدّك من المتقدمين في السن الآن؟
    -عمره (139) عاماً..
    -إنه من المعمّرين إذن؟ هل يعيش بينكم؟
    -لا نراه إلاّ في فترات متباعدة.. تصوّر أنني منذ ثلاث سنوات لم أره
    -وكيف تعرفون أنه حيّ؟
    -من رسائله.. إنه يرسلها بانتظام، وهي ليست رسائل طويلة.. فقط تحوي عبارات قليلة تتحدّث أنه بخير، ويجب أن لا نقلق عليه..
    -وأين يعيش؟
    -لا أحد يعلم.. حاولنا معرفة مسكنه أكثر من عشرين مرّة ففشلنا كان يختفي بسهولة عن أعيننا ونحن نتابعه
    -وما سرّ هذه القوّة التي ما زال يتمتّع بها؟
    -إنه يبحث في سرّ الخلود، وقد نجح في إطالة عمره على طريقة (فولكا نللي).
    -حجر الفلاسفة؟
    ضحك وهو ينظر إلي ثم قال بهدوء:
    -توصّل إلى تركيب يشبه في مفعوله، مفعول حجر الفلاسفة الخرافي..
    -يبدو شخصية فريدة فعلاً..
    -وماذا أقول؟ إنه حديث طويل.
    همست لينا بخجل: -ما رأيك يا دكتور لو نغيّر المكان؟ أقصد أن ندعوك لتناول القهوة العربية في غرفتنا في الفندق.. هناك سوف..
    قاطعها: -بل اسمحا لي أن أدعوكما للجلوس في مكان هادئ في دلهي القديمة إنه أكثر جاذبية من الفندق..
    لم تعترض على فكرة الدعوة.. شدّنا إليه بحديثه الساحر وشخصيته الهادئة المتدفقة بالمعرفة والعلم..
    قطعت السيارة مسافة كبيرة وهي تخترق الشوارع العريضة وقد امتلأت الأرصفة بالمشردين وباعة السجائر والأطعمة المطبوخة بالبهارات الهندية التي وصلت روائحها إلينا.
    كان الدكتور (ماهر) يتحدث الهندية بطلاقة.. وقد استغرب اتقاني لها.. سألني:
    -كيف تعلمت الهندية؟
    -اختلاطي بالناس وسفري المتواصل متجولاً في الهند خلال فترة دراستي جعلني أتعلّم الحديث بالهندية، وبالتدريج تعلّمت القراءة والكتابة.. في البداية شعرت بصعوبة، لاختلاط الأحرف الكبير ببعضها، ولكنني تمكنت أخيراً من تعلمها جيداً.
    أوقف السائق السيارة في مكان مزدحم قليلاً.. وأصرّ الدكتور ماهر على دفع الأجرة..
    دخل يتقدمنا إلى بناء بدا لي عادياً، وحين أصبحنا في الداخل، ميّزت الديكور المتقن، والزخرفة الجميلة والكتابات بالهندية والأردو.. استقبلنا خادم المكان يقودنا إلى جناح صغير، إضاءته ممتازة، ويبدو منعزلاً تماماً.. طلب منه الدكتور ماهر أن يزيح الستائر، فطالعنا منظر (الريدفورت) القلعة الحمراء، وهي مزدانة بأنوارها الخلاّبة في الليل..
    وقد بدت المساكن والنهر الصغير، إضافة للقلعة، بتشكيلها الرائع كلوحة جميلة متقنة الرسم.. همس الدكتور ماهر بالهندية، جملاً لم نستطع سماعها، للخادم فانحنى باحترام وخرج..
    -المكان هنا أكثر شاعرية وهدوءاً.
    -معك حق.. مع أنني قضيت في دلهي أكثر من سنتين.. تجولت فيها حتى في حاراتها الضيقة لم أر مثل هذا المكان.
    -إنه مكان قديم.. يذكّرني بأشياء كثيرة.
    تنهد بحزن: -الحياة حافلة بالأسرار.. التي تبدو أحياناً مستحيلة التصديق.
    صمت لدقائق.. شدّت لينا على يدي بصمت.. كان العالم الكهل غارقاً بذكرياته يتأمل القلعة الحمراء، وقد لمحت أو خيل إلي دمعاً يترجرج في عينيه
    دخل الخادم يحمل صينية، عليها فناجين مزخرفة.. وضعها أمامنا، وصبّ فيها قهوة نفذت رائحتها الذكيّة إلى خياشمنا..
    -إنها قهوة عربية كما نصفها في بلادنا.. (الهيل) فيها خالٍ من الشوائب.. آه.. لا بد وأنكما متشوقان لسماع بقية الحديث عن جدي الدكتور حامد.
    -بالطبع يا دكتور.
    -حاولت مراراً أن أتابع جدي في اختفائه.. وسؤاله عن حياته، وعمله وأين يقيم؟
    ولكنه كان يبتسم ثم يختفي فجأة من أمامي..
    -كأنه يخترق الزمن؟
    -لا أعتقد أنه توصل إلى اختراق الزمن.. لأن اختفاءه لم يكن على هذه الصورة التي تفكر فيها.. كان يتحرك باستمرار بسرعة حتى تأتي لحظات لا أتمكن فيها من متابعة حركته إذ أنه يختفي أمامي..
    -ولم يرض أن يحدثك عما يفعل؟
    -بعد إلحاح شديد، ترك لي بضعة أوراق من مذكراته، كانت كافية للحكم على تجاربه المذهلة..
    -أتحمل هذه المذكرات؟
    -وكيف أستطيع أن أتركها.. أحملها دوماً معي ككنز ثمين، لأن فيها خلاصة تجارب يحلم الإنسان بالوصول إلى تحقيقها.. سأحدثك أولاً عن شخصية جدي الدكتور حامد، قبل أن أطلعك على المذكرات..
    -تفضل يا دكتور.. هل تدخّن سيجارة؟ مع القهوة؟
    -لم أدخن طيلة حياتي.. شكراً لك.
    -إذن لن أدخن أنا أيضاً.. نعم يا سيدي.. أكمل حديثك.
    -كان الدكتور حامد مثالاً للإنسان العصامي المكافح، نشأ في بيئة قروية وتعلق بالطبيعة، وتمكن بفضل فهمه الشديد للقراءة أن يصل إلى ثقافة موسوعية وهو في سن مبكرة، وقد انتسب لقسم العلوم الطبيعية في الجامعة.. ثم سافر إلى دولة أوربية في أوائل ثمانينات القرن الماضي وأقام فيها لعدّة سنوات أدهش فيها أساتذته، ونال الدكتوراه في علم الخلية بدرجة شرف..
    -كانت حالته المادية جيدة إذن؟
    -بفضل تفوقه، كان يحصل على المنح المجانية ولم يكلف والده فلساً واحداً خلال دراسته الجامعية وتحضيره للدكتوراه
    -وعاد إلى الوطن بعد ذلك؟
    -نعم.. في بداية هذا القرن (القرن العشري) وكان يملك مبلغاً محترماً من عمله هناك عاد إلى الوطن، واشترى مزرعة وأقام فيها مخبراً متطوراً للبحث في علم الحياة..
    -هل زرت المزرعة؟
    -بالطبع.. زرتها بعد هجرة جدي إلى مكان مجهول لا نعرف عنه شيئاً وهي لا تزال مهجورة، حافظ عليها والدي وطلب منّا قبل موته عدم بيعها، لأن جدي طلب المحافظة عليها ما دام على قيد الحياة.. سأعود بك قليلاً إلى الوراء.. عندما عاد جدي من سفره إلى الوطن، كان متزوجاً من أجنبية، وكان يصطحب ولديه (والدي وعمي) أقامت الأجنبية معه، تخدمه بإخلاص، وكانت نموذجاً للمرأة المكافحة المخلصة، تحمّلت نزواته وظلّت تنظر إليه كرجل متفوّق وتعمل في سبيل إرضائه ما في وسعها.
    -غريب أن تتّصف أجنبية بهذه الصفات..
    -كان جدي يقول أنه انتقاها من بين مليون امرأة، وأن حدسه عنها كان صادقاً.. فلم تزعجه طوال حياتها بكلمة أو بتصرّف لا يقبله..
    -منذ متى بدأ اختفاء جدك؟ أقصد هجرته الغامضة؟
    -عام (1940) حين توفيت زوجته، أقصد جدّتي، وكان عمره عند ذلك (90) عاماً وكانت جدّتي في عامها الثامن والسبعين.. اختلى بعد دفن جدتي، بأبنيه، والدي وعمي، لعدّة ساعات، ثم حمل حقيبته الضخمة، وودعهما، ولم يره أحدُ بعد ذلك إلا بعد مرور ثلاث سنوات، وهو يزورنا بشكل متقطّع لفترات قليلة، ولكنّه كما قلت لك يرسل رسائل بانتظام إلينا..
    -ألم يحدثك والدك عمّا دار في تلك الخلوة؟
    -آه يا صديقي.. رغم محاولاتي المتكرّرة، كان يقول لي: ((إنه سرّ جدّك يا ماهر.. وقد طلب مني المحافظة عليه، فكيف أبو ح به؟))
    وهكذا كان عمي أيضاً يحافظ بقوة على السرّ.. وفي إحدى المرّات التي قابلت فيها جدّي قلت له: ((أنا أدرس علم النفس يا جدّي وأريد أن أتبادل معك الحوار حول ما تقوم به)) قال لي: ((لا تزال صغيراً يا بني على فهم ما أقوم به)). رجوته أن يعطيني الفرصة، ولكنه أجابني وهو يبتسم: ((يا بني.. الإنسان في هذه الحياة فرع صغير في شجرة الإنسانية.. ولكنه قويّ خارق أن فهم نفسه وقدراته، الحياة ليست سرّاً صغيراً)) عرفت بشكل غير مباشر أنه يقوم بتجارب لمعرفة سرّ الحياة.. وحين اختلطنا في الزحام اختفى من أمامي على عادته..

    -ولكن لماذا أصر جدّك على الابتعاد عن الناس؟
    -عثرت في مذكراته على اسم عالم نفسي من الهند، كان باستمرار يكرّر اسمه مصحوباً بلقب صديقي..
    -من هو ذلك العالم؟
    -إنه الدكتور (عاصم زيدي) يقيم في (لخنو) عاصمة مقاطعة (أتّا ربراديش)
    -هل زرته؟ أقصد هل زرت الدكتور (زيدي)؟
    ضحك الدكتور ماهر ثم صوب نظره في اتجاه (لينا) التي سألت هذا السؤال:
    -من أسباب قبولي لدعوة جامعة نهرو والمجيء إلى هنا، محاولة اللقاء مع الدكتور (زيدي) حاولت مراراً خلال زياراتي المتكرّرة للهند، اللقاء معه.. ولم أستطع، كان أهله يقولون لي باستمرار، إنه مسافر، ولا يعرفون ميعاد عودته.
    ثم تنهد بمرارة: -إنه يشبه جدي من ناحية اختفائه لسنوات ثم ظهوره واختفائه من جديد..
    -تبدو قضية محيّرة فعلاً؟
    نظر إلى ساعته ثم صفق بيديه يستدعي الخادم:
    -لقد تأخر الوقت، سأسافر غداً في الصباح إلى (لخنو).. محاولاً اللقاء بالدكتور (زيدي) من يعلم، قد أنجح هذه المرّة في لقائه..
    -ستسافر بالقطار؟
    -نعم.. هناك قطار يسمى (لخنواكسبريس) ينطلق في نحو الثامنة صباحاً من محطة (دلهي القديمة)..
    نهضنا نغادر المكان في طريق العودة إلى الفندق.. كنت ولينا مذهولين بحديث الدكتور (ماهر) وقد شدّتنا شخصيته الساحرة.. وفضوله العلمي..
    همست لينا في السيارة:
    -ما رأيك لو نرافقه في رحلته إلى لخنو؟
    نظرت إليها متعجباً: -ماذا تقولين؟
    -إنها فرصة نادرة.. لو قبل بصحبتنا..
    -فكرة مدهشة.. سأنتهز الفرصة المناسبة وأكلمه في ذلك..
    -لماذا ليس الآن؟ ما المانع؟
    -معك حق..
    قلت بصوت مرتفع: -هل حجر المقاعد إلى لخنو ما زال معقّداً؟
    -ليس معقداً، إنه صعب، بسبب الازدحام والإقبال على السفر، الهند كما تعلم بلاد غزيرة السكان..
    -صحيح.
    -لماذا السؤال عن حجز المقاعد؟ أترغبان السفر برفقتي؟
    خفق قلبي بشدّة وأنا أجيب: -نعم..
    سألت لينا: -وكيف عرفت أننا نرغب السفر بصحبتك؟
    -أنا عالم نفس يا سيدتي.. أستطيع أيضاً قراءة الأفكار والتقاطها أحياناً.. على كل حال لا شيء يمنع من سفركما معي.. ولكن في هذه الحالة لن أسافر بالقطار.. ما رأيكما لو سافرنا جميعاً بالطائرة؟ السفر بالقطار قد يكون متعباً لزوجتك أليس كذلك يا سيدتي؟
    -لا شيء يمنعني من السفر بالقطار يا دكتور..
    -هل سافرت بالقطار من قبل؟ أنت لا تعرفين كم هو متعب أحياناً.. الازدحام.. الفقر.. الروائح.. القذارة أحياناً حتى في مقصورات الدرجة الأولى..
    -سأذهب في الصباح لحجز تذاكر السفر بالطائرة..
    -ولماذا تتعب نفسك؟ سيحجز لنا مرافقي الهندي، أنسيت أنني ضيف على هذه البلاد؟
    وصلنا الفندق، وكانت الساعة تقارب الثانية صباحاً وحين استلم مفتاح غرفته من الاستعلامات وهمس لنا يتمنّى ليلة سعيدة، لم ينس أن يؤكد على موعد اللقاء في التاسعة صباحاً. حتى ساعة متأخرة تبادلت الحديث مع لينا، كان موضوع الحديث مغرياً مثيراً.. وقد نبتت في رأس كل منا أسئلة صعبة ظلّت بلا جواب..
    غفت (لينا) على صدري.. وأنا أتأمل وجهها المرهق الجميل.. وقد أحسست بعاطفة جياشة نحوها.. وغاب ذهني في رحلة عودة إلى ذكرياتنا الأولى معاً.. كنت أحبها، وكانت تبادلني الحب، ورغم التجانس الفكري والعاطفي بيننا، تأخرنا في الزواج، خضت تجربة زواج فاشلة، وخاضت هي أيضاً تجربة زواج فاشلة.. ورغم كل ذلك ظلّ الحبّ يطرق قلبي.. ولم تتغيّر عاطفتي تجاهها.. حتى كان ذلك اليوم الذي كاشفتها فيه برغبتي في الزواج منها، وقد رأيت أنها بدأت تضيع بعد طلاقها، في علاقات سطحية وصداقات تافهة.. ترددت قبل أن تمنحني قبولها، في الزواج، وعشنا أيام سعيدة، قبل أن تهمس لي أنها (حامل).. كنت أعرف أنها تتشوق لطفل يملأ علينا البيت صخباً.. وكانت ولادتها الأولى عسيرة، وأتى الطفل الأول ثم الطفل الثاني ثم جاءت لينا الصغيرة التي ملأت علينا البيت بشاشة وأنساً..
    لم تسكت الذكريات، وتنفس لينا البطيء ورأسها الراقد فوق صدري يشجعان بي الرغبة في العودة إلى تلك الأيام الجميلة.. وحين غفوت أخيراً، حلمت بالدكتور حامد، كان وجهه بلحيته البيضاء، أشبه بوجه قديس صوفي يشعّ نوراً وألقاً..
يعمل...
X