إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تطور مفهوم العلم في الفكر الإسلامي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تطور مفهوم العلم في الفكر الإسلامي


    تطور مفهوم العلم في الفكر الإسلامي

    يسعى هذا البحث إلى رصد التحولات والتطورات التي لحقت بمفهوم كلمة "علم" في الفكر الإسلامي بدأ من ما ورد في الكتاب والسنة وأقوال كبار الصحابة وكذلك أراء فلاسفة الإسلام المبكرين والمتكلمين بحسب التدرج التاريخي والتعرض للتحولات التي لحقت بالمفهوم في فكر عصر النهضة إلى وقتنا الحاضر مع الإشارة إلى أثر مفهوم العلم عند الغربيين وأثر ذلك في الفكر العربي والإسلامي الحديث. كما سيتطرق إلى إشكالية التحولات التي تمر بها المعاني الأساسية التي تضاف إلى هذا المفهوم. بحيث قد تتعارض الدلالات بين عام وخاص ومطلق ومقيد، بل وقد تتعدد المعاني وتتناقض من فترة لأخرى. ونرى – كما سيتضح – أن التطور التاريخي للمصطلحات لا يأخذ بالضرورة منحى تقدميا، أو أن المصطلح مع تقدم الزمن يصبح أكثر وضوحا أو اصطلاحية وإنما على العكس من ذلك تماما، نجد أن المفهوم قد يأخذ معاني ودلالات متعددة ومع الوقت يصبح بالأحرى أكثر غموضا بسبب تنوع وتعدد الاستخدامات الدلالية له.

    ولعل الاختلاف بالمقياس إلى مفردة مثل "العلم" كثيرة الاستخدامات ومن ثم متعددة الدلالات، لن يقف عند الدلالة والمعنى وإنما سيطال الوظيفة والقيمة المرتبطة بالمفهوم من حيث هو معيار أو قيمة من ناحية ووصف لأسلوب تفكير من ناحية أخرى. وقد يخصص المفهوم لتحديد نوعية أو موضوع المجال الذي يشير إلى ذلك. والإشارة إلى تعدد مجال "العلم" في الفكر الإسلامي بارز من البداية، فبعض معاني كلمة "علم تظهر" كما تم توظيفها في القران الكريم، لم يعد يحملها المفهوم في سياق استخدامات كثيرة لكلمة "العلم" اليوم، رغم أن المعنى التقليدي الفضفاض المفهوم لا يزال متداولا في أوساط معينة، بمعنى أن المفهوم من بدايته يحمل في جوانبه شيئا من تعددية المعنى بل وربما غموضه، وهو ما نأمل أن يسمح المسح التاريخي الذي يسلط أضواء جديدة عليه.

    تأتي مفردة "علم" في القرآن على أشكال عدة، فهي تارة نكرة، وهو التنكير الذي يأتي في سياق الإشارة على أن "العلم" المذكور هو مجرد معرفة قد تكون نافعة أو قد تكون ضارة، كما هو في قوله تعالى: (وأضله الله على علم)(1) إلا أن المفردة غالبا ما تتكرر في صيغة التعريف " العلم "، للدلالة على الأرجح على علم بذاته، أو للإشارة إلى شيئا باسم العلم، أو تشريفا لهذا المفهوم في دلالات معينة خاصة، كما هو الحال في قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)(2) وقوله: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد)(3) وقوله: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به قتخبت له قلوبهم وأن الله لهاد الدين آمنوا إلى صراط مستقيم)(4) ولقد حددت هذه الآيات مفهوم العلم بأنه العلم الذي أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الله وأنه علم يهدي إلى صراط العزيز الحميد . ولهذا فإن القرآن في هذا السياق يؤكد على أهمية من حصلوا على هذا العلم ومنزلتهم، وهو ما يؤكد عليه قوله تعالى: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق). حتى إن النص القرآني يقرر في آية أخرى" إنما يخشى الله من عباده العلماء)(5) ويحسم في آية أخرى: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(6) والانحراف عن "العلم" بهذه الصيغة يؤدي إلى الجهل والضلال والفرقة، (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم)(7)، وقوله: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم)(8) ورغم أن النص القرآني إنما حدد مفردة العلم بالوحي الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل هذا التعريف العام يتطلب تفسيرات وشروح مؤكدة على المعنى العام للمفهوم وارتباطه بالهداية والرشد.

    عندما حدث سعد بن أبي وقاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جرى له في سفره، قال له مصوراً جهل القوم المرسل إليهم: أتيتك من قوم هم وأنعامهم سواء، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: يا سعد ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ قوم علموا ما جهل هؤلاء ثم جهلوا كجهلهم"(8) وفي أحاديث أخرى عنه أنه قال: "العلم نور وضياء يقذفه الله في قلوب أوليائه"(9) وقوله: "العلم مجبول في قلوبكم تأدبوا بآداب الروحانيين يظهر لكم"(10) وعنه "أكثر الناس قيمة أكثرهم علما وأقل الناس قيمة أقلهم علما" (11) وقوله: "خير الدنيا والآخرة مع العلم، وشر الدنيا والآخرة مع الجهل"(12) وقوله: "الناس يعلمون في الدنيا على قدر منازلهم في الجنة"(13)

    وهناك قول يستند إلى جملة هذه المعاني: "تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقه وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام وسالك بطالبه سبيل الجنة وهو أنيس في الوحشة وصاحب في الوحدة ودليل على السراء والضراء وسلاح على الأعداد وزين الأخلاء" (14) وكذلك قول: "يرفع الله به أقواما يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم، ترمق أعمالهم وتقتبس آثارهم وترغب الملائكة في خلتهم، يمسحونهم في صلاتهم بأجنحتهم ويستغفر لهم كل شيء حتى حيتان البحور وهوامها وسباع البر وأنعامها، لأن العلم حياة القلوب ونور الأبصار من العمى وقوة الأبدان من الضعف ينزل الله حامله منازل الأخيار ويمنحه مجالس الأبرار في الدنيا والآخرة"(15) بالعلم يطاع الله ويعبد وبالعلم يعرف الله ويؤخذ بالعلم لتوصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام والعلم أمام العمل والعمل تابعه يلهمه الله السعداء ويحرمه الأشقياء"(16)

    وفيما ورد عن الإمام علي، رضي الله عنه، قوله: "الإيمان والعلم أخوان توأمان ورفيقان لا يفترقان" وقوله: "كلما ازداد علم الرجل زادت عنايته بنفسه ويذل في رياضتها وصلاحها جهده" وقوله: "يا مؤمن إن هذا العلم والأدب ثمن نفسك فاجتهد في تعلمها، فما يزيد من عملك وأدبك يزيد في ثمنك وقدرك فإن بالعلم تهتدي إلى ربك" وقوله: "يتفاضل الناس بالعلوم والعقول لا بالأموال والأصول"، وقوله "لا يعرف الرجل إلا بعلمه، كما لا يعرف الغريب من الشجر إلا عند حضور الثمر، فتدل الأثمار على أصولها" وقوله: "لا تستعظمن أحدا حتى تستكشف معرفته"، وقوله: "العلم رأس الخير كله"، وقوله: "العلم أصل كل خير والجهل أصل كل شر".

    ويقسم علي العلم إلى أنواع: "العلم علمان، مطبوع ومسموع، ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع" ويوضح أن: "العلم مصباح العقل والعلم حجاب من الآفات" ويؤكد: "ليس العلم في السماء فينزل إليكم، ولا في تخوم الأرض فيخرج لكم، ولكن العلم مجبول في قلوبكم، تأدبوا بآداب الروحانيين يظهر لكم" ويقسم أنواع علم الإنسان "علم الناس كله في أربع أولها: أن تعرف ربك والثاني أن تعرف ما صنع بك والثالث أن تعرف ما أراد منك والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك" ومن حكمه: "أفضلكم أفضلكم معرفة"، و "قيمة كل امرئٍ ما يعلمه أو ما يحسنه"(17) ومن الواضح أن مفهوم العلم في النص القرآني والحديث النبوي وأقوال الإمام على ما يشير إلى مفهوم واسع محيطه، لكنه يدور حول فكرة المعرفة التي تهذب الإنسان وتقربه من الله وتنير عقله وقلبه، بمعنى أننا ربما نقابل في هذا السياق مفهوم المعرفة في مقابل اللوغوس بمعناه الكلاسيكي، المعرفة الروحية "اللدنية"، لكنها في ذات الوقت معرفة تقوم الذات وتهذب الأخلاق، لكن أيضا وفي نفس الوقت معرفة معرفة وإن كانت في شكلها العام المطلق "العلم" إلا إنها يمكن تحصيلها استقراء واستدلالا من خلال التجربة البشرية، وهي تعد شكل من أشكال "العبادة". لهذا فهي وإن كانت تقود إلى الحق والنجاة من الظلال في عالم الآخرة، لكنها وفي الوقت نفسه تضمن حياة أخلاقية وعملية في الحياة الدنيا.

    هذه الدلالات والمعاني الأساسية ستشكل توجيهات وستفتح أبوابا ومسارات لمفهوم العلم في الحضارة الإسلامية – كما سنرى في مسيرة تطور المفهوم التاريخي حتى العصر الحديث – وربما بتأثيرات خارجية فلسفية وأخلاقية، ربما تبعد المفهوم على تأسيسه القرآني. ولعله من المفيد أن نؤكد مبدئيا أن "العلم" لم تختزل في النشاط العقلي والتأكيد على القدرة البشرية في التفكير العقلاني المحض، وفي الوقت نفسه لم يحدد "العلم" فقط بمصدرية إلهية وإنما كانت الإشارة إلى فعالية العلم في توجيهها لسلوك الإنسان وإيمانه في سياق المصلحة البشرية العليا التي تجددها القيم الدينية ذات المصدر الإلهي(18).

    يتــــبع

    اللهم اجعلني خيرا مما يظنون
    ولاتؤاخذني بما يقولون
    واغفر لي مالا يعلمون

  • #2
    تطور مفهوم العلم في الفكر الإسلامي


    تطور مفهوم العلم في الفكر الإسلامي

    يسعى هذا البحث إلى رصد التحولات والتطورات التي لحقت بمفهوم كلمة "علم" في الفكر الإسلامي بدأ من ما ورد في الكتاب والسنة وأقوال كبار الصحابة وكذلك أراء فلاسفة الإسلام المبكرين والمتكلمين بحسب التدرج التاريخي والتعرض للتحولات التي لحقت بالمفهوم في فكر عصر النهضة إلى وقتنا الحاضر مع الإشارة إلى أثر مفهوم العلم عند الغربيين وأثر ذلك في الفكر العربي والإسلامي الحديث. كما سيتطرق إلى إشكالية التحولات التي تمر بها المعاني الأساسية التي تضاف إلى هذا المفهوم. بحيث قد تتعارض الدلالات بين عام وخاص ومطلق ومقيد، بل وقد تتعدد المعاني وتتناقض من فترة لأخرى. ونرى – كما سيتضح – أن التطور التاريخي للمصطلحات لا يأخذ بالضرورة منحى تقدميا، أو أن المصطلح مع تقدم الزمن يصبح أكثر وضوحا أو اصطلاحية وإنما على العكس من ذلك تماما، نجد أن المفهوم قد يأخذ معاني ودلالات متعددة ومع الوقت يصبح بالأحرى أكثر غموضا بسبب تنوع وتعدد الاستخدامات الدلالية له.

    ولعل الاختلاف بالمقياس إلى مفردة مثل "العلم" كثيرة الاستخدامات ومن ثم متعددة الدلالات، لن يقف عند الدلالة والمعنى وإنما سيطال الوظيفة والقيمة المرتبطة بالمفهوم من حيث هو معيار أو قيمة من ناحية ووصف لأسلوب تفكير من ناحية أخرى. وقد يخصص المفهوم لتحديد نوعية أو موضوع المجال الذي يشير إلى ذلك. والإشارة إلى تعدد مجال "العلم" في الفكر الإسلامي بارز من البداية، فبعض معاني كلمة "علم تظهر" كما تم توظيفها في القران الكريم، لم يعد يحملها المفهوم في سياق استخدامات كثيرة لكلمة "العلم" اليوم، رغم أن المعنى التقليدي الفضفاض المفهوم لا يزال متداولا في أوساط معينة، بمعنى أن المفهوم من بدايته يحمل في جوانبه شيئا من تعددية المعنى بل وربما غموضه، وهو ما نأمل أن يسمح المسح التاريخي الذي يسلط أضواء جديدة عليه.

    تأتي مفردة "علم" في القرآن على أشكال عدة، فهي تارة نكرة، وهو التنكير الذي يأتي في سياق الإشارة على أن "العلم" المذكور هو مجرد معرفة قد تكون نافعة أو قد تكون ضارة، كما هو في قوله تعالى: (وأضله الله على علم)(1) إلا أن المفردة غالبا ما تتكرر في صيغة التعريف " العلم "، للدلالة على الأرجح على علم بذاته، أو للإشارة إلى شيئا باسم العلم، أو تشريفا لهذا المفهوم في دلالات معينة خاصة، كما هو الحال في قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)(2) وقوله: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد)(3) وقوله: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به قتخبت له قلوبهم وأن الله لهاد الدين آمنوا إلى صراط مستقيم)(4) ولقد حددت هذه الآيات مفهوم العلم بأنه العلم الذي أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الله وأنه علم يهدي إلى صراط العزيز الحميد . ولهذا فإن القرآن في هذا السياق يؤكد على أهمية من حصلوا على هذا العلم ومنزلتهم، وهو ما يؤكد عليه قوله تعالى: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق). حتى إن النص القرآني يقرر في آية أخرى" إنما يخشى الله من عباده العلماء)(5) ويحسم في آية أخرى: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(6) والانحراف عن "العلم" بهذه الصيغة يؤدي إلى الجهل والضلال والفرقة، (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم)(7)، وقوله: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم)(8) ورغم أن النص القرآني إنما حدد مفردة العلم بالوحي الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل هذا التعريف العام يتطلب تفسيرات وشروح مؤكدة على المعنى العام للمفهوم وارتباطه بالهداية والرشد.

    عندما حدث سعد بن أبي وقاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جرى له في سفره، قال له مصوراً جهل القوم المرسل إليهم: أتيتك من قوم هم وأنعامهم سواء، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: يا سعد ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ قوم علموا ما جهل هؤلاء ثم جهلوا كجهلهم"(8) وفي أحاديث أخرى عنه أنه قال: "العلم نور وضياء يقذفه الله في قلوب أوليائه"(9) وقوله: "العلم مجبول في قلوبكم تأدبوا بآداب الروحانيين يظهر لكم"(10) وعنه "أكثر الناس قيمة أكثرهم علما وأقل الناس قيمة أقلهم علما" (11) وقوله: "خير الدنيا والآخرة مع العلم، وشر الدنيا والآخرة مع الجهل"(12) وقوله: "الناس يعلمون في الدنيا على قدر منازلهم في الجنة"(13)

    وهناك قول يستند إلى جملة هذه المعاني: "تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقه وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام وسالك بطالبه سبيل الجنة وهو أنيس في الوحشة وصاحب في الوحدة ودليل على السراء والضراء وسلاح على الأعداد وزين الأخلاء" (14) وكذلك قول: "يرفع الله به أقواما يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم، ترمق أعمالهم وتقتبس آثارهم وترغب الملائكة في خلتهم، يمسحونهم في صلاتهم بأجنحتهم ويستغفر لهم كل شيء حتى حيتان البحور وهوامها وسباع البر وأنعامها، لأن العلم حياة القلوب ونور الأبصار من العمى وقوة الأبدان من الضعف ينزل الله حامله منازل الأخيار ويمنحه مجالس الأبرار في الدنيا والآخرة"(15) بالعلم يطاع الله ويعبد وبالعلم يعرف الله ويؤخذ بالعلم لتوصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام والعلم أمام العمل والعمل تابعه يلهمه الله السعداء ويحرمه الأشقياء"(16)

    وفيما ورد عن الإمام علي، رضي الله عنه، قوله: "الإيمان والعلم أخوان توأمان ورفيقان لا يفترقان" وقوله: "كلما ازداد علم الرجل زادت عنايته بنفسه ويذل في رياضتها وصلاحها جهده" وقوله: "يا مؤمن إن هذا العلم والأدب ثمن نفسك فاجتهد في تعلمها، فما يزيد من عملك وأدبك يزيد في ثمنك وقدرك فإن بالعلم تهتدي إلى ربك" وقوله: "يتفاضل الناس بالعلوم والعقول لا بالأموال والأصول"، وقوله "لا يعرف الرجل إلا بعلمه، كما لا يعرف الغريب من الشجر إلا عند حضور الثمر، فتدل الأثمار على أصولها" وقوله: "لا تستعظمن أحدا حتى تستكشف معرفته"، وقوله: "العلم رأس الخير كله"، وقوله: "العلم أصل كل خير والجهل أصل كل شر".

    ويقسم علي العلم إلى أنواع: "العلم علمان، مطبوع ومسموع، ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع" ويوضح أن: "العلم مصباح العقل والعلم حجاب من الآفات" ويؤكد: "ليس العلم في السماء فينزل إليكم، ولا في تخوم الأرض فيخرج لكم، ولكن العلم مجبول في قلوبكم، تأدبوا بآداب الروحانيين يظهر لكم" ويقسم أنواع علم الإنسان "علم الناس كله في أربع أولها: أن تعرف ربك والثاني أن تعرف ما صنع بك والثالث أن تعرف ما أراد منك والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك" ومن حكمه: "أفضلكم أفضلكم معرفة"، و "قيمة كل امرئٍ ما يعلمه أو ما يحسنه"(17) ومن الواضح أن مفهوم العلم في النص القرآني والحديث النبوي وأقوال الإمام على ما يشير إلى مفهوم واسع محيطه، لكنه يدور حول فكرة المعرفة التي تهذب الإنسان وتقربه من الله وتنير عقله وقلبه، بمعنى أننا ربما نقابل في هذا السياق مفهوم المعرفة في مقابل اللوغوس بمعناه الكلاسيكي، المعرفة الروحية "اللدنية"، لكنها في ذات الوقت معرفة تقوم الذات وتهذب الأخلاق، لكن أيضا وفي نفس الوقت معرفة معرفة وإن كانت في شكلها العام المطلق "العلم" إلا إنها يمكن تحصيلها استقراء واستدلالا من خلال التجربة البشرية، وهي تعد شكل من أشكال "العبادة". لهذا فهي وإن كانت تقود إلى الحق والنجاة من الظلال في عالم الآخرة، لكنها وفي الوقت نفسه تضمن حياة أخلاقية وعملية في الحياة الدنيا.

    هذه الدلالات والمعاني الأساسية ستشكل توجيهات وستفتح أبوابا ومسارات لمفهوم العلم في الحضارة الإسلامية – كما سنرى في مسيرة تطور المفهوم التاريخي حتى العصر الحديث – وربما بتأثيرات خارجية فلسفية وأخلاقية، ربما تبعد المفهوم على تأسيسه القرآني. ولعله من المفيد أن نؤكد مبدئيا أن "العلم" لم تختزل في النشاط العقلي والتأكيد على القدرة البشرية في التفكير العقلاني المحض، وفي الوقت نفسه لم يحدد "العلم" فقط بمصدرية إلهية وإنما كانت الإشارة إلى فعالية العلم في توجيهها لسلوك الإنسان وإيمانه في سياق المصلحة البشرية العليا التي تجددها القيم الدينية ذات المصدر الإلهي(18).

    يتــــبع

    اللهم اجعلني خيرا مما يظنون
    ولاتؤاخذني بما يقولون
    واغفر لي مالا يعلمون

    تعليق


    • #3
      رد: تطور مفهوم العلم في الفكر الإسلامي


      غير أننا سرعان ما سنلاحظ، مع نهاية القرن الثاني الهجري وبتأثير واضح من الفلسفة اليونانية، أن هذا المفهوم القرآني "للعلم" سينحو إلى تحولات عميقة في الدلالة. فهذا الكندي (185 – 252 / 801 – 866) يقدم الاهتمام بمعرفة الأشياء بوصفها الوسيلة الموصلة إلى معرفة الحقيقة، حيث يؤكد "العلم: وجدان الأشياء بحقائقها"(19) لكنه يوضح أن غاية "العلم" تقود إلى المعاني التي أشار لها المصدر القرآني: "علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية وعلم الوحدانية وعلم الفضيلة وجملة علم كل نافع والسبيل إليه"(20) لكنه (أي الكندي) رغم ارتباطه بالمعاني القرآنية السامية، إلا أن أثر الفلسفة واضح على ما يكتب: "إعطاء العلة والبرهان من قيمة علم الأشياء بحقائقها"(21).
      وهو يذهب للتأكيد على أن للعلم قيمة في ذاته دون توضيح ماهية تلك القيمة، "لا نطلب في العلم الرياضي إقناعا ولا في العلم الإلهي حسا ولا تمثيلا ولا في أوائل العلم الطبيعي الجوامع الفكرية ولا في البلاغة برهانا ولا في أوائل البرهان برهانا"(22) ربما لأن العلم موجه ودليل: "أما الذي جهلوا فضل العلم على العمل فهم الذين لم يتعلموا أن العلم بكل شيء قبل فعله، وأنه لا سبيل إلى إظهار شيء على صواب حتى يثبت في الفكر معلوما، وفي الطبع مفهوما وفي النفس معقولا ثم يظهر معقولا محسوسا مجسما ملموسا. وقد نجد من عمل شيئا من غير علم ولا روية – وكان كذلك في الطبيعة موجودا – ولم يعلم أصواب هو أم خطأ. فإن وقع له فيها على الصواب لم يعلم العلة فيه وإن سئل عن ذلك لم يحسن أن يأتي عليه بحجة يعبرها عن نفسه، فليس إذن يحمد من كان هذا منزلته لأنه لم يتقدم فيعلم العلة فيما صنع"(23).

      وهكذا فإن الكندي يقدم معرفة "العلة" على الفهم العقلاني، ولعل في ذلك إشارة إلى معنى قرآني في أهمية ومحورية العلم بحقائق الأشياء لمزيد من الإيمان ولكن مع التأكيد على أن يكون ذلك عن طريق العقل والتفكير العقلاني. كذلك نلحظ عند الكندي بداية تشعب مفهوم العلم ووسائله وكذلك وظائفه، مع ذلك فأن تصنيفات الكندي لم تبتعد كثيرا عن مجال المعرفة والفكر العربي الإسلامي، لتتحول إلى مجرد عاكسة للتصنيفات اليونانية، وإن وجدت في متنه الفلسفي.

      أما الفارابي (257–339هـ/780–950م) فإنه يستعرض أولا مفهوم العلم عند فلاسفة اليونان، كما في قوله: "قال أفلاطون: عطية العلم شبيهة بمواهب الله عز وجل، لأنها لا تتخذ عند الجود، ولكنها تكون بكمالها عند مفيدها. وقال: من فضيلة العلم أنك لا تستطيع أن يخدمك فيه أحد كما يخدمك في سائر الأشياء وإنما تخدمه بنفسك ولا يستطيع أحد أن يسلبك إياه كما يسلبك غيره من التقنيات"(24) رغم ذلك سنجد تحولا مهما عند الفارابي في تعريفه للعلم وتحديد مداه ووظائفه، حيث يذهب للقول: "اسم العلم يقع على أشياء كثيرة، إلا أن العلم الذي هو فضيلة ما للجزء النظري، هو أن يحصل في النفسي اليقين بوجود الموجودات التي وجودها وقوامها لا يضع إنسان أصلا. وما هو كل واحد منها وكيف هو عن براهين مؤلفة عن مقدمات صادقة ضرورية كلية أوائل يتقن بها وحصلت معلومة للعقل بالطبع. وهذا العلم صنفان: أحدهما أن يتيقن بوجود الشيء وسبب وجوده وأنه لا يمكن أن يكون غيره أصلا، لا هو ولا سببه. والثاني أن يتقين بوجوده وأنه لا يمكن أن يكون غيره من غير أن يوقف على سبب وجوده"(25) بل هو يؤكد على عقلانية العلم وموضوعيته موضحا: "العلم لا يحصل إلا ببرهان"(26) وكذلك: "يصير العلم نفسه الذي هو لاحق للشيء إذا حصل في النفس أن يكون معلوما أيضا، والمعلوم أيضا نفسه يكون معلوما، ويصبر المعقول معقولا، والمعقول أيضا معقولا، والعلم الذي بمعنى العلم أيضا معلوما وذلك بعلم آخر، وهكذا إلى غير نهاية"(27).

      ونلحظ هنا أن الفارابي وإن اعتمد على تعاريف اليونان وأسس انطلاقا من أفكار أفلاطون إلا أن يقرر مكانة للعلم ويفترض أن للعلم سلطة إن كان بضوابط ومعايير معينة، كما أنه يبلور إرهاصات الاقتناع بالعلم كوسيلة للوصول إلى "اليقين". وهنا نلمس بديلا جديدا - في سياق الفكر الإسلامي- للوحي للوصول إلى اليقين، وضبط آليات الوثوق من الطريق إلى الحقيقة. حيث يشرح "علم الشيء قد يكون بالقوة الناطقة وقد يكون بالمتخيلة وقد يكون بالإحساس"(28) وفي نظر الفارابي يأتي هذا عن طريق العلم بحسب تصنيفه الذي أوردنا.

      لكن ما أن ننتقل إلى الإمام الأشعري (266 – 324 / 879 – 935) وهو من أبرز علماء الكلام، هؤلاء الذين يمثلون من يمكن أن نسميهم بفلاسفة الفكر الإسلامي الأصيل، نجد أن مرجعيته لا تستند إلى الحضارة اليونانية - رغم أن المتكلمين ربما وظفوها كآله- وإنما المصادر الإسلامية الأساسية، أي القرآن والسنة ووسائل النظر المعتمدة بين المسلمين أو على الأقل بعض المسلمين. حيث نجد الإمام الأشعري من البداية يوضح أن "العلم صفة لله سبحانه في ذاته وأنه عالم في نفسه غير انه لا يوصف بأنه عالم حتى يكون الشيء، فإذا كان قيل عالم به، وما لم الشيء لم يوصف بأنه عالم به، لان الشيء ليس، وليس، وليس يصح العلم بما ليس، وهذا قول يحكي عن السكاكية"(29) وهو يؤكد نزعته الكلامية بوسائل مختلفة، فيوضح: "لم يزل الله عالما، والعلم صفه له في ذاته ولا يوصف بأنه عالم بالشيء حتى يكون"(30) ويتداخل مع غيره من علماء الكلام، فيقول: "كان الجُبَّائي لا يسمى العلم علما قبل كونه لأن اعتقاد الشيء على ما هو به بضرورة أو بديل" (31)، و"وأبو الهذيل كان يقول أن الإدراك يحل في القلب لا في العين وهو علم الاضطرار"(32).

      وكما هو معروف علم الكلام هو علم الجدل في تقديم المعتقدات وتفنيد أراء المذاهب والعقائد بل والملل الأخرى، لذا نجد أن الإمام الأشعري، لا يشير فقط لأقوال علماء كلام آخرين وإنما أيضا بتوسل بأسلوب الجد والردود على اعتراضات تدور حول القضية التي يعالجها، والتي تتعلق هنا بمفهوم العلم، فيقول: "إن قال قائل: لم قلتم: إن للباري تعالى علما به عُلِم؟ قيل له: لأن الصنائع الحكمية كما لا تقع منا إلا من عالم كذلك لا تحدث منا إلا من ذي علم، فلو لم تدل الصنائع على علم من ظهرت منه منا، لم تدل على ما ظهرت منه منا فهو عالم. فلو دلت على أن الباري تعالى عالم قياسا على دلالتها على أن علماء ولم تدل على أن له علما قياسا على دلالتها على أن لنا علما لجاز لزاعم أن يزعم أنها تدل على علمنا، ولا تدل على أننا علماء. وإذا لم يجز هذا لم يجز ما قاله هذا القائل"(33).

      وهكذا يتضح لنا أن مفهوم العلم عند الأشعري إنما يتصرف إلى صفة العلم عند الله كما يتناولها بعض من علماء الكلام، وأن التناول يتمحور حول هذه المعاني والدلالات الكلامية، مبتعدا عن مفهوم العلم كوسيلة يتوسل به المرء للوصول إلى يقين، فالممارسة والسياق الذي يتناول الأشعري فيه مفردة "العلم" إنما تدور في فلك إثبات صفة "العلم" لله وإثبات وجوده من خلال إقامة مقارنات تبسيطية بأعمال الإنسان.

      غير أننا سنجد أن محورية المفهوم ذاته، أي العلم، ستكون أقرب إلى معالجة وتناول الفلاسفة، عندما نتعرض لأفكار علماء كلام ذوي نزعة فلسفية عقلانية صارمة مثل المعتزلة، الذين كان الأشعري ينتمي لهم وخرج عليهم. وإذا أخذنا لتوضيح ذلك نموذجاً اعتزاليا متفوقا ومتأخرا هو القاضي عبد الجبار (320 – 415 / 932 – 1024)، نجده يرى أن "العلم رحمك الله إنما يُحتاج إليه لاجتلاب المنافع ودفع المضار، فهذا موضع الانتفاع يتقدمه الانتفاع ولولا ذلك لكان طلب العلم جهلا والرغبة في المعرفة عناء"(34) ويوضح: "أن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو به، فليس يصير المعلوم على ما هو به بالعلم، وإنما يصير العلم علما لأجل تعلقه بالمعلوم على ما هو به، وكذلك القول في الدلالة والخبر الصادق، ولولا أن الأمر كما قلنا لكان يلزم أن يكون المعلوم على ما هو عليه يحصل كذلك، والعلم يحصل علما لكون المعلوم على صفة مخصوصة، فيؤدي إلى تعلق كل واحد من الأمرين بصاحبه، وكذلك الحال في الدلالة والخبر الصادق" (35)، ويوضح مفهومه للعلم بقوله: "أن العلم يتعلق بالشيء على سائر وجوهه، وكذلك الاعتقاد والخبر. فلا يجب فيه ما ألزمناه في القدرة لأنها إنما تتعلق بالشيء على جهة الحدوث ومن حق المقدور أن يكون معدوما"(36) ويعلل ذلك بقوله: "أن العلم يقع بحسب النظر فيجب كونه متولدا دون ما عداه"(37)، وأن "لا فرق بين العلم وبين غالب الظن والاعتقاد، في أنه يصح معها أجمع أن ينظر في الشيء"(38)، ويدقق موضحاً "يسمى العلم تبينا وتحققا واستبصاراً إذا كان مستدركاً يعد شكاً.."(39).

      ورغم أننا نجد هنا مفهوماً للعلم يبتعد بنا عن ذلك الذي يبلوره الأشعري، حين ينحو القاضي عبد الجبار يقوم مفهوم أبستمولوجي العلم وليس مفهوما لا هويتا يتعلق بإثبات صفة العلم لله. لكن أسلوبه في التناول يقرب إلى المناطقة وعلماء أصول الفقه في نظرنا. ولا يغيب عنه انه عالم من علماء الكلام فهو مثلا يذكر: "أما وصف العلم بأنه وجود، فقد قال شيخنا أبو علي: إنه حقيقة فيما جرى عليه، لأنهم يصفون العارف لموضع ضالّته أنى وجدها"(40)، و"قد اختلف الناس في حد العلم اختلافا متباينا، فقال بعضهم: إن بالمعلوم هو الإحاطة به، ومنع أن يوصف تعالى بأنه يعلم.."(41)، وعلى طريقة علماء الكلام الجدل والردود والنقول من مقتضيات هذا المجال الفكري. فيذكر "قال ابن سينا: إنه مدرك ولولا ذلك لما وجد الإنسان نفسه عالما، لان هذا الوجود يرجع إلى إدراك العلم. .، وبأن العلم إنما وصف بأنه اعتقاد، من حيث شبه بعقد الحبل وأحكامه. ."(42).

      ونجد العديد من الأفكار التي يذكرها القاضي عبد الجبار حول مفهوم العلم يبرز فيها التناول الاعتزالي للمسألة. من ذلك ما تدل عليه هذه الشروحات:
      "اعلم أن كل علم يتعلق بظن، فلان من إمارة ترد ليحصل الظن للعاقل ويتبعه العلم. ومتى فقد الظن فقد بفقده العلم، لتعلق بعض ذلك ببعض"(43) أي أن القاضي عبد الجبار يوضح هنا وبشكل مباشر أن وظيفة العلم هي وضع ضوابط للظن للوصول إلى معرفة أعمق وأعقل، أو ليست هذه هي المهمة التي انبرى للقيام بها علماء الكلام للدفاع عن العقيدة! إذن ما يؤسس له القاضي من حدود وضوابط ومعايير للعلم أنما هي بنية يقيم عليها دفاعه عن العقيدة وهذا دون شك تصدر ومنطلق مختلف عما وجدنا عند الأشعري!.

      ولتأصيل هذا المفهوم، يعمل القاضي عبد الجبار جهده لتعميق وتأكيد مفهوم العلم بهدف ترسيخ القاعدة التي سيقيم عليها دفاعه عن العقائد. ولتوضيح نحتاج للمضي مع القاضي عبد الجبار باتجاه الثوابت التي يجعلها لمفهوم العلم وضوابطه، حيث يذكر: "أن العلم قد يكون علما وإن لم يكن المعلوم مدركا، فأبطلنا قول من لم يصحح العلم إلا بالمدرك، وبينا أن قولهم يقارب قول السوفسطائية، ودللنا على أن ما يتولد عن النظر علم في الحقيقة وأن العلم بالله سبحانه وتعالى وبسائر ما يلزم المكلف علم صحيح"(44) و"اعلم أنه لا طريق للعلم بالشيء أوضح من الإدراك، فمتى تناول الإدراك شيئا فقد استغنى في إثباته عن دليل لأن نهاية ما يبلغه المستدل على إثبات الشيء أن يرده إلى المدرك. فإذا حصل لا شيء مدركا فالواجب في إثباته أن يكون أصلا وأن يستغني عن دليل"(45).
      ويوضح القاضي في ضوابط العلم أيضا: "إنما يبطل أن يكون العلم بالمدركات متولدا لأنه لا يصح أن يشار إلى فعل فيقال أنه سبب له، لصحة وجود فعل يشار إليه مع صحة وجود العلم لما يحصل ولا يصح أن يكون الإدراك مولدا لما سنذكره من بعد، ولأن المدرك ليس بمدرك بإدراك عندنا، ولأنه لا يقع بحسب حال لها تأثير في الأفعال"(46)، وله الأقوال الدلالية التالية: "أما به يعلم أن العلم بالمشاهدات ضروري، فهو تعذر انتفائه على كل وجه، وإنما ينتفي بالسهو أو ما يجري مجراه" و"قيل علم ضروري. . العلم الذي يحصل فينا لا من قبلنا ولا يمكننا نفيه عن النفس بوجه من الوجوه" و"حد العلم الضروري (هو) العلم الذي لا يمكن للعالم نفيه عن نفسه بشك ولا شبهة وإن أنفرد" أما "العلم المكتسب إنما يستفاد بعد كمال العقل لأن من دونه لا يصح النظر ولا الاستدلال. .، أما التصديق فإنما يتعلق بالخبر لا بالمخبر. ."(47).

      ولعل المقارنة بين أفكار الأشعري والقاضي عبد الجبار، في سياق علم الكلام تصعب بسبب اختلاف المقاربات عند العالمين. فالأشعري يتناول مفهوم صفة العلم عند الله، أما ما يسعى إليه القاضي هو إقامة إطار وتأسيس "علمي" لعلم الكلام، فهو يؤطر ويؤسس لمفهوم العلم بما هو كذلك، وذلك على الأرجح بهدف لتوظيفه فيما بعد كوسيلة أو آلة لمعالجة القضايا التي تناولها في مصنفه الكلامي.

      ورغم أن القاضي يحيلنا إلى ابن سيناء، إلا أننا هنا سنتناول ابن سيناء بوصفه فيلسوفا أو فليسوفا متألّه بحسب التعبير المستحدث، وليس كلاميا، أو منظر لأفكار إشراقة. حيث نجد أنه يعرف العلم باعتباره: "العلم هو أن يدرك الأشياء التي من شأن العقل الإنساني أن يدركها إدراكا لا يلحقه فيها خطأ ولا زلل. فإن كان ذلك بالحجج اليقينية والبراهين الحقيقية يسمى ذلك حكمة"(48) ويؤكد على أن: "البحث في كل علم هو عن لواحق موضوعه لا عن مبادئه"(49). ثم يشرح أن: "العلم هيئة تحصل في العالم توجد مع وجود المعلوم وتبطل مع عدمه، فبطلان العلم مع عدم ذات الشيء المعلوم يعني الأمر الذي له المعلوم حقيقة، وهو الذي هو من خارج، بل العالمية أمر زائد على التضايف الذي بينهما"(50)، وكذلك "العلم ليس هو وجود المعلوم في ذاته، إذ ليس وجود الشيء في ذاته سببا لحصول العلم، وإلا لم يكن علم بالمعدوم، بل العلم وجود هيئة في ذات العالم، فالشيء إذا كان معلوما ثم يصير لا معلوما فالحالة تتغير في العالم، لا لنفس الإضافة المطلقة" وفي نظره" العلم اعتقاد بأن الشيء كذا ولا يمكن أن لا يكون كذا، وبواسطة توجيه والشيء كذلك، وقد يقال لتصور الماهية بتحديد"(51) ويوضح ابن سينا فهماً إشراقياً للعلم فيذكر: "العلم هو حصول صورة المعلومات في النفس، وليس نعني به أن تلك الذوات تحصل في النفس، بل آثار منها ورسوم وصور الموجودات مرتسمة في ذات الباري؛ إذ هي معلومات له وعلمه لها سبب وجودها"(52) ويوضح: "ليس كل علم ببرهان، وأن بعض ما يعلم يعلم بذاته بلا وسط فتكون عنده النهاية في التحليل، فيكون هو وما يجرى مجراه المبدأ الذي تنتهي إليه مقدمات البراهين"(53)، و"أن العلم هو المكتسب من صور الموجودات مجردة من موادها، وهي صور وجواهر وأعراض"(54).

      ولقد اهتم ابن سيناء بما أسماه "العلم الإلهي" وهو يرى أن هذا العلم يقوم على أساس خمسة أقسام أصلية: "الأقسام الأصلية للعلم الإلهي هي خمسة: الأول منها النظر في معرفة المعاني العامة لجميع الموجودات من الهوية والوحدة والكثرة والوفاق والخلاف والتضاد والقوة والفعل والعلة والمعلول. والقسم الثاني: هو النظر في الأصول والمبادئ مثل علم الطبيعيين والرياضيين وعلم المنطق ومناقضة الآراء الفاسدة فيها. والقسم الثالث: هو النظر في إثبات الحق الأول وتوحيده والدلالة على تفرده وربوبيته. .
      والقسم الرابع: هو النظر في إثبات الجواهر الأول الروحانية التي هي مبدعاته وأقرب مخلوقاته منزله عنده. والقسم الخامس: في تسخير الجواهر الجسمانية السماوية والأرضية لتلك الجواهر الروحانية التي بعضها عاملة في محركة وبعضها آمرة مروية عن رب العالمين وحيه وأمره"(55).

      ويفصّل ابن سيناء موضحاً فروع العلم الإلهي: ". . فمن ذلك معرفة كيفية نزول الوحي والجواهر الروحانية التي تؤدي الوحي، وإن الوحي كيف يتأدى حتى يصير مبصراً ومسموعا بعد روحانيته، وأن الذي يأتي خاصة تكون له تصدر عنه المعجزات المخالفة لمجرى الطبيعة وكيف يخبر بالغيب، وأن الأبرار الأتقياء كيف يكون لهم إلهام شبيه بالوحي وكرامات تشبه المعجزات وما الروح الأمين روح القدس وأن الروح الأمين من طبقات الجواهر الروحانية الثانية وأن روح القدس من طبقة الكرويين. ومن ذلك علم المعاد ويشتمل على تعريف الإنسان لو لم يبعث بدنه مثلا لكان له ببقاء روحه بعد موته ثواب وعقاب غير بدنيين، وكانت الروح التقية التي هي النفس المطمئنة الصحيحة الاعتقاد للحق العاملة بالخير الذي يوجبه الشرع والعقل فائزة بسعادة وغبطة ولذة فوق كل سعادة وغبطة ولذة، وأنها أجل من الذي صح بالشرع ولم يخالفه العقل إنها تكون لبدنه إلا أن الله تعالى أكرم عباده المتقين على لسان رسله عليهم السلام بموعد بالجمع بين السعادتين الروحانية ببقاء النفس والجسمانية ببعث البدن الذي عليه قدير إن شاء هو ومتى شاء هو"(56).

      يتـبع

      اللهم اجعلني خيرا مما يظنون
      ولاتؤاخذني بما يقولون
      واغفر لي مالا يعلمون

      تعليق


      • #4
        رد: تطور مفهوم العلم في الفكر الإسلامي


        غير أننا سرعان ما سنلاحظ، مع نهاية القرن الثاني الهجري وبتأثير واضح من الفلسفة اليونانية، أن هذا المفهوم القرآني "للعلم" سينحو إلى تحولات عميقة في الدلالة. فهذا الكندي (185 – 252 / 801 – 866) يقدم الاهتمام بمعرفة الأشياء بوصفها الوسيلة الموصلة إلى معرفة الحقيقة، حيث يؤكد "العلم: وجدان الأشياء بحقائقها"(19) لكنه يوضح أن غاية "العلم" تقود إلى المعاني التي أشار لها المصدر القرآني: "علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية وعلم الوحدانية وعلم الفضيلة وجملة علم كل نافع والسبيل إليه"(20) لكنه (أي الكندي) رغم ارتباطه بالمعاني القرآنية السامية، إلا أن أثر الفلسفة واضح على ما يكتب: "إعطاء العلة والبرهان من قيمة علم الأشياء بحقائقها"(21).
        وهو يذهب للتأكيد على أن للعلم قيمة في ذاته دون توضيح ماهية تلك القيمة، "لا نطلب في العلم الرياضي إقناعا ولا في العلم الإلهي حسا ولا تمثيلا ولا في أوائل العلم الطبيعي الجوامع الفكرية ولا في البلاغة برهانا ولا في أوائل البرهان برهانا"(22) ربما لأن العلم موجه ودليل: "أما الذي جهلوا فضل العلم على العمل فهم الذين لم يتعلموا أن العلم بكل شيء قبل فعله، وأنه لا سبيل إلى إظهار شيء على صواب حتى يثبت في الفكر معلوما، وفي الطبع مفهوما وفي النفس معقولا ثم يظهر معقولا محسوسا مجسما ملموسا. وقد نجد من عمل شيئا من غير علم ولا روية – وكان كذلك في الطبيعة موجودا – ولم يعلم أصواب هو أم خطأ. فإن وقع له فيها على الصواب لم يعلم العلة فيه وإن سئل عن ذلك لم يحسن أن يأتي عليه بحجة يعبرها عن نفسه، فليس إذن يحمد من كان هذا منزلته لأنه لم يتقدم فيعلم العلة فيما صنع"(23).

        وهكذا فإن الكندي يقدم معرفة "العلة" على الفهم العقلاني، ولعل في ذلك إشارة إلى معنى قرآني في أهمية ومحورية العلم بحقائق الأشياء لمزيد من الإيمان ولكن مع التأكيد على أن يكون ذلك عن طريق العقل والتفكير العقلاني. كذلك نلحظ عند الكندي بداية تشعب مفهوم العلم ووسائله وكذلك وظائفه، مع ذلك فأن تصنيفات الكندي لم تبتعد كثيرا عن مجال المعرفة والفكر العربي الإسلامي، لتتحول إلى مجرد عاكسة للتصنيفات اليونانية، وإن وجدت في متنه الفلسفي.

        أما الفارابي (257–339هـ/780–950م) فإنه يستعرض أولا مفهوم العلم عند فلاسفة اليونان، كما في قوله: "قال أفلاطون: عطية العلم شبيهة بمواهب الله عز وجل، لأنها لا تتخذ عند الجود، ولكنها تكون بكمالها عند مفيدها. وقال: من فضيلة العلم أنك لا تستطيع أن يخدمك فيه أحد كما يخدمك في سائر الأشياء وإنما تخدمه بنفسك ولا يستطيع أحد أن يسلبك إياه كما يسلبك غيره من التقنيات"(24) رغم ذلك سنجد تحولا مهما عند الفارابي في تعريفه للعلم وتحديد مداه ووظائفه، حيث يذهب للقول: "اسم العلم يقع على أشياء كثيرة، إلا أن العلم الذي هو فضيلة ما للجزء النظري، هو أن يحصل في النفسي اليقين بوجود الموجودات التي وجودها وقوامها لا يضع إنسان أصلا. وما هو كل واحد منها وكيف هو عن براهين مؤلفة عن مقدمات صادقة ضرورية كلية أوائل يتقن بها وحصلت معلومة للعقل بالطبع. وهذا العلم صنفان: أحدهما أن يتيقن بوجود الشيء وسبب وجوده وأنه لا يمكن أن يكون غيره أصلا، لا هو ولا سببه. والثاني أن يتقين بوجوده وأنه لا يمكن أن يكون غيره من غير أن يوقف على سبب وجوده"(25) بل هو يؤكد على عقلانية العلم وموضوعيته موضحا: "العلم لا يحصل إلا ببرهان"(26) وكذلك: "يصير العلم نفسه الذي هو لاحق للشيء إذا حصل في النفس أن يكون معلوما أيضا، والمعلوم أيضا نفسه يكون معلوما، ويصبر المعقول معقولا، والمعقول أيضا معقولا، والعلم الذي بمعنى العلم أيضا معلوما وذلك بعلم آخر، وهكذا إلى غير نهاية"(27).

        ونلحظ هنا أن الفارابي وإن اعتمد على تعاريف اليونان وأسس انطلاقا من أفكار أفلاطون إلا أن يقرر مكانة للعلم ويفترض أن للعلم سلطة إن كان بضوابط ومعايير معينة، كما أنه يبلور إرهاصات الاقتناع بالعلم كوسيلة للوصول إلى "اليقين". وهنا نلمس بديلا جديدا - في سياق الفكر الإسلامي- للوحي للوصول إلى اليقين، وضبط آليات الوثوق من الطريق إلى الحقيقة. حيث يشرح "علم الشيء قد يكون بالقوة الناطقة وقد يكون بالمتخيلة وقد يكون بالإحساس"(28) وفي نظر الفارابي يأتي هذا عن طريق العلم بحسب تصنيفه الذي أوردنا.

        لكن ما أن ننتقل إلى الإمام الأشعري (266 – 324 / 879 – 935) وهو من أبرز علماء الكلام، هؤلاء الذين يمثلون من يمكن أن نسميهم بفلاسفة الفكر الإسلامي الأصيل، نجد أن مرجعيته لا تستند إلى الحضارة اليونانية - رغم أن المتكلمين ربما وظفوها كآله- وإنما المصادر الإسلامية الأساسية، أي القرآن والسنة ووسائل النظر المعتمدة بين المسلمين أو على الأقل بعض المسلمين. حيث نجد الإمام الأشعري من البداية يوضح أن "العلم صفة لله سبحانه في ذاته وأنه عالم في نفسه غير انه لا يوصف بأنه عالم حتى يكون الشيء، فإذا كان قيل عالم به، وما لم الشيء لم يوصف بأنه عالم به، لان الشيء ليس، وليس، وليس يصح العلم بما ليس، وهذا قول يحكي عن السكاكية"(29) وهو يؤكد نزعته الكلامية بوسائل مختلفة، فيوضح: "لم يزل الله عالما، والعلم صفه له في ذاته ولا يوصف بأنه عالم بالشيء حتى يكون"(30) ويتداخل مع غيره من علماء الكلام، فيقول: "كان الجُبَّائي لا يسمى العلم علما قبل كونه لأن اعتقاد الشيء على ما هو به بضرورة أو بديل" (31)، و"وأبو الهذيل كان يقول أن الإدراك يحل في القلب لا في العين وهو علم الاضطرار"(32).

        وكما هو معروف علم الكلام هو علم الجدل في تقديم المعتقدات وتفنيد أراء المذاهب والعقائد بل والملل الأخرى، لذا نجد أن الإمام الأشعري، لا يشير فقط لأقوال علماء كلام آخرين وإنما أيضا بتوسل بأسلوب الجد والردود على اعتراضات تدور حول القضية التي يعالجها، والتي تتعلق هنا بمفهوم العلم، فيقول: "إن قال قائل: لم قلتم: إن للباري تعالى علما به عُلِم؟ قيل له: لأن الصنائع الحكمية كما لا تقع منا إلا من عالم كذلك لا تحدث منا إلا من ذي علم، فلو لم تدل الصنائع على علم من ظهرت منه منا، لم تدل على ما ظهرت منه منا فهو عالم. فلو دلت على أن الباري تعالى عالم قياسا على دلالتها على أن علماء ولم تدل على أن له علما قياسا على دلالتها على أن لنا علما لجاز لزاعم أن يزعم أنها تدل على علمنا، ولا تدل على أننا علماء. وإذا لم يجز هذا لم يجز ما قاله هذا القائل"(33).

        وهكذا يتضح لنا أن مفهوم العلم عند الأشعري إنما يتصرف إلى صفة العلم عند الله كما يتناولها بعض من علماء الكلام، وأن التناول يتمحور حول هذه المعاني والدلالات الكلامية، مبتعدا عن مفهوم العلم كوسيلة يتوسل به المرء للوصول إلى يقين، فالممارسة والسياق الذي يتناول الأشعري فيه مفردة "العلم" إنما تدور في فلك إثبات صفة "العلم" لله وإثبات وجوده من خلال إقامة مقارنات تبسيطية بأعمال الإنسان.

        غير أننا سنجد أن محورية المفهوم ذاته، أي العلم، ستكون أقرب إلى معالجة وتناول الفلاسفة، عندما نتعرض لأفكار علماء كلام ذوي نزعة فلسفية عقلانية صارمة مثل المعتزلة، الذين كان الأشعري ينتمي لهم وخرج عليهم. وإذا أخذنا لتوضيح ذلك نموذجاً اعتزاليا متفوقا ومتأخرا هو القاضي عبد الجبار (320 – 415 / 932 – 1024)، نجده يرى أن "العلم رحمك الله إنما يُحتاج إليه لاجتلاب المنافع ودفع المضار، فهذا موضع الانتفاع يتقدمه الانتفاع ولولا ذلك لكان طلب العلم جهلا والرغبة في المعرفة عناء"(34) ويوضح: "أن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو به، فليس يصير المعلوم على ما هو به بالعلم، وإنما يصير العلم علما لأجل تعلقه بالمعلوم على ما هو به، وكذلك القول في الدلالة والخبر الصادق، ولولا أن الأمر كما قلنا لكان يلزم أن يكون المعلوم على ما هو عليه يحصل كذلك، والعلم يحصل علما لكون المعلوم على صفة مخصوصة، فيؤدي إلى تعلق كل واحد من الأمرين بصاحبه، وكذلك الحال في الدلالة والخبر الصادق" (35)، ويوضح مفهومه للعلم بقوله: "أن العلم يتعلق بالشيء على سائر وجوهه، وكذلك الاعتقاد والخبر. فلا يجب فيه ما ألزمناه في القدرة لأنها إنما تتعلق بالشيء على جهة الحدوث ومن حق المقدور أن يكون معدوما"(36) ويعلل ذلك بقوله: "أن العلم يقع بحسب النظر فيجب كونه متولدا دون ما عداه"(37)، وأن "لا فرق بين العلم وبين غالب الظن والاعتقاد، في أنه يصح معها أجمع أن ينظر في الشيء"(38)، ويدقق موضحاً "يسمى العلم تبينا وتحققا واستبصاراً إذا كان مستدركاً يعد شكاً.."(39).

        ورغم أننا نجد هنا مفهوماً للعلم يبتعد بنا عن ذلك الذي يبلوره الأشعري، حين ينحو القاضي عبد الجبار يقوم مفهوم أبستمولوجي العلم وليس مفهوما لا هويتا يتعلق بإثبات صفة العلم لله. لكن أسلوبه في التناول يقرب إلى المناطقة وعلماء أصول الفقه في نظرنا. ولا يغيب عنه انه عالم من علماء الكلام فهو مثلا يذكر: "أما وصف العلم بأنه وجود، فقد قال شيخنا أبو علي: إنه حقيقة فيما جرى عليه، لأنهم يصفون العارف لموضع ضالّته أنى وجدها"(40)، و"قد اختلف الناس في حد العلم اختلافا متباينا، فقال بعضهم: إن بالمعلوم هو الإحاطة به، ومنع أن يوصف تعالى بأنه يعلم.."(41)، وعلى طريقة علماء الكلام الجدل والردود والنقول من مقتضيات هذا المجال الفكري. فيذكر "قال ابن سينا: إنه مدرك ولولا ذلك لما وجد الإنسان نفسه عالما، لان هذا الوجود يرجع إلى إدراك العلم. .، وبأن العلم إنما وصف بأنه اعتقاد، من حيث شبه بعقد الحبل وأحكامه. ."(42).

        ونجد العديد من الأفكار التي يذكرها القاضي عبد الجبار حول مفهوم العلم يبرز فيها التناول الاعتزالي للمسألة. من ذلك ما تدل عليه هذه الشروحات:
        "اعلم أن كل علم يتعلق بظن، فلان من إمارة ترد ليحصل الظن للعاقل ويتبعه العلم. ومتى فقد الظن فقد بفقده العلم، لتعلق بعض ذلك ببعض"(43) أي أن القاضي عبد الجبار يوضح هنا وبشكل مباشر أن وظيفة العلم هي وضع ضوابط للظن للوصول إلى معرفة أعمق وأعقل، أو ليست هذه هي المهمة التي انبرى للقيام بها علماء الكلام للدفاع عن العقيدة! إذن ما يؤسس له القاضي من حدود وضوابط ومعايير للعلم أنما هي بنية يقيم عليها دفاعه عن العقيدة وهذا دون شك تصدر ومنطلق مختلف عما وجدنا عند الأشعري!.

        ولتأصيل هذا المفهوم، يعمل القاضي عبد الجبار جهده لتعميق وتأكيد مفهوم العلم بهدف ترسيخ القاعدة التي سيقيم عليها دفاعه عن العقائد. ولتوضيح نحتاج للمضي مع القاضي عبد الجبار باتجاه الثوابت التي يجعلها لمفهوم العلم وضوابطه، حيث يذكر: "أن العلم قد يكون علما وإن لم يكن المعلوم مدركا، فأبطلنا قول من لم يصحح العلم إلا بالمدرك، وبينا أن قولهم يقارب قول السوفسطائية، ودللنا على أن ما يتولد عن النظر علم في الحقيقة وأن العلم بالله سبحانه وتعالى وبسائر ما يلزم المكلف علم صحيح"(44) و"اعلم أنه لا طريق للعلم بالشيء أوضح من الإدراك، فمتى تناول الإدراك شيئا فقد استغنى في إثباته عن دليل لأن نهاية ما يبلغه المستدل على إثبات الشيء أن يرده إلى المدرك. فإذا حصل لا شيء مدركا فالواجب في إثباته أن يكون أصلا وأن يستغني عن دليل"(45).
        ويوضح القاضي في ضوابط العلم أيضا: "إنما يبطل أن يكون العلم بالمدركات متولدا لأنه لا يصح أن يشار إلى فعل فيقال أنه سبب له، لصحة وجود فعل يشار إليه مع صحة وجود العلم لما يحصل ولا يصح أن يكون الإدراك مولدا لما سنذكره من بعد، ولأن المدرك ليس بمدرك بإدراك عندنا، ولأنه لا يقع بحسب حال لها تأثير في الأفعال"(46)، وله الأقوال الدلالية التالية: "أما به يعلم أن العلم بالمشاهدات ضروري، فهو تعذر انتفائه على كل وجه، وإنما ينتفي بالسهو أو ما يجري مجراه" و"قيل علم ضروري. . العلم الذي يحصل فينا لا من قبلنا ولا يمكننا نفيه عن النفس بوجه من الوجوه" و"حد العلم الضروري (هو) العلم الذي لا يمكن للعالم نفيه عن نفسه بشك ولا شبهة وإن أنفرد" أما "العلم المكتسب إنما يستفاد بعد كمال العقل لأن من دونه لا يصح النظر ولا الاستدلال. .، أما التصديق فإنما يتعلق بالخبر لا بالمخبر. ."(47).

        ولعل المقارنة بين أفكار الأشعري والقاضي عبد الجبار، في سياق علم الكلام تصعب بسبب اختلاف المقاربات عند العالمين. فالأشعري يتناول مفهوم صفة العلم عند الله، أما ما يسعى إليه القاضي هو إقامة إطار وتأسيس "علمي" لعلم الكلام، فهو يؤطر ويؤسس لمفهوم العلم بما هو كذلك، وذلك على الأرجح بهدف لتوظيفه فيما بعد كوسيلة أو آلة لمعالجة القضايا التي تناولها في مصنفه الكلامي.

        ورغم أن القاضي يحيلنا إلى ابن سيناء، إلا أننا هنا سنتناول ابن سيناء بوصفه فيلسوفا أو فليسوفا متألّه بحسب التعبير المستحدث، وليس كلاميا، أو منظر لأفكار إشراقة. حيث نجد أنه يعرف العلم باعتباره: "العلم هو أن يدرك الأشياء التي من شأن العقل الإنساني أن يدركها إدراكا لا يلحقه فيها خطأ ولا زلل. فإن كان ذلك بالحجج اليقينية والبراهين الحقيقية يسمى ذلك حكمة"(48) ويؤكد على أن: "البحث في كل علم هو عن لواحق موضوعه لا عن مبادئه"(49). ثم يشرح أن: "العلم هيئة تحصل في العالم توجد مع وجود المعلوم وتبطل مع عدمه، فبطلان العلم مع عدم ذات الشيء المعلوم يعني الأمر الذي له المعلوم حقيقة، وهو الذي هو من خارج، بل العالمية أمر زائد على التضايف الذي بينهما"(50)، وكذلك "العلم ليس هو وجود المعلوم في ذاته، إذ ليس وجود الشيء في ذاته سببا لحصول العلم، وإلا لم يكن علم بالمعدوم، بل العلم وجود هيئة في ذات العالم، فالشيء إذا كان معلوما ثم يصير لا معلوما فالحالة تتغير في العالم، لا لنفس الإضافة المطلقة" وفي نظره" العلم اعتقاد بأن الشيء كذا ولا يمكن أن لا يكون كذا، وبواسطة توجيه والشيء كذلك، وقد يقال لتصور الماهية بتحديد"(51) ويوضح ابن سينا فهماً إشراقياً للعلم فيذكر: "العلم هو حصول صورة المعلومات في النفس، وليس نعني به أن تلك الذوات تحصل في النفس، بل آثار منها ورسوم وصور الموجودات مرتسمة في ذات الباري؛ إذ هي معلومات له وعلمه لها سبب وجودها"(52) ويوضح: "ليس كل علم ببرهان، وأن بعض ما يعلم يعلم بذاته بلا وسط فتكون عنده النهاية في التحليل، فيكون هو وما يجرى مجراه المبدأ الذي تنتهي إليه مقدمات البراهين"(53)، و"أن العلم هو المكتسب من صور الموجودات مجردة من موادها، وهي صور وجواهر وأعراض"(54).

        ولقد اهتم ابن سيناء بما أسماه "العلم الإلهي" وهو يرى أن هذا العلم يقوم على أساس خمسة أقسام أصلية: "الأقسام الأصلية للعلم الإلهي هي خمسة: الأول منها النظر في معرفة المعاني العامة لجميع الموجودات من الهوية والوحدة والكثرة والوفاق والخلاف والتضاد والقوة والفعل والعلة والمعلول. والقسم الثاني: هو النظر في الأصول والمبادئ مثل علم الطبيعيين والرياضيين وعلم المنطق ومناقضة الآراء الفاسدة فيها. والقسم الثالث: هو النظر في إثبات الحق الأول وتوحيده والدلالة على تفرده وربوبيته. .
        والقسم الرابع: هو النظر في إثبات الجواهر الأول الروحانية التي هي مبدعاته وأقرب مخلوقاته منزله عنده. والقسم الخامس: في تسخير الجواهر الجسمانية السماوية والأرضية لتلك الجواهر الروحانية التي بعضها عاملة في محركة وبعضها آمرة مروية عن رب العالمين وحيه وأمره"(55).

        ويفصّل ابن سيناء موضحاً فروع العلم الإلهي: ". . فمن ذلك معرفة كيفية نزول الوحي والجواهر الروحانية التي تؤدي الوحي، وإن الوحي كيف يتأدى حتى يصير مبصراً ومسموعا بعد روحانيته، وأن الذي يأتي خاصة تكون له تصدر عنه المعجزات المخالفة لمجرى الطبيعة وكيف يخبر بالغيب، وأن الأبرار الأتقياء كيف يكون لهم إلهام شبيه بالوحي وكرامات تشبه المعجزات وما الروح الأمين روح القدس وأن الروح الأمين من طبقات الجواهر الروحانية الثانية وأن روح القدس من طبقة الكرويين. ومن ذلك علم المعاد ويشتمل على تعريف الإنسان لو لم يبعث بدنه مثلا لكان له ببقاء روحه بعد موته ثواب وعقاب غير بدنيين، وكانت الروح التقية التي هي النفس المطمئنة الصحيحة الاعتقاد للحق العاملة بالخير الذي يوجبه الشرع والعقل فائزة بسعادة وغبطة ولذة فوق كل سعادة وغبطة ولذة، وأنها أجل من الذي صح بالشرع ولم يخالفه العقل إنها تكون لبدنه إلا أن الله تعالى أكرم عباده المتقين على لسان رسله عليهم السلام بموعد بالجمع بين السعادتين الروحانية ببقاء النفس والجسمانية ببعث البدن الذي عليه قدير إن شاء هو ومتى شاء هو"(56).

        يتـبع

        اللهم اجعلني خيرا مما يظنون
        ولاتؤاخذني بما يقولون
        واغفر لي مالا يعلمون

        تعليق


        • #5
          رد: تطور مفهوم العلم في الفكر الإسلامي

          ويؤكد ابن سيناء على البعد العرفاني الإشراقي فيوضح: "العلم الكلي هو العلم الإلهي والعلم الناظر فيما بعد الطبيعة،وموضوعه الوجود المطلق والمطلوب فيه المبادئ العامة واللواحق العامة" (57) ويستدرك موضحا: "هذا العلم الكلي هو العلم الإلهي ويسمى فلسفة أولى وعلم ما بعد الطبيعة باعتبارات. أم كونه إلهيا فهو لأنه ثمرته معرفة الإله تعالى وملائكته. وأما كونه فلسفة أولى فهو بأنه معرفة المبادئ الأولية والصفات الكلية العامة التي هي علم أول يتوصل منها إلى معرفة ما هي له مبادئ أما كونه علم ما بعد الطبيعية فذلك أمر نسبي يعنى به أنه بعد الأمور الطبيعية المحسوسة في المعرفة بالنسبة إلينا، وأن تقدم وجوده على وجودها"(58).
          "العلم الإلهي إذا موضوعه هو الوجود من حيث هو موجود، ومطلوبه ما يعرض الموجود بما هو موجود بلا شرط، وتمامه الوقوف على المبادئ الأول بما هي مباد له من الموجودات وعلى التناسب الواقع بينها، ونسبتها إلى الأولى الذي ليس له أول وما يخصها يعممها. وهذا النظر يعم جميع العلوم التي هي كلي عام، وإنما يتخصص في المطلب حتى تنتهي إلى مبادئ العلوم الجزئية إذ كانت مبادئها من الموجودات. والموجود المطلق أعم منها ويساويه في العموم الواحد، فإن كل ما يقال له موجود يقال له واحد أيضا، فالنظر في هذا العلم يشتمل على الواحد ولواحقه. ولما كان العلم بالمتقابلات واحدا لزم أن ينظر في هذا العلم أيضا في العدم والكثرة. ثم ينظر فيما ينقسم الوجود إليه مما يقوم مقام الأنواع المتمايزة بالفصول وهي المقولات العشر للموجود، وفي لواحقه كالقوة والفعل والواحد والكثرة والتمام والنقصان والعلة والمعلول"(59).

          وتقدم كتب ابن سيناء أحاديث مطولة عن مفهوم العلم متشربة بفكر الفلسفة الإشراقية، فهو يتناول مفهوم "علم الحقيقة" والتي يعرفها: "ما يكون صادقا ونفسه في الزمان كله، لا في بعض دون بعض"(60) وكذلك فكرة "علم تصديقي" و"علم التعبير" ونحو ذلك، لكنه يوظف بطبيعة الحال المفاهيم والآراء التي صاغتها أطروحات الفلسفة اليونانية أيضا. ويظهر لنا أن ابن سيناء قد أوغل مبتعداً بالفكر الإسلامي في ثنايا مفاهيم وأفكار "فلسفية" تجريدية، لعلها وضعت للخاصة والمثقفين، الأمر الذي دفع بعض "العلماء" لمحاولة إعادة التوازن في هذا السياق، والسعي لحماية الجمهور غير المتخصص من تأثير هذه الأفكار. حيث نجد في هذا الاتجاه الإمام الغزالي (450 – 505 / 1059 – 1111) الذي شكل منعطفا مهما على مستوى علم الكلام والفلسفة وإعادة صياغة مفهوم العلم، ونهض بالأحرى بهدف "حماية" عقائد العامة إلى نقد الفلسفة والاستعداء على المتفلسفين. وهو في هذا السياق يعرف العلم باعتباره: "العلم. . ينقسم إلى علم معاملة وعلم مكاشفة، وليس المراد بهذا العلم إلا علم المعاملة. والمعاملة التي كلف العبد العاقل البالغ العمل بها ثلاث: اعتقاد وفعل وترك"(61)، و"العلم هو معرفة الشيء على ما هو به وهو من صفات الله تعالى، فكيف يكون الشيء علما ويكون مع كونه علما مذموما؟ فاعلم أن العلم لا يذم لعينه وإنما يذم في حق العباد لأحد أسباب ثلاثة: الأول أن يكون مؤديا إلى ضرر ما إما لصاحبه أو لغيره، كما يذم علم السحر والطلسمات وهو حق، إذ شهد القرآن له وأنه سبب يتوصل به إلى التفريق بين الزوجين . . . والثاني أن يكون مضرا لصاحبه في غالب الأمر، كعلم النجوم . . . والثالث الخوض في علم لا يستفيد الخائض فيه فائدة علم، فهو مذموم في حقه كتعلم دقيق العلوم قبل جليلها وخفيها قبل جليها، كالبحث عن الأسرار الإلهية"(62)، ويملك العلم في نظر الغزالي بعدا صوفيا، من حيث أن: "العلم عبادة القلب وصلاة السر وقربة الباطن إلى الله تعالى. وكما لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف"(63) ومن ثم فإن آداب تحصيله هي الأخرى ذات بعد صوفي: "العلم يقتنى كما يقتنى المال، فله حال طلب واكتساب وحال تحصيل يغني عن السؤال، وحال استبصار وهو التفكر في المحصل والتمتع به وحال تبصير وهو أشرف الأحوال"(64).

          ونظرا لأن الغزالي ينطلق من رسالة وهدف غايته تسخير "العلم" لإعادة عامة وجمهور الأمة والدفاع عن الدين، كانت منطلقات الغزالي ذات طبيعة تبشيرية رسالية تهتم بإعادة الناس لملتهم وعباداتهم أكثر من توجهها للتطلعات واهتمامات الخاصة، لذا سنرى تحولا من الاهتمام بالعلم كمعيار لضبط المعرفة، إلى اعتبار وظيفته والتأكيد عليها، مع إعادة تصنيف للعلم وللمعرفة، بالنسبة للأمر الأخير نجد الغزالي يؤكد: "العلم هو العلم بالأمور الدينية والأخروية والحقائق العقلية"(65) ويؤكد: "العلم بلا عمل جنون والعمل بغير علم لا يكون، واعلم أن العلم لا يبعدك اليوم عن المعاصي ولا يحملك على الطاعة ولن يبعدك غدا عن نار جهنم وإذا لم تعمل اليوم ولم تدارك الأيام الماضية تقول غدا يوم القيامة فارجعنا نعمل صالحا"( 66) ويوضح: "من ليس له علم فليس له عز في الدنيا ولا في الآخرة ومن ليس له صبر فما له سلامة في دينه ولا دنياه، ومن كان جاهلا لم ينتفع بعلمه ومن لا تقوى له فما له عند الله كرامة ومن لا سخاء له فما له من ماله نصيب ومن لا نصيحة له فما له عند الله حجة "(67) وهكذا يتضح لنا كيف أن فكر الغزالي شكل تحولا جذريا في مفهوم العلم بالقياس إلى ما كان يقول به سابقوه من علماء الأمة. ونجد أن الغزالي يركز على ماهية العلم ويحوّلها إلى "العلم الشرعي"، والروحي في مرحلة من حياته. فهو يؤكد "أن العلم يستدعي معلوما"(68)، وهذا المفهوم عنده له تبعات: "تغير المعلوم يوجب تغير العلم، فإن حقيقة ذات العلم تدخل فيه الإضافة إلى المعلوم الخاص؛ إذ حقيقة العلم المعين تعلقه بذلك المعلوم، المعين على ما هو عليه، فتعلقه على وجه آخر علم آخر بالضرورة فتعاقبها يوجب اختلاف حال العالم"(69) وفي نظره "العلم من صفات ذات النفس" و"العلم تصور النفس الناطقة المطمئنة حقائق الأشياء وصورها المجردة عن المواد بأعيانها وكيفياتها وكمياتها وجواهرها وذواتها إن كانت مفردة والعالم هو المحيط المدرك المتصور. والمعلوم هو ذات الشيء الذي ينتقش علمه في النفس. وشرف العلم على قدر شرف معلومه، ورتبة العالم تكون بحسب رتبة العلم"(70).

          وتختلف أقسام العلم عند الغزالي عنها عند ابن سيناء، فهو يرى أن "العلم على قسمين: أحدهما شرعي، والآخر عقلي. وأكثر العلوم الشرعية عقلية عند عالمها وأكثر العلوم العقلية شرعية عند عارفها"(71) ويستطرد: "العلم ينقسم إلى أولي، وإلى مطلوب. فالمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالجد والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب لا يقتنص إلا بالحجة والبرهان وهو القياس"( 72) ولتوضيح موضوع العلم يشرح الغزالي: "الشيء له في الوجود أربع مراتب: الأولى حقيقته في نفسه والثانية ثبوت مثال حقيقته في الذهن وهو الذي يعبر عنه بالعلم والثالثة تأليف مثاله بحروف تدل عليه وهي العبارة الدالة على المثال الذي في النفس والرابعة تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ وهي الكتابة. والكتابة تبع اللفظ إذ تدل عليه واللفظ تبع العلم الذي يدل عليه والعلم تبع المعلوم إذ يطابقه ويوافقه. وهذه الأربعة متوافقة متطابقة متوازنة إلا أن الأولين وجودان حقيقان لا يختلفان بالإعصار والأخريان وهما اللفظ والكتابة تختلف بالإعصار والأمم موضوعة بالاختيار"(73) ويستطرد موضحا: "العلم ينقسم إلى أولى كالضروريات وإلى مطلوب كالنظريات"(74). لكنه يعود ويؤكد مفهومه للعلم أو بالأصح ما يتطلع التأكيد عليه كوظيفة العلم: "العلم النافع ما يزيد في خوفك من الله ويزيد بصيرتك بعيوب نفسك ويزيد من معرفتك بعبادة ربك ويفتح بصيرتك بآفات أعمالك حتى تحترز منها"(75)، و"العلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم وإلى ما هو مباح، فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وهو قد يكون فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة. أما فرض الكفاية فهو علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا مثل الطب والحساب وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها جرح أهل البلد وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين"(76)، ويؤكد: "العلم عبادة النفس وفي لسان الشرع عبادة القلب، فلا يصح إلا بالمظاهرة القلب عن خبائث الأخلاق وأنجاس الصفات"(77). ولما كان العلم غايته تحصيل المعرفة الشرعية كانت الوسائل في تحصيله موضوع نظر وأجر، حيث يخبرنا الغزالي: "العلم أشرف جوهرا من العبادة، لكن لابد للعبد من العبادة مع العلم . . فإن العلم بمنزلة الشجرة والعبادة بمنزلة ثمرة من ثمراتها، فالشرف للشجرة وهي الأصل لكن الانتفاع بثمرتها. ."(78). ومن ثم العلم يساوي المعرفة الربانية، أو كما يذكر "لو سألني سائل عن العلم، فأقول: هو المعرفة، ولو سأل عن المعرفة فأقول: هو العلم. وهذا غير سديد لأنها عبارتان عن معبر واحد. ولو سئل عن المعرفة والعلم فماذا يقول؟ ثم المعرفة خلاف العلم في اللغة، فإنها لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد، والعلم يتعدى إلى مفعولين"(79).
          وقد صاغ الإمام الغزالي جملة ما أوردناه، عبر التحولات والمراحل التي مرت بها حياته العقلية والروحية، في سياق مشروع "إسلامي" كبير، الذي كان له آثاره البالغة جدا، كما هو معروف، خاصة في سياق محاربته للعلوم العقلية الفلسفية وعدائه لها، وحملاته على الفرق الكلامية وبالذات الباطنية والتأويلية، ثم أخير تبسيطه للمعارف الإسلامية الضرورية لجمهور المسلمين في كتابة أحياء علوم الدين(80)، وأخيرا تحوله الصوفي وآثار ذلك على الأمة.
          ونظرا لما أحدثه مشروع الغزالي من آثار مباشرة على مفهوم العلم والفكر في العالم الإسلامي برمته ونظرا لاتساع انتشاره وتأثيره كان لكل ذلك تبعاته وآثاره، مما استدعى قيام ابن رشد (520–595/1126–1198) للنهوض للرد على معارضات الغزالي وإعادة مكانة النظرة والتناول الإبستمولوجي العقلاني إلى الموروث الإسلامي، رغم أنه لم يتمكن من الصمود كثيرا أمام تأثير الغزالي.

          وابن رشد في هذا السياق سعى أولا لتعريف العلم الذي كان يراه: "العلم هو أن يعتقد في الشيء الموجود أنه لا يمكن أن يكون بخلاف ما هو عليه"(81)، و"العلم هو قوة فاعلة من جهة ما له حد، أي من جهة ما له صورة"(82) ويظهر أن مفهوم "العلم" عند ابن رشد يعتمد على قوى العقل ومن ثم فإنه "إذا كان العلم والظن.. يمكن أن يكونا واحدا من جهة الموضوع لا الاعتقاد فظاهره أنه لا يمكن أن يكون الإنسان واحداً في شيء واحد، علم وظن معا"(83) ويوضح "كل علم وكل صناعة فلها علل وأسباب تفحص عنها ماذا أضيف إلى هذه المعرفة أن ها هنا علما يفحص عن الهوية المطلقة وجب أن يكون فحصة أيضا عن أسبابها المطلقة"(84).

          أما خاصية العلم في رأيه، فهو "العلم هو ظن لا يتغير والعالم إنسان لا يتغير علمه"(85)، ويؤكد في موقع آخر: "خاصة العلم أنه ظن لا يتغير التصديق به من القياس إذ هو واحد ثابت لا يزول"(86)، وأدوات الوصول على العلم: "لا يحصل العلم إلا بالعناية والملازمة والبحث والنصب والصبر على الطلب"(87)، ويفرق بين أضاف العلم: "العلم الحاصل عن الاستقراء ليس هو علما حاصلا عن قياس، ولا هو من نوع العلم الحاصل عن القياس"(88).
          اللهم اجعلني خيرا مما يظنون
          ولاتؤاخذني بما يقولون
          واغفر لي مالا يعلمون

          تعليق


          • #6
            رد: تطور مفهوم العلم في الفكر الإسلامي

            ويؤكد ابن سيناء على البعد العرفاني الإشراقي فيوضح: "العلم الكلي هو العلم الإلهي والعلم الناظر فيما بعد الطبيعة،وموضوعه الوجود المطلق والمطلوب فيه المبادئ العامة واللواحق العامة" (57) ويستدرك موضحا: "هذا العلم الكلي هو العلم الإلهي ويسمى فلسفة أولى وعلم ما بعد الطبيعة باعتبارات. أم كونه إلهيا فهو لأنه ثمرته معرفة الإله تعالى وملائكته. وأما كونه فلسفة أولى فهو بأنه معرفة المبادئ الأولية والصفات الكلية العامة التي هي علم أول يتوصل منها إلى معرفة ما هي له مبادئ أما كونه علم ما بعد الطبيعية فذلك أمر نسبي يعنى به أنه بعد الأمور الطبيعية المحسوسة في المعرفة بالنسبة إلينا، وأن تقدم وجوده على وجودها"(58).
            "العلم الإلهي إذا موضوعه هو الوجود من حيث هو موجود، ومطلوبه ما يعرض الموجود بما هو موجود بلا شرط، وتمامه الوقوف على المبادئ الأول بما هي مباد له من الموجودات وعلى التناسب الواقع بينها، ونسبتها إلى الأولى الذي ليس له أول وما يخصها يعممها. وهذا النظر يعم جميع العلوم التي هي كلي عام، وإنما يتخصص في المطلب حتى تنتهي إلى مبادئ العلوم الجزئية إذ كانت مبادئها من الموجودات. والموجود المطلق أعم منها ويساويه في العموم الواحد، فإن كل ما يقال له موجود يقال له واحد أيضا، فالنظر في هذا العلم يشتمل على الواحد ولواحقه. ولما كان العلم بالمتقابلات واحدا لزم أن ينظر في هذا العلم أيضا في العدم والكثرة. ثم ينظر فيما ينقسم الوجود إليه مما يقوم مقام الأنواع المتمايزة بالفصول وهي المقولات العشر للموجود، وفي لواحقه كالقوة والفعل والواحد والكثرة والتمام والنقصان والعلة والمعلول"(59).

            وتقدم كتب ابن سيناء أحاديث مطولة عن مفهوم العلم متشربة بفكر الفلسفة الإشراقية، فهو يتناول مفهوم "علم الحقيقة" والتي يعرفها: "ما يكون صادقا ونفسه في الزمان كله، لا في بعض دون بعض"(60) وكذلك فكرة "علم تصديقي" و"علم التعبير" ونحو ذلك، لكنه يوظف بطبيعة الحال المفاهيم والآراء التي صاغتها أطروحات الفلسفة اليونانية أيضا. ويظهر لنا أن ابن سيناء قد أوغل مبتعداً بالفكر الإسلامي في ثنايا مفاهيم وأفكار "فلسفية" تجريدية، لعلها وضعت للخاصة والمثقفين، الأمر الذي دفع بعض "العلماء" لمحاولة إعادة التوازن في هذا السياق، والسعي لحماية الجمهور غير المتخصص من تأثير هذه الأفكار. حيث نجد في هذا الاتجاه الإمام الغزالي (450 – 505 / 1059 – 1111) الذي شكل منعطفا مهما على مستوى علم الكلام والفلسفة وإعادة صياغة مفهوم العلم، ونهض بالأحرى بهدف "حماية" عقائد العامة إلى نقد الفلسفة والاستعداء على المتفلسفين. وهو في هذا السياق يعرف العلم باعتباره: "العلم. . ينقسم إلى علم معاملة وعلم مكاشفة، وليس المراد بهذا العلم إلا علم المعاملة. والمعاملة التي كلف العبد العاقل البالغ العمل بها ثلاث: اعتقاد وفعل وترك"(61)، و"العلم هو معرفة الشيء على ما هو به وهو من صفات الله تعالى، فكيف يكون الشيء علما ويكون مع كونه علما مذموما؟ فاعلم أن العلم لا يذم لعينه وإنما يذم في حق العباد لأحد أسباب ثلاثة: الأول أن يكون مؤديا إلى ضرر ما إما لصاحبه أو لغيره، كما يذم علم السحر والطلسمات وهو حق، إذ شهد القرآن له وأنه سبب يتوصل به إلى التفريق بين الزوجين . . . والثاني أن يكون مضرا لصاحبه في غالب الأمر، كعلم النجوم . . . والثالث الخوض في علم لا يستفيد الخائض فيه فائدة علم، فهو مذموم في حقه كتعلم دقيق العلوم قبل جليلها وخفيها قبل جليها، كالبحث عن الأسرار الإلهية"(62)، ويملك العلم في نظر الغزالي بعدا صوفيا، من حيث أن: "العلم عبادة القلب وصلاة السر وقربة الباطن إلى الله تعالى. وكما لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف"(63) ومن ثم فإن آداب تحصيله هي الأخرى ذات بعد صوفي: "العلم يقتنى كما يقتنى المال، فله حال طلب واكتساب وحال تحصيل يغني عن السؤال، وحال استبصار وهو التفكر في المحصل والتمتع به وحال تبصير وهو أشرف الأحوال"(64).

            ونظرا لأن الغزالي ينطلق من رسالة وهدف غايته تسخير "العلم" لإعادة عامة وجمهور الأمة والدفاع عن الدين، كانت منطلقات الغزالي ذات طبيعة تبشيرية رسالية تهتم بإعادة الناس لملتهم وعباداتهم أكثر من توجهها للتطلعات واهتمامات الخاصة، لذا سنرى تحولا من الاهتمام بالعلم كمعيار لضبط المعرفة، إلى اعتبار وظيفته والتأكيد عليها، مع إعادة تصنيف للعلم وللمعرفة، بالنسبة للأمر الأخير نجد الغزالي يؤكد: "العلم هو العلم بالأمور الدينية والأخروية والحقائق العقلية"(65) ويؤكد: "العلم بلا عمل جنون والعمل بغير علم لا يكون، واعلم أن العلم لا يبعدك اليوم عن المعاصي ولا يحملك على الطاعة ولن يبعدك غدا عن نار جهنم وإذا لم تعمل اليوم ولم تدارك الأيام الماضية تقول غدا يوم القيامة فارجعنا نعمل صالحا"( 66) ويوضح: "من ليس له علم فليس له عز في الدنيا ولا في الآخرة ومن ليس له صبر فما له سلامة في دينه ولا دنياه، ومن كان جاهلا لم ينتفع بعلمه ومن لا تقوى له فما له عند الله كرامة ومن لا سخاء له فما له من ماله نصيب ومن لا نصيحة له فما له عند الله حجة "(67) وهكذا يتضح لنا كيف أن فكر الغزالي شكل تحولا جذريا في مفهوم العلم بالقياس إلى ما كان يقول به سابقوه من علماء الأمة. ونجد أن الغزالي يركز على ماهية العلم ويحوّلها إلى "العلم الشرعي"، والروحي في مرحلة من حياته. فهو يؤكد "أن العلم يستدعي معلوما"(68)، وهذا المفهوم عنده له تبعات: "تغير المعلوم يوجب تغير العلم، فإن حقيقة ذات العلم تدخل فيه الإضافة إلى المعلوم الخاص؛ إذ حقيقة العلم المعين تعلقه بذلك المعلوم، المعين على ما هو عليه، فتعلقه على وجه آخر علم آخر بالضرورة فتعاقبها يوجب اختلاف حال العالم"(69) وفي نظره "العلم من صفات ذات النفس" و"العلم تصور النفس الناطقة المطمئنة حقائق الأشياء وصورها المجردة عن المواد بأعيانها وكيفياتها وكمياتها وجواهرها وذواتها إن كانت مفردة والعالم هو المحيط المدرك المتصور. والمعلوم هو ذات الشيء الذي ينتقش علمه في النفس. وشرف العلم على قدر شرف معلومه، ورتبة العالم تكون بحسب رتبة العلم"(70).

            وتختلف أقسام العلم عند الغزالي عنها عند ابن سيناء، فهو يرى أن "العلم على قسمين: أحدهما شرعي، والآخر عقلي. وأكثر العلوم الشرعية عقلية عند عالمها وأكثر العلوم العقلية شرعية عند عارفها"(71) ويستطرد: "العلم ينقسم إلى أولي، وإلى مطلوب. فالمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالجد والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب لا يقتنص إلا بالحجة والبرهان وهو القياس"( 72) ولتوضيح موضوع العلم يشرح الغزالي: "الشيء له في الوجود أربع مراتب: الأولى حقيقته في نفسه والثانية ثبوت مثال حقيقته في الذهن وهو الذي يعبر عنه بالعلم والثالثة تأليف مثاله بحروف تدل عليه وهي العبارة الدالة على المثال الذي في النفس والرابعة تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ وهي الكتابة. والكتابة تبع اللفظ إذ تدل عليه واللفظ تبع العلم الذي يدل عليه والعلم تبع المعلوم إذ يطابقه ويوافقه. وهذه الأربعة متوافقة متطابقة متوازنة إلا أن الأولين وجودان حقيقان لا يختلفان بالإعصار والأخريان وهما اللفظ والكتابة تختلف بالإعصار والأمم موضوعة بالاختيار"(73) ويستطرد موضحا: "العلم ينقسم إلى أولى كالضروريات وإلى مطلوب كالنظريات"(74). لكنه يعود ويؤكد مفهومه للعلم أو بالأصح ما يتطلع التأكيد عليه كوظيفة العلم: "العلم النافع ما يزيد في خوفك من الله ويزيد بصيرتك بعيوب نفسك ويزيد من معرفتك بعبادة ربك ويفتح بصيرتك بآفات أعمالك حتى تحترز منها"(75)، و"العلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم وإلى ما هو مباح، فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وهو قد يكون فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة. أما فرض الكفاية فهو علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا مثل الطب والحساب وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها جرح أهل البلد وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين"(76)، ويؤكد: "العلم عبادة النفس وفي لسان الشرع عبادة القلب، فلا يصح إلا بالمظاهرة القلب عن خبائث الأخلاق وأنجاس الصفات"(77). ولما كان العلم غايته تحصيل المعرفة الشرعية كانت الوسائل في تحصيله موضوع نظر وأجر، حيث يخبرنا الغزالي: "العلم أشرف جوهرا من العبادة، لكن لابد للعبد من العبادة مع العلم . . فإن العلم بمنزلة الشجرة والعبادة بمنزلة ثمرة من ثمراتها، فالشرف للشجرة وهي الأصل لكن الانتفاع بثمرتها. ."(78). ومن ثم العلم يساوي المعرفة الربانية، أو كما يذكر "لو سألني سائل عن العلم، فأقول: هو المعرفة، ولو سأل عن المعرفة فأقول: هو العلم. وهذا غير سديد لأنها عبارتان عن معبر واحد. ولو سئل عن المعرفة والعلم فماذا يقول؟ ثم المعرفة خلاف العلم في اللغة، فإنها لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد، والعلم يتعدى إلى مفعولين"(79).
            وقد صاغ الإمام الغزالي جملة ما أوردناه، عبر التحولات والمراحل التي مرت بها حياته العقلية والروحية، في سياق مشروع "إسلامي" كبير، الذي كان له آثاره البالغة جدا، كما هو معروف، خاصة في سياق محاربته للعلوم العقلية الفلسفية وعدائه لها، وحملاته على الفرق الكلامية وبالذات الباطنية والتأويلية، ثم أخير تبسيطه للمعارف الإسلامية الضرورية لجمهور المسلمين في كتابة أحياء علوم الدين(80)، وأخيرا تحوله الصوفي وآثار ذلك على الأمة.
            ونظرا لما أحدثه مشروع الغزالي من آثار مباشرة على مفهوم العلم والفكر في العالم الإسلامي برمته ونظرا لاتساع انتشاره وتأثيره كان لكل ذلك تبعاته وآثاره، مما استدعى قيام ابن رشد (520–595/1126–1198) للنهوض للرد على معارضات الغزالي وإعادة مكانة النظرة والتناول الإبستمولوجي العقلاني إلى الموروث الإسلامي، رغم أنه لم يتمكن من الصمود كثيرا أمام تأثير الغزالي.

            وابن رشد في هذا السياق سعى أولا لتعريف العلم الذي كان يراه: "العلم هو أن يعتقد في الشيء الموجود أنه لا يمكن أن يكون بخلاف ما هو عليه"(81)، و"العلم هو قوة فاعلة من جهة ما له حد، أي من جهة ما له صورة"(82) ويظهر أن مفهوم "العلم" عند ابن رشد يعتمد على قوى العقل ومن ثم فإنه "إذا كان العلم والظن.. يمكن أن يكونا واحدا من جهة الموضوع لا الاعتقاد فظاهره أنه لا يمكن أن يكون الإنسان واحداً في شيء واحد، علم وظن معا"(83) ويوضح "كل علم وكل صناعة فلها علل وأسباب تفحص عنها ماذا أضيف إلى هذه المعرفة أن ها هنا علما يفحص عن الهوية المطلقة وجب أن يكون فحصة أيضا عن أسبابها المطلقة"(84).

            أما خاصية العلم في رأيه، فهو "العلم هو ظن لا يتغير والعالم إنسان لا يتغير علمه"(85)، ويؤكد في موقع آخر: "خاصة العلم أنه ظن لا يتغير التصديق به من القياس إذ هو واحد ثابت لا يزول"(86)، وأدوات الوصول على العلم: "لا يحصل العلم إلا بالعناية والملازمة والبحث والنصب والصبر على الطلب"(87)، ويفرق بين أضاف العلم: "العلم الحاصل عن الاستقراء ليس هو علما حاصلا عن قياس، ولا هو من نوع العلم الحاصل عن القياس"(88).
            اللهم اجعلني خيرا مما يظنون
            ولاتؤاخذني بما يقولون
            واغفر لي مالا يعلمون

            تعليق


            • #7
              رد: تطور مفهوم العلم في الفكر الإسلامي



              وللعلم حدوده وإمكانياته: "قال بعض الحكماء: العلم يفتقر إلى خمسة أشياء، متى نقص منها شيء نقص من علمه بقدر ذلك، وهي: ذهن ثاقب وشهوة باعثة وعمر طويل وجدة وأستاذ. وله خمس مراتب: أولها أن تنصت وتستمع ثم أن تسأل معهم ما تسمع ثم أن تحفظ ما تفهم ثم أن تعمل بما تعلم ثم أن تعلم ما تعلم"(89).

              وبطبيعة الحال يعي ابن رشد أن صياغته لمفهوم العلم قد يتعارض مع مفهومه عند غيره من الفلاسفة ومن ثم فأنه يذكر بعض الأمثلة على تحديد مفهومه، نذكر أحدها هنا: "آراء الهرقليين وهم الذين شكوا على جميع من كان يتعاطى الفلسفة في ذلك الوقت، فقالوا: إنه ليس ها هنا علم لأن العلم ضروري ودائم وليس ها هنا شيء يتعلق به العلم إلا المحسوسات وهي في تغير دائم. وإذا كان المعلوم في تغير دائم فالعلم به في تغير دائم، والعلم المتغير ليس علما فليس ها هنا علم"(90).

              ومن الواضح أن ما يبحث عنه ابن رشد هو عقلانية مرشدة إلى نوع من اليقين، دون مبالغة في شك ينتهي إلى فوضى أو عدمية مطلقة. حيث نجده بدوره لا يثق في "العلم" الذي لا يعتمد وسائل كسب المعرفة وآلياتها فيورد "أشار (الغزالي) إلى أن العلم إنما يحصل بالخلوة والفكرة، وأن هذه المرتبة هي من جنس مراتب الأنبياء في العلم"(91) رغم أن هذا النوع من العلم يصعب قبوله، من زاوية مفهومة للعلم.

              ولما كان ابن رشد يرغب في التأكيد على أهمية عقلانية العلم في مواجهة طوفان التشكيك في تلك العقلانية وأنها تدّعي مزاحمة العلم الديني أو الوحي، سعى ابن رشد، كما هو معروف، أن يؤكد على أن العقلانية لا تتعارض مع مقاصد الشريعة، بل حتى لا تتعارض مع صريح النصوص الدينية الأساسية من ناحية(92)، ومن ناحية يمكن أن تسهم الإبستمولوجيا الفلسفية في إثراء الفقه والفكر الإسلامي عموما بروافد جديدة(93)، لكن هذا التوجه كان موضع ريبه ومن ثم رفض في الغرب الإسلامي عموما.

              فخر الدين الرازي (544 – 606 / 1149 – 1209) في المشرق، سعى من طرفه لأن يعيد للفلسفة والفكر الفلسفي مكانتها في المجتمع، لكن كما نعرف سلفا لم تكن محاولته أفضل من محاولة ابن رشد، بل ربما كما سنرى كان مجيء ابن تيمية (661–726/1262–1325) انتصارا مفصليا على هذا المستوى لصالح السلفية والفكر التقليدي ومحاربة للفلسفة ومدارس علم الكلام بوسائلها.

              فيحدد الرازي سلفا بما يلي: "اختلفوا في حد العلم، وعندي أن تصوره بديهي، لأن ما عد العلم لا ينكشف إلا به فيستحيل أن يكون كاشفا له. ولأني أعلم بالضرورة كوني عالما بوجودي وتصور العلم جزء منه وجزء البديهي فتصور العلم بديهي"(94) ويوضح "العلم ليس هو نفس الماهية بل إضافة مخصوصة بين الماهية وبين ذلك الشخص يحصل بينهما بعد تحقق ذلك الشخص"(95) والعلم يستدعي صورة مطابقة للمعلوم وهو عبارة عن إدراك الكليات وهو قد يكون فعليا وقد يكون انفعاليا وقد يكون دينيا أو يكون غير ديني وهو عبارة عن حصول صورة المعلوم عند العالم وهو بالتأكيد - عنده- خلاف الخوف والظن. ويميز الرازي موضحا الاعتقاد إن كان صوابا فهو العلم وإن كان خطأ فهو الجهل. (ربما في محاولة منه أن لا يقع في تعارض مباشر مع أهل العقائد) (96).

              ويقدم الرازي بعض التفاصيل الموضحة لماهية العلم عنده، "العلم إما أن يكون علما بما لا يكون وجوده باختيارنا وفعلنا وهو الحكمة النظرية أو بما يكون وجوده باختيارنا وفعلنا وهو الحكمة العملية. أما الحكمة النظرية فهي إما أن تكون وسيلة أو مقصودة بالذات، أما الوسيلة فهي علم المنطق وحاصله يرجع إلى إعداد الآلات التي بها يمكن الإنسان من اقتناص التصورات والتصديقات المحمولة على وجه لا يقع فيه الغلط إلا نادرا"(97) و"العلم إما تصور وإما تصديق، والتصديق هو الحكم على أحد المتصورين بإثباته للمتصور الآخر، وسلبه عنه وهو فرع على التصور"(98) ولهذا فإن للعلم طرق يعددها الرازي: "طرق العلم ثلاثة: الحس والخبر والنظر، ولا يلزم من انتفاء طريق واحد وهو الحس انتفاء المطلوب"(99).

              ولكن - كما ذكرنا- لم تحقق هذه المحاولة في الشرق، ولا في الغرب الإسلاميين من أن تعيد للفلسفة والنظر الفلسفي مكانتهما السابقة، رغم جهود "الفلاسفة" باتجاه تقريب الفلسفة للجمهور أو الدفاع عنها، بل ربما لأسباب سياسية محلية وعالمية كان على العالم الإسلامي أن يعيد النظر في تأكيد هويته وربما ينغلق على ذاته خوفا عن فقدان الهوية وانتصار لمشاعر الشارع والواقع السياسي من تحولات أوضاع الأمة، قبيل الاحتكاك مع القوى الغربية المتطلعة للهجوم على هذا العالم الإسلامي المنهك.وتعد جهود ابن تيمية واحدة من علامات هذا التحول، على النحو الذي تبدوا معه هذه الثورة ليست فقط ضد الفكر الفلسفي العقلاني، وإنما أيضا ثورة على الفكر التقليدي المؤسسي، بما في ذلك أفكار الأشعري والغزالي وجملة التصورات الثقافية السائدة في العالم الإسلامي آنذاك، وذلك باتجاه محاولة تقديم مفهوم جديد للعلم وبعث الهوية الإسلامية.
              فالعالم الإسلامي، في حالة تدهور، إن لم نقل احتضار، يستشعر أن عليه أن يواجه ضعفه وعجزه الداخلي في الفكر والحياة من جهة، وأن يواجه الأعداء الذين يتربصون به المنون في عقر داره وفي مقدراته وثرواته من جهة أخرى! على النحو الذي صارت معه المطالبة بالهوية السلفية وتفنيد ورفض فكر الآخر وسيلة مهمة وربما عملية ضد "الغزو الخارجي: ماديا وفكريا"!.

              فماذا قال ابن تيمية: "العلم نوعان: أحدهما العملي وهو ما كان شرطا في حصول المعلوم كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله، فالمعلوم هنا متوقف على العلم به محتاج إليه، والثاني العلم الخبري النظري وهو ما كان المعلوم غير مفتقر في وجوده إلى العلم به، كعلمنا بوحدانية الله تعالى . . فهذه المعلومات ثابتة سواء علمناها أو لم نعلمها . . ."(100).

              ويوضح: "قد يُراد بلفظ المعرفة العلم الذي يكون معلومه معينا خاصا، وبالعلم الذي هو قسيم المعرفة ما يكون المعلوم به كليا عاما وقد يراد بلفظ المعرفة ما يكون معلومة الشيء بعينه وإن كان لفظ العلم يتناول النوعين في الأصل" (101) وبطريقته الجدلية المعروفة يدخل ابن تيمية في مجادلات فنية دقيقة حول ماهية العلم، فيوضح: " كون العلم ضروريا ونظريا والاعتقاد قطعيا وظنيا، أمور نسبية، فقد يكون الشيء قطعيا عند شخص وفي حال وهو عند آخر وفي حال أخرى مجهول، فضلا عن أن يكون مظنونا. وقد يكون الشيء ضروريا لشخص وفي حال ونظريا لشخص آخر في حال أخرى"(102).
              بل ويتساءل: "من جعل العلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة، وجعل الإرادة هي المريد والعلم هو العالم والقدرة هي القادر، كانت مخالفته للعلوم الضرورية عظيمة"(103) ويوضح: "كون العالم محلا للعلم شرط في حصول العلم، فإن حصول العلم للعالم بدون اتصافه به وقيامه به ممتنع، فلا يكون العقل الذي هو العلم، حاصلا للعاقل، إلا إذا كان العاقل الذي هو العالم، محلا لذلك العقل الذي هو العلم" (104) ويوضح بعض مواقفه من مفهوم العلم عموما: "العلم إما تصور وإما تصديق، وكل منهما إما بديهي وإما نظري . . .، والنظري منهما لا بد أنه من طريق يقال به" و"العلم بان اللفظ دال على المعنى أو موضوع له مسبوق بتصور المعنى" و"كون العلم بديهيا أو نظريا هو من أمر النسبة الإضافية، مثل كون القضية يقينية أو وظنية" ويوضح مفندا: "حصر العلم على القياس قول بغير علم" و"عدم العلم ليس علما بالعدم وعدم الوجد أن لا يستلزم عدم الوجود"(105).

              وهو يصنف العلم إلى أنواع فيوضح: "العلم ثلاثة أنواع، أحدها هو الذي يعرف بالعقل والثاني المعرفة التي لا تحصل إلا بالسمع والثالث ما لا سبيل إلى معرفته لا بعقل ولا بسمع"(106) ويجعل العلم في مراتب فيوضح: "العلم له ثلاث مراتب علم بالجنان وعبارة باللسان وخط بالبنان. ولهذا قيل أن لكل شيء أربع وجودات: وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي. وجود في الأعيان ووجود في الأذهان واللسان والبنان. لكن الوجود العيني هو وجود الموجودات في أنفسها والله خالق كل شيء وأما الذهني الجناني فهو العلم الذي في القلوب والعبارة عن ذلك هو اللساني وكتابة ذلك وهو الرسمي البنائي وتعليم الخط يستلزم تعليم العبارة واللفظ وذلك يستلزم تعليم العلم"(107).

              وما يمكننا ملاحظته هنا هو أن ابن تيمية يستعين بالفلسفة ومصطلحاتها ومفاهيمها لتحجيمها وتفنيدها من ناحية، كما يستعين بقدراته على الجدل ونشر هذا الجدل على قطاع واسع من الجماهير وفي سياق - حتى وإن عملت السلطات فيه إلى اللجام وإسكات الأصوات النافذة من أمثال ابن تيمية- فإن كل هذه الظروف والملابسات في واقع الأمر تعضد وتقوي من مقبولية وسرعة انتشار أمثال هذه الأفكار، وبالذات عندما يقدم "المصلح" نفسه على مستويات عديدة لجمهوره، فهو من ناحية خبير فاهم يمكنه أن يناقش النخب المتعالية المدعية بأنها صاحبة الفكر المضمنون به على العامة والجهلاء ومن ناحية أخرى التمكن من الاتصال والتواصل المباشر اجتماعيا وسياسيا على أكثر من مستوى، وتذكر مراجع عديدة جهاد ابن تيمية في الحرب ضد التتار، والصليبيين من ناحية ووقوفه في وجه السلاطين وفقهاء وعلماء السلطة والتصاقه وتعاونه مع الجماهير في فتاويه ونشاطاته ورحلاته التي لا تكل بل وصبره على الاتهامات والسجن والتعذيب أحيانا من طرف خصومه، مما جعل – على المدى القصير والمتوسط – تأثير واسع وقبول واحتفاء بآرائه التي تبسط الأفكار وتفند علوم النخب وتقاصرها.

              ولعلنا نلاحظ أن الغزالي وابن تيمية يمتلك كلاهما أسلوبا مبسطا وطريقة تعليمية ذكية قادرة على الوصول إلى عامة القراء مما سهل في الترويج لأفكارهم وانتشارها، مع قدرة مميزة في الإشارة ضمنا - من خلال أعمالهم النقدية والجدلية- التعريض بأفكار أصحاب الأساليب الكتابية والعرض العصي، كما هو حال معظم الفلاسفة.
              ولقد كان الغزالي وابن تيمية من المعلمين مما كفل لهم طلاب ومريدين، وعلمهم المثابر وسع من جماهيريتهم وانتشار قبولهم، خاصة وبالذات في حالة ابن تيمية سعوا إلى تقديم مشاريع إصلاحية وربط المجتمع المسلم بهويته وتراثه، ومن ثم يمكننا توضيح الرأي القائل كانت الدروس والمواعظ والخطب والمناظرات تقدم ساحات واسعة لانتشار فكر ما أو رأي له حضور في حياة الناس.


              يتــــبع

              اللهم اجعلني خيرا مما يظنون
              ولاتؤاخذني بما يقولون
              واغفر لي مالا يعلمون

              تعليق


              • #8
                رد: تطور مفهوم العلم في الفكر الإسلامي



                وللعلم حدوده وإمكانياته: "قال بعض الحكماء: العلم يفتقر إلى خمسة أشياء، متى نقص منها شيء نقص من علمه بقدر ذلك، وهي: ذهن ثاقب وشهوة باعثة وعمر طويل وجدة وأستاذ. وله خمس مراتب: أولها أن تنصت وتستمع ثم أن تسأل معهم ما تسمع ثم أن تحفظ ما تفهم ثم أن تعمل بما تعلم ثم أن تعلم ما تعلم"(89).

                وبطبيعة الحال يعي ابن رشد أن صياغته لمفهوم العلم قد يتعارض مع مفهومه عند غيره من الفلاسفة ومن ثم فأنه يذكر بعض الأمثلة على تحديد مفهومه، نذكر أحدها هنا: "آراء الهرقليين وهم الذين شكوا على جميع من كان يتعاطى الفلسفة في ذلك الوقت، فقالوا: إنه ليس ها هنا علم لأن العلم ضروري ودائم وليس ها هنا شيء يتعلق به العلم إلا المحسوسات وهي في تغير دائم. وإذا كان المعلوم في تغير دائم فالعلم به في تغير دائم، والعلم المتغير ليس علما فليس ها هنا علم"(90).

                ومن الواضح أن ما يبحث عنه ابن رشد هو عقلانية مرشدة إلى نوع من اليقين، دون مبالغة في شك ينتهي إلى فوضى أو عدمية مطلقة. حيث نجده بدوره لا يثق في "العلم" الذي لا يعتمد وسائل كسب المعرفة وآلياتها فيورد "أشار (الغزالي) إلى أن العلم إنما يحصل بالخلوة والفكرة، وأن هذه المرتبة هي من جنس مراتب الأنبياء في العلم"(91) رغم أن هذا النوع من العلم يصعب قبوله، من زاوية مفهومة للعلم.

                ولما كان ابن رشد يرغب في التأكيد على أهمية عقلانية العلم في مواجهة طوفان التشكيك في تلك العقلانية وأنها تدّعي مزاحمة العلم الديني أو الوحي، سعى ابن رشد، كما هو معروف، أن يؤكد على أن العقلانية لا تتعارض مع مقاصد الشريعة، بل حتى لا تتعارض مع صريح النصوص الدينية الأساسية من ناحية(92)، ومن ناحية يمكن أن تسهم الإبستمولوجيا الفلسفية في إثراء الفقه والفكر الإسلامي عموما بروافد جديدة(93)، لكن هذا التوجه كان موضع ريبه ومن ثم رفض في الغرب الإسلامي عموما.

                فخر الدين الرازي (544 – 606 / 1149 – 1209) في المشرق، سعى من طرفه لأن يعيد للفلسفة والفكر الفلسفي مكانتها في المجتمع، لكن كما نعرف سلفا لم تكن محاولته أفضل من محاولة ابن رشد، بل ربما كما سنرى كان مجيء ابن تيمية (661–726/1262–1325) انتصارا مفصليا على هذا المستوى لصالح السلفية والفكر التقليدي ومحاربة للفلسفة ومدارس علم الكلام بوسائلها.

                فيحدد الرازي سلفا بما يلي: "اختلفوا في حد العلم، وعندي أن تصوره بديهي، لأن ما عد العلم لا ينكشف إلا به فيستحيل أن يكون كاشفا له. ولأني أعلم بالضرورة كوني عالما بوجودي وتصور العلم جزء منه وجزء البديهي فتصور العلم بديهي"(94) ويوضح "العلم ليس هو نفس الماهية بل إضافة مخصوصة بين الماهية وبين ذلك الشخص يحصل بينهما بعد تحقق ذلك الشخص"(95) والعلم يستدعي صورة مطابقة للمعلوم وهو عبارة عن إدراك الكليات وهو قد يكون فعليا وقد يكون انفعاليا وقد يكون دينيا أو يكون غير ديني وهو عبارة عن حصول صورة المعلوم عند العالم وهو بالتأكيد - عنده- خلاف الخوف والظن. ويميز الرازي موضحا الاعتقاد إن كان صوابا فهو العلم وإن كان خطأ فهو الجهل. (ربما في محاولة منه أن لا يقع في تعارض مباشر مع أهل العقائد) (96).

                ويقدم الرازي بعض التفاصيل الموضحة لماهية العلم عنده، "العلم إما أن يكون علما بما لا يكون وجوده باختيارنا وفعلنا وهو الحكمة النظرية أو بما يكون وجوده باختيارنا وفعلنا وهو الحكمة العملية. أما الحكمة النظرية فهي إما أن تكون وسيلة أو مقصودة بالذات، أما الوسيلة فهي علم المنطق وحاصله يرجع إلى إعداد الآلات التي بها يمكن الإنسان من اقتناص التصورات والتصديقات المحمولة على وجه لا يقع فيه الغلط إلا نادرا"(97) و"العلم إما تصور وإما تصديق، والتصديق هو الحكم على أحد المتصورين بإثباته للمتصور الآخر، وسلبه عنه وهو فرع على التصور"(98) ولهذا فإن للعلم طرق يعددها الرازي: "طرق العلم ثلاثة: الحس والخبر والنظر، ولا يلزم من انتفاء طريق واحد وهو الحس انتفاء المطلوب"(99).

                ولكن - كما ذكرنا- لم تحقق هذه المحاولة في الشرق، ولا في الغرب الإسلاميين من أن تعيد للفلسفة والنظر الفلسفي مكانتهما السابقة، رغم جهود "الفلاسفة" باتجاه تقريب الفلسفة للجمهور أو الدفاع عنها، بل ربما لأسباب سياسية محلية وعالمية كان على العالم الإسلامي أن يعيد النظر في تأكيد هويته وربما ينغلق على ذاته خوفا عن فقدان الهوية وانتصار لمشاعر الشارع والواقع السياسي من تحولات أوضاع الأمة، قبيل الاحتكاك مع القوى الغربية المتطلعة للهجوم على هذا العالم الإسلامي المنهك.وتعد جهود ابن تيمية واحدة من علامات هذا التحول، على النحو الذي تبدوا معه هذه الثورة ليست فقط ضد الفكر الفلسفي العقلاني، وإنما أيضا ثورة على الفكر التقليدي المؤسسي، بما في ذلك أفكار الأشعري والغزالي وجملة التصورات الثقافية السائدة في العالم الإسلامي آنذاك، وذلك باتجاه محاولة تقديم مفهوم جديد للعلم وبعث الهوية الإسلامية.
                فالعالم الإسلامي، في حالة تدهور، إن لم نقل احتضار، يستشعر أن عليه أن يواجه ضعفه وعجزه الداخلي في الفكر والحياة من جهة، وأن يواجه الأعداء الذين يتربصون به المنون في عقر داره وفي مقدراته وثرواته من جهة أخرى! على النحو الذي صارت معه المطالبة بالهوية السلفية وتفنيد ورفض فكر الآخر وسيلة مهمة وربما عملية ضد "الغزو الخارجي: ماديا وفكريا"!.

                فماذا قال ابن تيمية: "العلم نوعان: أحدهما العملي وهو ما كان شرطا في حصول المعلوم كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله، فالمعلوم هنا متوقف على العلم به محتاج إليه، والثاني العلم الخبري النظري وهو ما كان المعلوم غير مفتقر في وجوده إلى العلم به، كعلمنا بوحدانية الله تعالى . . فهذه المعلومات ثابتة سواء علمناها أو لم نعلمها . . ."(100).

                ويوضح: "قد يُراد بلفظ المعرفة العلم الذي يكون معلومه معينا خاصا، وبالعلم الذي هو قسيم المعرفة ما يكون المعلوم به كليا عاما وقد يراد بلفظ المعرفة ما يكون معلومة الشيء بعينه وإن كان لفظ العلم يتناول النوعين في الأصل" (101) وبطريقته الجدلية المعروفة يدخل ابن تيمية في مجادلات فنية دقيقة حول ماهية العلم، فيوضح: " كون العلم ضروريا ونظريا والاعتقاد قطعيا وظنيا، أمور نسبية، فقد يكون الشيء قطعيا عند شخص وفي حال وهو عند آخر وفي حال أخرى مجهول، فضلا عن أن يكون مظنونا. وقد يكون الشيء ضروريا لشخص وفي حال ونظريا لشخص آخر في حال أخرى"(102).
                بل ويتساءل: "من جعل العلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة، وجعل الإرادة هي المريد والعلم هو العالم والقدرة هي القادر، كانت مخالفته للعلوم الضرورية عظيمة"(103) ويوضح: "كون العالم محلا للعلم شرط في حصول العلم، فإن حصول العلم للعالم بدون اتصافه به وقيامه به ممتنع، فلا يكون العقل الذي هو العلم، حاصلا للعاقل، إلا إذا كان العاقل الذي هو العالم، محلا لذلك العقل الذي هو العلم" (104) ويوضح بعض مواقفه من مفهوم العلم عموما: "العلم إما تصور وإما تصديق، وكل منهما إما بديهي وإما نظري . . .، والنظري منهما لا بد أنه من طريق يقال به" و"العلم بان اللفظ دال على المعنى أو موضوع له مسبوق بتصور المعنى" و"كون العلم بديهيا أو نظريا هو من أمر النسبة الإضافية، مثل كون القضية يقينية أو وظنية" ويوضح مفندا: "حصر العلم على القياس قول بغير علم" و"عدم العلم ليس علما بالعدم وعدم الوجد أن لا يستلزم عدم الوجود"(105).

                وهو يصنف العلم إلى أنواع فيوضح: "العلم ثلاثة أنواع، أحدها هو الذي يعرف بالعقل والثاني المعرفة التي لا تحصل إلا بالسمع والثالث ما لا سبيل إلى معرفته لا بعقل ولا بسمع"(106) ويجعل العلم في مراتب فيوضح: "العلم له ثلاث مراتب علم بالجنان وعبارة باللسان وخط بالبنان. ولهذا قيل أن لكل شيء أربع وجودات: وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي. وجود في الأعيان ووجود في الأذهان واللسان والبنان. لكن الوجود العيني هو وجود الموجودات في أنفسها والله خالق كل شيء وأما الذهني الجناني فهو العلم الذي في القلوب والعبارة عن ذلك هو اللساني وكتابة ذلك وهو الرسمي البنائي وتعليم الخط يستلزم تعليم العبارة واللفظ وذلك يستلزم تعليم العلم"(107).

                وما يمكننا ملاحظته هنا هو أن ابن تيمية يستعين بالفلسفة ومصطلحاتها ومفاهيمها لتحجيمها وتفنيدها من ناحية، كما يستعين بقدراته على الجدل ونشر هذا الجدل على قطاع واسع من الجماهير وفي سياق - حتى وإن عملت السلطات فيه إلى اللجام وإسكات الأصوات النافذة من أمثال ابن تيمية- فإن كل هذه الظروف والملابسات في واقع الأمر تعضد وتقوي من مقبولية وسرعة انتشار أمثال هذه الأفكار، وبالذات عندما يقدم "المصلح" نفسه على مستويات عديدة لجمهوره، فهو من ناحية خبير فاهم يمكنه أن يناقش النخب المتعالية المدعية بأنها صاحبة الفكر المضمنون به على العامة والجهلاء ومن ناحية أخرى التمكن من الاتصال والتواصل المباشر اجتماعيا وسياسيا على أكثر من مستوى، وتذكر مراجع عديدة جهاد ابن تيمية في الحرب ضد التتار، والصليبيين من ناحية ووقوفه في وجه السلاطين وفقهاء وعلماء السلطة والتصاقه وتعاونه مع الجماهير في فتاويه ونشاطاته ورحلاته التي لا تكل بل وصبره على الاتهامات والسجن والتعذيب أحيانا من طرف خصومه، مما جعل – على المدى القصير والمتوسط – تأثير واسع وقبول واحتفاء بآرائه التي تبسط الأفكار وتفند علوم النخب وتقاصرها.

                ولعلنا نلاحظ أن الغزالي وابن تيمية يمتلك كلاهما أسلوبا مبسطا وطريقة تعليمية ذكية قادرة على الوصول إلى عامة القراء مما سهل في الترويج لأفكارهم وانتشارها، مع قدرة مميزة في الإشارة ضمنا - من خلال أعمالهم النقدية والجدلية- التعريض بأفكار أصحاب الأساليب الكتابية والعرض العصي، كما هو حال معظم الفلاسفة.
                ولقد كان الغزالي وابن تيمية من المعلمين مما كفل لهم طلاب ومريدين، وعلمهم المثابر وسع من جماهيريتهم وانتشار قبولهم، خاصة وبالذات في حالة ابن تيمية سعوا إلى تقديم مشاريع إصلاحية وربط المجتمع المسلم بهويته وتراثه، ومن ثم يمكننا توضيح الرأي القائل كانت الدروس والمواعظ والخطب والمناظرات تقدم ساحات واسعة لانتشار فكر ما أو رأي له حضور في حياة الناس.


                يتــــبع

                اللهم اجعلني خيرا مما يظنون
                ولاتؤاخذني بما يقولون
                واغفر لي مالا يعلمون

                تعليق


                • #9
                  رد: تطور مفهوم العلم في الفكر الإسلامي



                  يقدم ابن خلدون (732 – 808 / 1332 – 1406) في مقاربته لتحديد مفهوم "العلم" مقاربة تاريخية / سوسيولوجية، فيوضح: "لما استقر الإسلام ووشجت عروق الملة، حتى تناولها الأمم البعيدة من أيدي أهلها، واستحالت بمرور الأيام أحوالها، وكثر استنباط الأحكام الشرعية من النصوص لتعدد الوقائع وتلاحقها، فاحتاج ذلك لقانون يحفظه من الخطأ وصار العلم ملكة يحتاج إلى التعلّم. فأصبح من جملة الصنائع والحرف، واشتغل أهل العصبية بالقيام بالملك والسلطان فدفع للعلم من قام به سواهم، وأصبح حرفة للمعاش، وشمخت أنوف المترفين وأهل السلطان عن التصدي للتعليم، واختص انتحاله بالمستضعفين، وصار منتحله محتقرا عند أهل العصبية والملك. والحجاج بن يوسف كان أبوه من سادات ثقيف وأشرافهم، ومكانهم من عصبية العرب ومناهضة قريش في الشرق ما علمت، ولم يكن تعليمه للقرآن على ما هو الأمر عليه لهذا العهد من أنه حرفة للمعاش وإنما كان على ما وصفناه من الأمر الأول في الإسلام"(108).

                  نجد عند ابن خلدون أفقا جديدا يربط فيه الاشتغال بالعلم بالسلطة والرياسة والنفوذ في المجتمع الإسلامي الوسيط، وكذلك يوضح أن العلم تحوّل اجتماعيا إلى حرفة وصفة تمكن من ليس من أهل النفوذ والملك الحراك الاجتماعي إلى الأعلى، وهي نظرة ربما لن نجدها بهذا الوضوح والسبق معا، حتى عند من تناول نفس المفهوم في عصور لاحقه.

                  إضافة إلى كل ذلك، علينا أن نتذكر أن الفكر كنسق، حتى وإن كان علميا مضبوطا يقوم على أسس ومعايير صارمة، إلا أنه يشكل خطابا، أي سلطة فكرية مؤثرة وفاعلة، بحسب مفهوم فوكو، إلا عندما يؤثر في سلوكيات السلطة المختلفة، وعلينا أن نتذكر كيف أن حضور الغزالي في مرحلة طويلة من حياته، قبل عزلته الأخيرة، وكذلك "جهاد" ابن تيمية وجرأته وحبه للجدل والمواجهة، كان لهما أكبر الأثر والفاعلية في توجيه حياة الشارع المسلم. ولعل الظروف وسياق السياسة الدولية عندئذ ساهمت مساهمة فاعلة في ذلك(109).

                  ونجد عند الشوكاني وقبله السيوطي توجهات، قبيل دخول العالم الإسلامي العصر الحديث، تتعلق بالعلم والمعرفة من ناحية والكيفية التي يمكن للعلماء التواصل مع السلطات السياسية لتوجيه سياساتها ونظمها وبرامجها السياسية والاقتصادية والثقافية، بل والفكرية والتربوية وكيفية تكون إدارة حياة الناس، على أساس تأسيس بداية فكرة "الدولة الحديثة"(110). لكن الأمور تطول ومن ثم علينا مواجهة تحولات العالم الإسلامي في القرن الثامن عشر، وبالذات في الكيفية التي يقدم فيها علماء "الأمة" مفهوم للعلم أو ما يختارونه من أنواع العلم. وسنبدأ برواد عصر النهضة في العالمين العربي والإسلامي، سواء كانوا من كادر العلماء التقليديين أو من أبناء الوطن "الإسلامي" بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والمذهبية، إذ بدأ العالم في تغيرات لمفاهيم الرعية والمواطنة ونحوها. ونظرا لأن هذه المرحلة الحديثة المبكرة لم تعد قاصرة على ما يدور من مفاهيم وآراء داخل سياق وإطار تجربة العالم الإسلامي الحضارية، حتى في حالة اقتباسها من حضارة اليونان أو الفرس أو الهند، وإنما انفتاحها - وهي تعاني من ظواهر وأعراض دونية أو اختلال في المكانة، ما له آثاره وأهميته فيمن يرى أن عليه أن يتصدى لتقديم مفهوم جديد وفعال للعلم بوصفه وسيلة للخروج من أزمة أو ورطة التبعية أو التخلف أو "الشرك".

                  ولنبدأ ببعض زعماء رواد النهضة وطلائعها التقليدية الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العلم ثلاث: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة، وما كان سوى ذلك فهو فضل" رواه الدارمي وأبو داود.(111)، وله أيضا "إن العلم لا يسمى علما إلا إذا أثمر وإن لم يثمر فهو جهل"(112). ومن الواضح أن رؤية الشيخ محمد بن عبد الوهاب لمفهوم العلم تقوم على تأكيد الشريعة باعتماده على تعريف للعلم من الحديث النبوي وعلى أن كل ما لا نجده في الكتاب والسنة فهو فضل لا يحتاجه المسلم ولا مجتمعه، بل وينتقد أي مفهوم آخر يوصفه أنه ليس له ثمرة وقد يضر بالمجتمع، ومن ثم علينا التمسك بالقاعدة الأصولية "درء المفاسد" وأن ما تركه لنا السلف كاف وغير بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. إذ نقابل أمامنا موقف "دينيا" تقليديا صارما وحاسما من مفهوم العلم، وهو مفهوم لا يأخذ ولا يقبل الأخذ عن الآخر، وبالذات غير المسلم، ويعده كفرا وخروجا عن الملة، وكما سترى لهذا الموقف المتشدد والبسيط في نفس كون تبعاته ونتائجه، بالإضافة إلى أن صاحبه كان صاحب حركة إسلامية إصلاحية مما وسع وأثر في انتشار وقبول هذه الأفكار!.

                  أما الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (متوفى 1872) بسبب اتصاله بالغرب ومعرفته بعلومه ووقوفه على التحولات التي يمر بها العالم الحديث وخصوصا تأثير "العلم" في تشكل نهضة وقوة هذا العالم الجديد، نجده يقدم فهما مختلفا عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب من ناحية، ولم يعد أفقه أو عالم تأمله للأفكار محدودا بالتراث الإسلامي في مظانه التقليدية، بل ربما قدم نفسه بوصفه قنطرة للتواصل والتعريف بالغرب ونهضته استنهاضا للهمم وتوسع في عملية التثاقف الفكري الذي ستتوسع دائرته مع اتصال العالم الإسلامي بالغرب وحضارته: "اعلم أن الإفرنج قسموا المعارف البشرية إلى قسمين: علوم وفنون. فالعلم هو الإدراكات المحققة المذكورة بطريق البراهين. أما الفن فهو معرفة صناعة الشيء على حسب قواعد مخصوصة. ثم عن العلوم تنقسم إلى رياضية وغيرها. وغير الرياضية تنقسم إلى الطبيعيات وإلهيات. والعلوم الرياضية هي الحساب والهندسة والجبر والمقابلة"(113). وما يمكن ملاحظته هنا أن هذا التصنيف ربما كان لا يختلف كثيرا عن ما كان يرد عند الفلاسفة المسلمين الذين نهلوا من التراث اليوناني، لكن الجديد هو أن المرجعية الآن صاروا "العلماء الإفرنج" وليس اليونان.

                  على أننا نجد عن جمال الدين الأفغاني (متوفى 1897) وهو رائد مهم للنهضة الإسلامية الحديثة وانفتاح ومعرفة بما وصلت إليه أوروبا أو بشكل عام الحضارة الغربية، ما وسع من آفاق، مرجعية في تناول تعريف المفهوم، فيوضح: "قد يطلق العلم في لسان أهله على معان فيها مبدأ الانكشاف، أي ما هو المنشأ والعلة القريبة التي بها يكون الظهور والإشراق، ومنها الحاضر عن المدرك، ومنها النسبة الكائنة بين العالم والمعلوم، ومنها الصفة القائمة بالمدرك التي بها يكون الإدراك، وهذا المعنى بحسب المفهوم أخص من المعنى الأول"(114) وهنا نلاحظ أن الأفغاني يوسع من مفهوم العلم ولا يقصره على نوعية من المعارف، كما فعل الطهطاوي.

                  لكن محمد عبده (متوفى 1905) الذي عرف من المعارف التقليدية، لكنه انفتح على معارف العصر الحديث واستفاد من أفكار جمال الدين الأفغاني نجده يؤكد ليس فقط على ماهية العلم وإنما على اعتباره وسيلة ضرورية وحافزا على تغير شأن ومصير الأمة: "العلم إذا انتشر في قوم أضاءت لهم السبل واتضحت المسالك وميزوا الخير من الشر والضار من النافع، فرسخ في عقولهم أن المساواة والعدالة هي العلة الأولى لدوام السعادة فيطلبونها بالنفس والنفيس وان الظلم والجور قرينان للخراب والشقاوة"(115) ويؤكد على أن آفاق العلم لا تقتصر على الاستفادة والأخلاق، فيوضح "حصول صورة الشيء في النفس علم، وميلها إلى طلبه أو تركه إرادة والتصميم على أحد الأمرين عزم وليس بعده إلا الطلب بالفعل أو الترك والترك لا يحمل النفس كبير المشقة سوى الوقوف على كون المتروك من الأمور التي تكلف بها النفس تكليفا ضروريا أو كماليا"(116).

                  وتطغى روح المصلح والرائد الإسلامي الذي يعمل في حقل إعادة توجيه أولويات الأمة ويعمل على خط مسارات جديدة لها، و"العلم" محوريا في عملية الإصلاح، فيؤكد: "لا نريد من العلم تصور القواعد وإنما نريد منه ملكه الإفصاح والبيان وكون المراد منه هذا أمر بديهي إذ لولا الكتابة لما وصلنا إلى درجة من الدرجات التي نراها. فافتتاح الله تعالى الوحي بطلب العلم والثناء عليه سبحانه وتعالى بأنه هو الذي علمه ووهبه الإنسان إرشاد إلى فضل العلم وحث على تحصيله خصوصا العلم بالعلم"(117) ونجد عن بعض رواد الإصلاح انعكاسا لما ينشد الإمام محمد عبده من تحفيز للأمة وحض على اكتساب العلم والعمل على التفوق فيه، فهذا محمد رشيد رضا (متوفى 1935) يوضح بفلسفيته المتضحة على العصر: "العلم مصدر الأعمال كلها: دنيوية وأخروية، فكما لا يسعد الناس في الدنيا إلا بأعمالهم كذلك لا يسعدون في الآخرة إلا بأعمالهم"(118).

                  ونجد جميل الزهاوي (متوفى 1936) يؤكد "العلم والأدب جناحان للرقي تطير بها الشعوب. فلا أفضل العلم على الأدب إلا قليلا" (119) وهذه إشارة طريفة توضح بداية التفريق بين العلوم الطبيعية وأهميتها عن العلوم النقلية عموما! أما فيلسوف الإسلام محمد إقبال (متوفى 1938) وهو الذي نهل من الجامعات الغربية لكنه جسد الضمير والأمل الإسلامي بالتأكيد على عظمة إنجازات الحضارة الإسلامية، والذي تعمق في دراسة الفلسفة الحديثة وعلى ادعاءات بعض المفكرين الغربيين بوجود تعارض بين الدين والعلم، نجد يؤكد لأبناء ملته: "الخلاف بين العلم والدين لا يرجع أن أحدهما يقوم على التجربة الواقعية وان الآخر لا يقوم عليها. فكل منهما يبدأ ببحث التجربة الواقعية، أما اختلافهما فيرجع إلى خطأ الرأي القائل بأن كل منهما يتناول بالتفسير نفس الأسس التي للتجربة الإنسانية، وننسى أن الدين يرمى بلوغ المعنى لنوع خاص من أنواع التجربة الإنسانية"(120).

                  وقبل الوضوح إلى النصف الثاني من القرن العشرين، نود أن نستعرض طرفا من إسهامات عربية جديدة لعبت دور الوسيط والقنطرة بين الفكر العربي الإسلامي وأفكار العصر الحديث، وذلك ما قامت به نخب عربية مسيحية، كانت لها إسهامات مشكورة، وبالذات في مجال التعريف بالفكر الغربي والحديث منه تخصصا. فهذا فرنسيس مراش (متوفى 1873) يقدم بدايات لهذه الوساطة أو القنطرة في نقل الفكر الغربي بلسان عربي، وكان من الواضح أن دور هذه النخب هو المشاركة الفاعلية في عملية النهضة والتجديد في الفكر العربي الإسلامي عموما. فيقول مراش: "نشأ العلم وقام الفهم، فالعلم ريحانة النفوس وروح قدوس به تنتشر الأفكار وتبصر الأبصار وتكشف الأسرار وتجلى السرائر وتبرز الضمائر وتسموا المنايا وتصفوا النوايا وبحسنه تحسن الصفات وبكماله تكمل الذوات. وهو الكنز الذي لا يفنى والجمال الذي لا يشن قوة الكبير وسند الصغير، ذخر الفقير فمن حازه حاز الجلال . ."(121)

                  ويوضح وبلغة تقليدية: "بالأحمال نقول: إن العلم هو الفاعل الأعظم لتثقيف العقل والمروض الأكبر جماح الطباع والسبب الأهم لتشييد المدن والعمار، إذ أنه يرفع أفكار الإنسان إلى الحقائق السامية فلا تعود دائرة على مستحقرات الأشياء ويرسم في مرآة ذهنه صور الكائنات الدقيقة فلا يعود متمسكا بخزعبلات الأمور فتنطفي من قلبه جمرات الحسد بنظره إلى زوال المحسودات . ." (122) ويستمر موضحا بالطريقة الوعظية نفسها: "أن الاكتساب العقلي ينقل الإنسان من الحالة الوحشية إلى الحالة الأنسية، وهكذا العلم ينقله من حالة الغفلة إلى حالة النباهة ومن قيود الجهل إلى حرية العقل. على أن كلا من البشر يعود بالعلم حرا فلا يتسلط عليه عدو مغتصب ونبيها فلا يخدعه الغشاشون وحازما فلا يميل مع كل ريح وشجاعا فلا يخشى تهديد الطماعين وتوعد المتحشدين . ."(123) ففي النهاية: "العلم هو معرفة الموجودات وأحوالها وطبائعها وأفعالها ونسبة كل منها إلى ما سواه ومعرفة فوائدها في غاياتها"(124). ومن الواضح أن مراش واعظ مناصر بلا تحفظ ما يمكن أن يحققه العلم وهو أمر ينقصه التواضع وكان لأمثال هذه الآراء الانتظار لعقود حتى يكون عليها التواضع علما!.

                  أما عبد القادر الجزائري (متوفى 1882) الذي كان عليه أن يواجه الغزو العسكري والمعرفي والفكري الغربي ممثلا في فرنسا، بمفهوم يؤكد على ضرورة التسلح ضد كل هذه التحديات بالعلم، حتى لو كان طرفا منه عند الخصوم، "المراد بالعلم، المأمور بطلب الزيادة منه، هو علم التجليات الربانية . ."(122) ويضيف التأكيد على الأخذ بمصادر القوة والمعرفة في مسيرة الجهاد.

                  أما شبلي شميل (متوفى 1917) فإنه يربط بين الفلسفة ومن أهمية الاشتغال بها وعملية تحصيل العلوم الحديثة، فيوضح: "ما الفلسفة إلا القياس العلمي بأوسع ما يقدر العقل أن يتصرف فيه . . . العلم لا يدرك ذلك فالفلسفة لا تقدر أن تدرك إلا ما يأذن العلم به"(124). ويوضح بشكل حاسم: "يراد بالعلم الصحيح العلم الطبيعي"(125)، وهذه فكرة جديدة بهذا الحسم والتصميم، ورغم أنها لم تعد مكان إجماع اليوم، إلا أن ظهورها بهذا الشكل في ذلك الوقت، وربما كذلك اليوم في بعض الأوساط الدينية والثقافية يعد جراءة محمودة!.

                  أما أنطوان سعادة (متوفى 1949) فإنه يعمل على ربط التراث العربي الإسلامي بالمفهوم الجديد للعلم في العصر الحديث: "ابن رشد كان ينادي بالتوفيق بين الدين والفلسفة ولكن طريقته في ذلك طريقة جديدة وملخصها هو: أولا: أنه يوجب التأويل لتطبيق الدين على العلم لا العلم على الدين . . فكل شيء لا يقبله العقل والبرهان العلمي يجب تأويله. وكان الإمام الغزالي "يجيز" التأويل لا يوجبه خوفا من الوقوع في المكابرة كما قال في الصفحة 5 من كتاب "تهافت التهافت". وذلك متى ظهر ظهورا واضحا بأدلة قطعية ولكن إذا كان العقل لا يستطيع نقضه بأدلة قطعية فهو لا يؤول لأن في مقدورات الله كل شيء ممكن. ولا يخفى ما بين هاتين القاعدتين من الفرق والبون. وكل واحد منها يقوم عليها بناء عظيم. الأولى يبنى عليها العلم والثانية الدين"(126) ويردف: "العلم يجب أن يوضع في دائرة "العقل" لان قواعده مبنية على المشاهدة والتجربة والامتحان أما الدين فيجب أن يوضع في دائرة "القلب" لأن قواعده مبنية على التسليم بما ورد في الكتب من غير فحص في أصولها. وليس يجوز أن يقال أن هذه القسمة إلى عقل وقلب بدعة في العلم وهادم لسلطنة، لأن العلم يريد البحث في كل شيء وكل أصل، فإن العلم نفسه لا ينكر عجزة في بعض الأحيان"(127).

                  إذن نجد عند أنطوان نوعا من الوصاية على التراث العربي الإسلامي من ناحية، وجراءة في التمهيد لتيار علماني نقدي، ربما في هذه المرحلة المبكرة يشكل تهديدا غير مسبوق لمحورية وأهمية سلطة الدين في هذا السياق الفكري سنرى مع دخول القرن العشرين فريدا منه بين أبناء "الأمة" وجراءة في التعبير العلني عنه، مما ولد ويلد مواجهات فكرية حادة في حياة الأمة وتوجيهها!.

                  ويعد النصف الثاني من القرن العشرين أخصب فترة في تاريخ الفكر الإسلامي في تناول مفهوم "العلم" ورغم أن الموضوع يستحق المعالجة المستفيضة التي ربما ليس مكانها في هذه الورقة البانورامية والتي يعد تناولها في ورقة أخرى مستقلة لكننا هنا سنقدم إشارات سريعة ومتنوعة على أمل العودة إليها في مكان آخر بشكل أكثر توضيحا وتتبع جذورها التاريخية داخل وخارج السياق الفكري العربي الإسلامي.

                  وسنبدأ بأفكار أديبة عربية مسيحية كانت من صاحبات الصالونات الفكرية النخبوية المؤثرة، مي زيادة (متوفاة 1941) وهي أدبية مثقفة تعد من طائفة القنطرة بين الشرق والغرب، فتوضح: "من اعتقادات الناس عامة أن العلم شيء والأخلاق شيء آخر، وقد يكون هذا ظاهرا في أحوال كثيرة إلا أنه لاح عند من يتعاطون إصلاح نفوسهم. عندهم يمتزج العلم بالأخلاق وتتوحد المعرفة والتربية فتصير قوة رفيعة. وليس أقرب من العالم إلى الخلق السامي لأن العلم يرينا عظمة الإنسان وجلال الوجود وقدرة الألوهية الشاملة فيصبح العالم محبا ويتوق إلى الصلاح. إذ لا شيء يحث على الصلاح والرفعة الأخلاقية كالحب العميق الأكيد"(128) وتوضح: "ليس في استطاعة العلم إلا تحسين أحوالنا المادية، أنه يعلم الإنسان استخدام الطبيعة، وينمي ذكاءه نموا شديدا ولكن لا سطوة له على الأخلاق - وأنتم تعلمون- أن العلم نصف الارتقاء، والأخلاق النصف الآخر، وأن شرف المرء قائم بحسن أخلاقه وسمو مداركه أكثر منه بتعدد علومه وكثرة أطماعه"(129) وهكذا فإن نداء مي في الأخلاق مع العلم لا يمكن أن يفهم بصورة سوى في إطار مفهوم العلم الحديث وبالمعنى الغربي(129).

                  تميز النصف الثاني من القرن العشرين بأصوات عديدة بعض من هذه الأصوات لدعاة للفكر والحركات الإسلامية الحديثة يتناولون الحديث عنها "العلم" من زاوية إصلاحية حركية، تعنى بالشأن العام من زاوية " دينية حديثة "، ونجد كذلك أصوات مشابهة ولكن من منطلق علماني يساري يعلي من شأن العلم في شكل دعوة لحركة حزبية أو فكرية حديثة ونجد أصوات لا تزال تشكل القنطرة للتواصل من الغرب في سعي حثيث لترويج الأفكار الجديدة الحديثة وأخيرا نجد استخداما سياسيا لمفهوم العلم دعما لخطاب سياسي تحديثي ودعما لمشاريع سياسية ترى أن العلم يمكن أن يكون وسيلة ناجعة وفعالة لتحقيق برامجها.

                  لنبدأ بالكيفية التي نظرت بعض الحركات الإسلامية، ممثلة في قياداتها وأفكارهم. فهذا حسن البنا (متوفى 1949) يوضح: "العلم في القلب فذلك العلم النافع، وعلم على اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم ن ويا أيها القاعدون عن الصلاة لماذا تقعدون وهي رياضة لأرواحكم ونور لقلوبكم وطمأنينة لأنفسكم وصلة بينكم وبين ربكم وعمل صالح في الدنيا ومثوبة في الآخرة، وليس فيها بعد ذلك من تعب ولا إرهاق"(131) ويوضح أهمية العلم لدعوته والصحوة الإسلامية بشكل عام فيذكر: "العلم تسعد به الأمم وترتقي إلى مدارج العلا، ولا نهضة للأمة بغيره، وما ساد الكفار إلا بالعلم، وما تأخرنا إلا من ناحية الجهل، فالعلم والجهل لا يستويان، قال تعالى: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (132).

                  أما الشيخ محمد الغزالي (متوفى 1996) فيؤكد "أن العلم، على اتساع فنونه الدنيوية والأخروية، لم يزدهر ويصل إلى المرحلة التي بلغها إلا بالتجرد الحق عن الأغراض الصغيرة. وهذا لا يعني البتة أن يكلف العلماء والمتعلمون بتحمل مشاقّ العيش والتعرض للأزمات المحرجة، فإن إخلاص النية لا يستلزم إعنات المخلص وتحميله الأذى".

                  أما المفكر الإسلامي مالك بن نبي (متوفى 1973) فإنه يعمل على توظيف العلم الصالح تجاوز الأمة والمجتمع المسلم تخلفه كل أزماته، ومن ثم أن جعل العلم نوعا ما حياديا، إلا أنه يرى توظيفه والاستفادة منه أمر حضاريا واختياريا. فيرى أن: "العلم، من حيث هو علم، هو مجموعة المعلومات ومجموعة الطرق المؤدية لاكتسابها، ولكن يجب علينا إضافة شيء إلى هذا التعريف الذي تصورناه من زاوية علم تاريخ التطور العلمي، لان التطور العلمي لا ينحصر في هذه الزاوية، بل هو متوسط أيضا بمجموعة شروط نفسية اجتماعية تؤثر سلبا أو إيجابيا، بحيث تعطل هذا التطور، ونتيجة أكثر فأكثر"، ويضيف موضحا: "العلم ما هو في أبسط معانيه، إلا البحث عن الحقيقة في كل ميدان وفي الأخلاق وفي التشريع وفي الاجتماع وفي الطب وفي الطبيعة. . الخ. ولكن هذا البحث معرض لمعوقات وإلى متاهات، وتتخذ وهما بمثابة حقيقة، وقد نتيه في الآراء، ورب رأي خطأ، فعلى العلم أن ويواجه هذه الحالات التي يتردد فيها العقل بين الشك والاقتناع، بتمرينه على هذه المواجهة!" (133) ومن الواضح أن مالك بن نبي يشير فيما أوردناه له، إلى أهمية العلم بالمعنى الحضاري، لكن ينبغي أن نحده بضوابط ومعايير تجعلنا نطمئن إلى نشدانه الحقيقة والعمل على ذلك، وذلك من أجل توظيف أفضل لمجالات عديدة تؤثر في حياة الناس وتهمهم في دينهم ودنياهم.

                  وهذا مصطفى عبد الرزاق (متوفى 1946) وهو من علماء الأزهر التقدميين يرى أن حاجتنا إلى العلم ليست حديثة ولكن الحديث هو شعورنا بتلك الحاجة وتلمسنا سدادها من كل سبيل، وذلك أثر الحياة الناشئة في أمتنا حياة الرقي والأمل. كنا غافلين عن فائدة العلم بحكم الفتور العام في مشاعرنا القومية من الأمراض الاجتماعية التي أصابتنا ولم يبرأ كلها بعد. ولقد كانت الأمة تساق إلى العلم باكية، كما كانت تساق إلى الجندية، وسواء ما كان يشيع به نحو العمالية يساق إلى السخرة ونفر القرعة العسكرية يقاد إلى حمل السلاح وما كان يشيع بين التلاميذ يذهب به إلى المدرسة: كانت الأمهات يلبسن الحداء ويقمن المفاجأة والمنادب وكان الآباء يظهرون من الجزع أشد ما تحتمل الرجولية من مظاهر الجزع(134). وفي الواقع ما يذكر عبد الرزاق الإشارة فيه إلى المدارس العصرية الحديثة، ما يذكره بشكل وثيقة أثنوجرافية لكيف تغيرات مفاهيم عديدة في البلاد العربية، مما يوضح مدى ما لحق الوعي والعقل من معارف ومفاهيم جديدة.

                  أما السيد أحمد خان ( متوفى 1766) وهو من ممثلي الفكر الإسلامي الحديث في الهند، وربما في تفاعل مع ما جلبه الاستعمار البريطاني من تحولات عميقة أثرت في بنية مفهوم العلم نجده يطالب "عليكم بالعلم؛ فإذا شئتم أن تتعلموا أو تستفيدوا فانسخوا كثيرا من عاداتكم القديمة وأخلاقكم الوضيمة، واهتدوا بنور العلم في طريق حياتكم التي تسيرون"(135). وبطبيعة الحال العلم المطلوب هو العلم الغربي الحديث، ودعوته يجب أن تفهم في ذلك السياق التاريخي السياسي الثقافي.
                  أما المفكرون المسلمون ذوي التوجهات التحديثية من أمثال عباس العقاد، وطه حسين، وزكي نجيب محمود فإن تقديمهم لمفهوم العلم له خصوصية ولا يمكن أن يفهم سواء في إطار بنية ونسق ما يمكن أن يشكل مشروح الإصلاحية والنهضة العربية ذات البعد الحضاري الذي لم يعد يصر على الخطاب الديني السلفي حلا لمشكلات الحضارة في المجتمعات المسلمة. فيقول العقاد:
                  "الواقع أن العلم كله يقوم على أساس الإيجاب والترقب ولا يقوم على أساس النفي والإصرار. وما من حقيقة علمية إلا وهي تطوى وسجلها تاريخا طويلا من تواريخ الاحتمال والرجاء والأمل في الثبوث. وإن تكررت دواعي الشك وبل دواعي القنوط" (136) ومما يلاحظ أن العقاد يشاطر كارل بوبر في فهمه للعلم لكن توضيح ذلك ليس مكانه هنا.

                  أما طه حسين (متوفى 1973) فإنه داعية للأسلوب والطرح العلمي لذا يقول: "العلم يجب أن ينتهي إلى الإنتاج المادي الذي يخرج ما في هذا العالم من ثمرات تجعل العيش يسيرا وثيرا. لكل شيء ثمن وثمن مادي يجب أن تأخذه الأيدي وأن تتناوله الأفواه وأن تحتويه الجيوب. هذه قيم أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها وليدة الغرور وسوء التحقيق للأشياء. وأنها تنتهي بالإنسان إلى مادية منكرة توشك آخر الأمر أن تجعله أداة إنتاج لا أكثر ولا أقل"(137). وفي رأيه "العلم الذي لا يتجدد كالماء الذي يأسن ويسرع إلى الفساد"(138).

                  أما فيلسوف الفكر العقلاني زكي نجيب محمود فإنه يرى أن "العلم طريق يسار عليه، وليس نهاية يوصل إليها. فالعلم منهاج قبل أن يكون نتيجة مقطوعا بصوابها. العلم تيار متدفق، كل موجة فيه تتبعها موجة، في حركة تدون ما دام للعقل نشاطه. العلم لم يقصره الله على فرد ولا على جيل ولا على عصر ولا على أمة. ففرد من الناس يكمل ما أنجزه فرد آخر، وجيل يواصل طريق الجيل الذي سلفه وعصر يصحح عصرا وأمة تتكامل بنتاجها العلمي مع نتاج سائر الأمم" (139) وهو يرى أن التفرقة بين "المثقف" و"المثقف الثوري" هي نفسها التفرقة بين "العلم للعلم" و"العلم للمجتمع"(140). لهذا يؤكد: "إن العلم يزحف بوسائله زحفا سريعا على جوانب الحياة التي كانت متروكة قبل ذلك "الرأي" وأينما تصح السيادة للعلم وما يقرره لا يكون من حقنا أن نجعله نهبا للمناقشة واختلاف الآراء. فإذا كان العلم قد خطا خطواته الفسيحة في حل كثير من مشكلات البرد والظلام والجوع والأوبئة والمسافات، فكيف لا نستمع إلى قراراته التي يقضي بها في كل علاقة اجتماعية من تربية إلى سياسة واقتصاد!"(141).

                  ونجد أيضا أحد رجالات تشكيل الرأي العام والفكر يوضح الفرق بين العلم وسواه فهذا عبد العزيز البشري (متوفى 1943) يوضح "لم تكد الدولة العربية تنبعث في الحضارة حتى أرسلت كلمة "الفن" للتعبير عما يقابل كلمة "العلم"، فما كان قوامه إرسال القضايا الكلية التي يتعرف بها أحكام ما يتدرج تحتها من الجزيئات فذلك علم. وما كان قوامه العمل الجاري طوعا للأصول والأحكام المقسومة، فذلك فن فيقال علم الأصول وعلم الفقه وعلم النحو وعلم الصرف ولا يقال في شيء من ذلك فن. ويقال للخطابة وقرض الشعر والموسيقى فن ولا يقال علم. فقد بان لك أن العلم مادته الفكر والنظر وأن الفن مادته العمل والأثر"(142).

                  هذه إجمالا طائفة من آراء دعاته الحديث والأخذ بالعلم الحديث من أجل تطوير الأمة العربية المسلمة من المسلمين. لكن وكما أوضحنا هناك أيضا من سعوا لتجديد معاني مفهوم العلم، لكن لا بد أن تصرف معالجتهم لهذا المفهوم إلى سياق إيديولوجي بسبب نشاطهم الفكري العام، وسنأخذ زكي الأرسوزي (متوفى 1968) نموذجا، فهو قومي عربي ينظر للحزب الذي يتبنى أمثال هذه الإيديولوجية فهو يوضح: "أن للعلم وجهة تربوية تساعد على اكتساب الذهن صفات هي من الديمقراطية بمثابة الهيكل العظمي من الجسد. ومن هذه الصفات صفة اتخاذ العقل مرجعا وحكما في قبول القضايا كحقائق أو رفضها" ويرى "كان العلم فيما مضى وقفا على الطبقة الممتازة. وكان يحمل هالة من القدسية فتارة يتلبس بالدين وأخرى يتلبس بالسحر. وكان العلم خليفة الأنبياء وكان الأشياء العلوية موضوع تأملاته.
                  كان يقبع في خلوته ولا ينزل من عليائه إلى الجمهور إلا ليصغي الجمهور إلى ندائه. وهكذا كان العالم، يحتفظ بهيبته، وهكذا كان العلم يحتفظ بمنعته. أما اليوم فقد أصبح العلم على خلاف ما كان عليه بالأمس. أصبح في متناول الجميع حتى غدا – في معظم الدول – إلزاميا عاما. بل بلغ الأمر في بعض الدول أنها تقدم في كل يوم، وجبة إفطار ووجبة غداء لجميع الطلاب، من سن الحضانة إلى نهاية التحصيل الثانوي، هذا فضلا عن التعليم مجاني"(143).

                  كما أوضحنا، لعبت النخبة المسيحية العربية دورا متميزا في نقل وترويج مفهوم العلم كما تشكل في المغرب في النصف الأول من القرن العشرين، ولقد استمر هذا الدور في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن بشكل أكثر تفاعلا ولم يقتصر على إبراز ما في الغرب. على أن أساليب التقديم اختلفت كما سنرى. فهذا سلامة موسى يعد من أبرز دعاة الأخذ بالعلم في كافة شؤون الحياة وهو من المبشرين بذلك: " العلم هو شيء جديد في عصرنا، إذ ليس هو محض التفكير والاستنتاج وإنما هو التخيل أولا ثم التجربة باليد ثم التفسير بما يتلاءم مع النتائج من هذه التجربة. وشيوع الأسلوب العلمي في أيامنا قد جعل الفلاسفة والأدباء يتشككون في قيمة ما يمارسون من فلسفة وأدب، لذلك أصبحت الفلسفة "تجريبية"(144) وهكذا نرى أن سلامة موسى الذي تبنى "الفكر العلمي" الحديث يشارك بصخب وقوة لجعل العلم بديل في التعامل مع القضايا والأفكار التي عيش عليها المجتمع بدلا من التقاليد أو الدين أو سواهما. أنه يقدم خطابا علمانيا دون لبس، وهو في هذا قد لا يختلف عن سواه من المفكرين العرب المحدثين بعض النظر عن الدين الذي ينتمون إليه!.

                  أما أسد رستم (متوفى 1965) المؤرخ والمفكر فهو وإن قدم العلم الحديث إلا أنه – ربما من أجل التواصل – يتوسل في سعيه للتواصل مع قراءة بالفكر والإرث الإسلامي لتحقيق غاية حديثه: "قال الإمام مالك بن أنس (179هـ): لا يؤخذ العلم من أربعة ويؤخذ عن سوى ذلك: لا يؤخذ من سفيه، ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به"(145). أما ميخائيل نعيمة (متوفى 1988) بسبب نزعته الصوفية العرفانية نجده يؤكد على جمع الشمل فيوضح "عهدنا بالعلم أنه أداة جمع لا أداة تفرقة، أداة تعاون بين الناس لا أداة تنابذ"(146).
                  أما من كان ينحو منحى فلسفي، فإننا نجد أن مفهومه للعلم لا يبتعد كثيرا عن تصوره العام للمدرسة الفلسفية التي ينتمي إليها. فهذا كمال الحاج (متوفى 1976) يرى "أن العلم متحرر من كل شعور ديني لدى الإنسان يفسد على العالم سيره نحو الواقع في حد ذاته. يقولون العلم إدراك للذي هو في حد ذاته. إن الـ "في حد ذاته" موجود خارج وجداننا. فإذا أتجه العلم نحو دراسة الإنسان عينه (كمرض جسمي أو حالة نفسية أو نشاط اجتماعي) فالعلم يشيّء الإنسان إذ يجعله من باب المادة، ليتمكن بذلك من أن يعكف عليه ويدرسه كما لو كان شيئا من أشياء العالم الخارجي. وظيفة العلم إذن أن يشيّء الحياة، كي يصل إلى ما أسمي بالذي هو في حد ذاته. وهذا حذر من الإنسان، كمجموعة نزعات شعورية، تميل به دائما إلى اليمين أو إلى اليسار، متمنع ذاتيه النفس إيضاح موضوعية المادة" (147).
                  ويعد فؤاد حروف (متوفى 1985) من أكثر الدعاة للعلم والمنظرين لمفهومه: "أنا أعلم أن العلم واقع تحت غيمة قاتمة لأن المخترعات والمستنبطات مرتبطة بهذه المآسي التي تجرها الحرب في ذيولها. ولكن العلم نفسه لا يخدم الحرب دون سلام. فالعلم يعطينا الأسمدة بيد والمتفجرات بالأخرى. وكلتا الطائفتين من هذه المواد مركبة من مواد أساسية واحدة تقريبا. وأنه يزودنا من ناحية بالأشعة السينية وأساليب الجراحة وكلتا الطائفتين الجراحة والعقاقير التي تقهر المرض، ومن ناحية أخرى بالمدافع الرشاشة والغاز الخانق والقنابل الذرية ولكن ما يزودنا به العلم لأعمال السلام والإنشاء خليق أن يفوق ما يزودنا به لأعمال الحرب والتدمير". ويوضح: "للعلم فائدة أخرى لم تستتب بعد، ولكنها دين للعالم معلق في أعناق العلماء. إذ لا يخفى أن الديمقراطية في معناها الأمثل، يجب أن تسعى إلى تحقيق الحرية لأفراد المجتمع، علاوة على ضمان الحقوق السياسية، لأنه إذا أدرك أفراد المجتمع بعض الاكتفاء الاقتصادي، كانوا أحكم اشتراكا في الشؤون العامة، وأرشد رأيا فيها، وأعظم استقلالا في وزن الأمور بموازينها الصحيحة" .(148) ويؤكد على أن "العلم لا يقتصر على ما يكشفه من أسرار الكون ولا على ما يخترعه رجاله من أسباب لتيسير الحياة أو لتدميرها ولا على وسائل القدرة التي يوفرها للناس بل هو في صميمه نظرة إلى الكون والحياة والفكر يجتمع فيها التطلع إلى المجهول والجرأة في الخروج على المألوف والتعاون بين المشتغلين بالعلم والرغبة الصادقة في إعلاء كلمة الحق والخير. فرسالة العلم - قدرة وقيمة- هي رسالة النفس المثقفة ورسالة العالم المستمتع بالوفر والرخاء في وقت واحد.
                  وكلاهما خير ما فتئت ركائب التاريخ تحدي إليه منذ كانت البشر" (149)، و"العلم لا يخدم سوى الحقيقة"(150) بل يوضح "لن نجد اثنين يختلفان في أن العلم، نظرا وتطبيقا وقدرة وثقافة، لا غنى عنه في المجتمع الحديث، كائنة درجته من التقدم والتخلف ما كانت. فالمجتمعات المتقدمة تستزيد منه في طوقها أن تستزيد حتى لا تتأخر والمتخلفة والنامية تنصب عليه - أو ينبغي أن تفعل- حتى تسد شيئا ما، الفجوة بينها وبين المتقدمة وتستجيب لآمال شعوبها في حياة أفضل ومنزلة أعز"(151). وفي رأيه "أن العلم يطلب لذاته أولا، ثم تطبق حقائقه ومبادئه على مقتضيات الحياة والعمران. وأن تاريخ ارتقاء العلوم أبان أن أكثر المكتشفات العظيمة لن تجن منها فائدة عملية في بدأ عهدها ثم سارت أساسا لأعظم ما نراه في عصرنا من مقومات العمران"(152) وهو يؤكد على عالمية وإنسانية العلم، معتبرا أن: "العلم تراث متراكم متكامل، العلم مشاركة إنسانية عالمية. وهذان التراث والمشاركة يتجسدان في مؤسسات اسمها جامعات أو معاهد . .، ويجب على الجميع المشاركة في ذلك وإلا كان خارج التاريخ"(153).

                  نجد إذن عند حروف حماس ورغبة في إقناع المجتمع العربي ليس بأهمية العلم وإنما بتبني العلم وأساليب وطرق التفكير العلمي إن أردنا كعرب أن نكون داخل دائرة التاريخ لا خارجه ويرى أن بالعلم يمكننا تحقيق الخير وربما نتجنب الشر والدمار ونحقق الرفعة والمنزلة التي نتطلع إليها. وهذه دعوة جريمة جادة على الأمة تسعى لإخراجها مما هي فيه من تخلف عن مسيرة الإنسانية، وهي في الوقت نفسه خطاب محايد لا يتكئ على الدين وغنما على العلم وسيلة نهضة المجتمع وتكاتفه والعمل على الوصول به إلى مصاف الدول المتقدمة!

                  لعل حماس حروف يأخذ شكلا واضحا في آراء زعيم عربي سياسي بارز هو جمال عبد الناصر الذي يتبنى العلم سياسة وأسلوب الحياة. فهذا عبد الناصر يوضح: "أن العلم هو السلاح الحقيقي للإرادة الثورية. ومن هنا الدور العظيم الذي لا بد للجامعات ولمراكز العلم على مستوياتها المختلفة أن تقوم به " ويؤكد على أن "العلم هو السلاح الذي يحقق النصر الثوري والعلم وحده هو الذي يجعل التجربة والخطأ في العمل الوطني تقدما مأمون العواقب . . . أن السلطات الشعبية بدون العلم قد تستطيع أن تثير حماسة الجماهير، لكنها بالعلم وحده تقدر على العمل تحقيقا لمطالب الجماهير"(154) "أن العلم للعلم في حد ذاته مسؤولية لا تستطيع طاقتنا الوطنية في هذه المرحلة أن تتحمل أعباءها، لذلك فإن العلم للمجتمع يجب أن تكون شعار الثورة الثقافية في هذه المرحلة. على أن بلوغ النضال الوطني لأهدافه سوف يسمح لنا في مرحلة متقدمة من تطورنا بأن نساهم إيجابيا مع العالم في العلم للعلم. وليس العلم للمجتمع عقبة تفرض على العلماء أن يلتزموا بمشاكل الخبز المباشرة وحدها. إن ذلك يصبح تفسير ضيقا لرغيف الخبر الذي نريده"(155) إذ تتحول مع عبد الناصر مسألة توظيف العلم إلى تشجييش سياسي، ويستخدم كلمة "سلاح" هنا بهذا المعنى، بحيث نجد أنفسنا بعد هذه المراجعة الطويلة أن مفهوم "العلم" قد وظف دينيا من خاصية العبادات والمعاملات والأخلاق تحديدا وفي النهاية جيش لاستنهاض الأمة في مواجهتها لأعداء الأمة بالعلم!
                  بطبيعة الحال كامن بالإمكان الاستمرار في توضيح المعاني والدلالات الحديثة التي يمكن أن يشغلها مفهوم العلم، لكن سنتوقف عند هذا الحد لنوضح أن للمفهوم زخم وإشارات عديدة جديدة، يغلب عليها إعادة الانتباه لمفهوم العلم كمدخل وإطار لجماع أنواع الأنشطة التي يمكن أن يقوم بها المجتمع العربي المسلم لمواجهة تخلفه وتأخره عن الركب الإنساني، وأن هذه الدلالات يأخذ بعضها شكل الاستنهاض وبعضها الآخر توضيح إمكانيات العلم الخيرة والشريرة. ومما نلاحظ أن العلم بقي في غالبية خطابه ذكوري، يفكر ويتأمل فيه الذكور. مي زيادة هي الاستثناء وهي أيضا جليسة الرجال ومناظرتهم، مما يجعلنا نتساءل عن أنثوية العلم وهل يحمل القرن الواحد والعشرين آفاق جديدة، هل مثلا جهود كجهود يمنى طريف الخولي من الحالات الفريدة والنادرة، أم هي بداية لمشاركات نسائية واعدة، وهل سيكون لمفهوم العلم بسبب ذلك دوائر جديدة وآفاق غير مطروقه من هذا الشعور من قبل؟!.

                  كذلك قدمت الورقة مفهوم العلم بحسب تدرج تاريخي عام من خلال أفكار علماء محددين، لكن كان بالإمكان معالجة للموضوع كما يراه أصحاب العلوم والفنون الإسلامية الأخرى مثل علم الفقه وأصوله أو التفسير أو علم الكلام وسواها. كل هذه المنعطفات تتطلب القيام بدراسات أخرى حول مفهوم العلم في العالم العربي المسلم، وهذا ما نأمل القيام به وتحقيقه في القريب!

                  المصدر: مجلة دراسات شرقية

                  اللهم اجعلني خيرا مما يظنون
                  ولاتؤاخذني بما يقولون
                  واغفر لي مالا يعلمون

                  تعليق


                  • #10
                    رد: تطور مفهوم العلم في الفكر الإسلامي



                    يقدم ابن خلدون (732 – 808 / 1332 – 1406) في مقاربته لتحديد مفهوم "العلم" مقاربة تاريخية / سوسيولوجية، فيوضح: "لما استقر الإسلام ووشجت عروق الملة، حتى تناولها الأمم البعيدة من أيدي أهلها، واستحالت بمرور الأيام أحوالها، وكثر استنباط الأحكام الشرعية من النصوص لتعدد الوقائع وتلاحقها، فاحتاج ذلك لقانون يحفظه من الخطأ وصار العلم ملكة يحتاج إلى التعلّم. فأصبح من جملة الصنائع والحرف، واشتغل أهل العصبية بالقيام بالملك والسلطان فدفع للعلم من قام به سواهم، وأصبح حرفة للمعاش، وشمخت أنوف المترفين وأهل السلطان عن التصدي للتعليم، واختص انتحاله بالمستضعفين، وصار منتحله محتقرا عند أهل العصبية والملك. والحجاج بن يوسف كان أبوه من سادات ثقيف وأشرافهم، ومكانهم من عصبية العرب ومناهضة قريش في الشرق ما علمت، ولم يكن تعليمه للقرآن على ما هو الأمر عليه لهذا العهد من أنه حرفة للمعاش وإنما كان على ما وصفناه من الأمر الأول في الإسلام"(108).

                    نجد عند ابن خلدون أفقا جديدا يربط فيه الاشتغال بالعلم بالسلطة والرياسة والنفوذ في المجتمع الإسلامي الوسيط، وكذلك يوضح أن العلم تحوّل اجتماعيا إلى حرفة وصفة تمكن من ليس من أهل النفوذ والملك الحراك الاجتماعي إلى الأعلى، وهي نظرة ربما لن نجدها بهذا الوضوح والسبق معا، حتى عند من تناول نفس المفهوم في عصور لاحقه.

                    إضافة إلى كل ذلك، علينا أن نتذكر أن الفكر كنسق، حتى وإن كان علميا مضبوطا يقوم على أسس ومعايير صارمة، إلا أنه يشكل خطابا، أي سلطة فكرية مؤثرة وفاعلة، بحسب مفهوم فوكو، إلا عندما يؤثر في سلوكيات السلطة المختلفة، وعلينا أن نتذكر كيف أن حضور الغزالي في مرحلة طويلة من حياته، قبل عزلته الأخيرة، وكذلك "جهاد" ابن تيمية وجرأته وحبه للجدل والمواجهة، كان لهما أكبر الأثر والفاعلية في توجيه حياة الشارع المسلم. ولعل الظروف وسياق السياسة الدولية عندئذ ساهمت مساهمة فاعلة في ذلك(109).

                    ونجد عند الشوكاني وقبله السيوطي توجهات، قبيل دخول العالم الإسلامي العصر الحديث، تتعلق بالعلم والمعرفة من ناحية والكيفية التي يمكن للعلماء التواصل مع السلطات السياسية لتوجيه سياساتها ونظمها وبرامجها السياسية والاقتصادية والثقافية، بل والفكرية والتربوية وكيفية تكون إدارة حياة الناس، على أساس تأسيس بداية فكرة "الدولة الحديثة"(110). لكن الأمور تطول ومن ثم علينا مواجهة تحولات العالم الإسلامي في القرن الثامن عشر، وبالذات في الكيفية التي يقدم فيها علماء "الأمة" مفهوم للعلم أو ما يختارونه من أنواع العلم. وسنبدأ برواد عصر النهضة في العالمين العربي والإسلامي، سواء كانوا من كادر العلماء التقليديين أو من أبناء الوطن "الإسلامي" بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والمذهبية، إذ بدأ العالم في تغيرات لمفاهيم الرعية والمواطنة ونحوها. ونظرا لأن هذه المرحلة الحديثة المبكرة لم تعد قاصرة على ما يدور من مفاهيم وآراء داخل سياق وإطار تجربة العالم الإسلامي الحضارية، حتى في حالة اقتباسها من حضارة اليونان أو الفرس أو الهند، وإنما انفتاحها - وهي تعاني من ظواهر وأعراض دونية أو اختلال في المكانة، ما له آثاره وأهميته فيمن يرى أن عليه أن يتصدى لتقديم مفهوم جديد وفعال للعلم بوصفه وسيلة للخروج من أزمة أو ورطة التبعية أو التخلف أو "الشرك".

                    ولنبدأ ببعض زعماء رواد النهضة وطلائعها التقليدية الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العلم ثلاث: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة، وما كان سوى ذلك فهو فضل" رواه الدارمي وأبو داود.(111)، وله أيضا "إن العلم لا يسمى علما إلا إذا أثمر وإن لم يثمر فهو جهل"(112). ومن الواضح أن رؤية الشيخ محمد بن عبد الوهاب لمفهوم العلم تقوم على تأكيد الشريعة باعتماده على تعريف للعلم من الحديث النبوي وعلى أن كل ما لا نجده في الكتاب والسنة فهو فضل لا يحتاجه المسلم ولا مجتمعه، بل وينتقد أي مفهوم آخر يوصفه أنه ليس له ثمرة وقد يضر بالمجتمع، ومن ثم علينا التمسك بالقاعدة الأصولية "درء المفاسد" وأن ما تركه لنا السلف كاف وغير بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. إذ نقابل أمامنا موقف "دينيا" تقليديا صارما وحاسما من مفهوم العلم، وهو مفهوم لا يأخذ ولا يقبل الأخذ عن الآخر، وبالذات غير المسلم، ويعده كفرا وخروجا عن الملة، وكما سترى لهذا الموقف المتشدد والبسيط في نفس كون تبعاته ونتائجه، بالإضافة إلى أن صاحبه كان صاحب حركة إسلامية إصلاحية مما وسع وأثر في انتشار وقبول هذه الأفكار!.

                    أما الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (متوفى 1872) بسبب اتصاله بالغرب ومعرفته بعلومه ووقوفه على التحولات التي يمر بها العالم الحديث وخصوصا تأثير "العلم" في تشكل نهضة وقوة هذا العالم الجديد، نجده يقدم فهما مختلفا عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب من ناحية، ولم يعد أفقه أو عالم تأمله للأفكار محدودا بالتراث الإسلامي في مظانه التقليدية، بل ربما قدم نفسه بوصفه قنطرة للتواصل والتعريف بالغرب ونهضته استنهاضا للهمم وتوسع في عملية التثاقف الفكري الذي ستتوسع دائرته مع اتصال العالم الإسلامي بالغرب وحضارته: "اعلم أن الإفرنج قسموا المعارف البشرية إلى قسمين: علوم وفنون. فالعلم هو الإدراكات المحققة المذكورة بطريق البراهين. أما الفن فهو معرفة صناعة الشيء على حسب قواعد مخصوصة. ثم عن العلوم تنقسم إلى رياضية وغيرها. وغير الرياضية تنقسم إلى الطبيعيات وإلهيات. والعلوم الرياضية هي الحساب والهندسة والجبر والمقابلة"(113). وما يمكن ملاحظته هنا أن هذا التصنيف ربما كان لا يختلف كثيرا عن ما كان يرد عند الفلاسفة المسلمين الذين نهلوا من التراث اليوناني، لكن الجديد هو أن المرجعية الآن صاروا "العلماء الإفرنج" وليس اليونان.

                    على أننا نجد عن جمال الدين الأفغاني (متوفى 1897) وهو رائد مهم للنهضة الإسلامية الحديثة وانفتاح ومعرفة بما وصلت إليه أوروبا أو بشكل عام الحضارة الغربية، ما وسع من آفاق، مرجعية في تناول تعريف المفهوم، فيوضح: "قد يطلق العلم في لسان أهله على معان فيها مبدأ الانكشاف، أي ما هو المنشأ والعلة القريبة التي بها يكون الظهور والإشراق، ومنها الحاضر عن المدرك، ومنها النسبة الكائنة بين العالم والمعلوم، ومنها الصفة القائمة بالمدرك التي بها يكون الإدراك، وهذا المعنى بحسب المفهوم أخص من المعنى الأول"(114) وهنا نلاحظ أن الأفغاني يوسع من مفهوم العلم ولا يقصره على نوعية من المعارف، كما فعل الطهطاوي.

                    لكن محمد عبده (متوفى 1905) الذي عرف من المعارف التقليدية، لكنه انفتح على معارف العصر الحديث واستفاد من أفكار جمال الدين الأفغاني نجده يؤكد ليس فقط على ماهية العلم وإنما على اعتباره وسيلة ضرورية وحافزا على تغير شأن ومصير الأمة: "العلم إذا انتشر في قوم أضاءت لهم السبل واتضحت المسالك وميزوا الخير من الشر والضار من النافع، فرسخ في عقولهم أن المساواة والعدالة هي العلة الأولى لدوام السعادة فيطلبونها بالنفس والنفيس وان الظلم والجور قرينان للخراب والشقاوة"(115) ويؤكد على أن آفاق العلم لا تقتصر على الاستفادة والأخلاق، فيوضح "حصول صورة الشيء في النفس علم، وميلها إلى طلبه أو تركه إرادة والتصميم على أحد الأمرين عزم وليس بعده إلا الطلب بالفعل أو الترك والترك لا يحمل النفس كبير المشقة سوى الوقوف على كون المتروك من الأمور التي تكلف بها النفس تكليفا ضروريا أو كماليا"(116).

                    وتطغى روح المصلح والرائد الإسلامي الذي يعمل في حقل إعادة توجيه أولويات الأمة ويعمل على خط مسارات جديدة لها، و"العلم" محوريا في عملية الإصلاح، فيؤكد: "لا نريد من العلم تصور القواعد وإنما نريد منه ملكه الإفصاح والبيان وكون المراد منه هذا أمر بديهي إذ لولا الكتابة لما وصلنا إلى درجة من الدرجات التي نراها. فافتتاح الله تعالى الوحي بطلب العلم والثناء عليه سبحانه وتعالى بأنه هو الذي علمه ووهبه الإنسان إرشاد إلى فضل العلم وحث على تحصيله خصوصا العلم بالعلم"(117) ونجد عن بعض رواد الإصلاح انعكاسا لما ينشد الإمام محمد عبده من تحفيز للأمة وحض على اكتساب العلم والعمل على التفوق فيه، فهذا محمد رشيد رضا (متوفى 1935) يوضح بفلسفيته المتضحة على العصر: "العلم مصدر الأعمال كلها: دنيوية وأخروية، فكما لا يسعد الناس في الدنيا إلا بأعمالهم كذلك لا يسعدون في الآخرة إلا بأعمالهم"(118).

                    ونجد جميل الزهاوي (متوفى 1936) يؤكد "العلم والأدب جناحان للرقي تطير بها الشعوب. فلا أفضل العلم على الأدب إلا قليلا" (119) وهذه إشارة طريفة توضح بداية التفريق بين العلوم الطبيعية وأهميتها عن العلوم النقلية عموما! أما فيلسوف الإسلام محمد إقبال (متوفى 1938) وهو الذي نهل من الجامعات الغربية لكنه جسد الضمير والأمل الإسلامي بالتأكيد على عظمة إنجازات الحضارة الإسلامية، والذي تعمق في دراسة الفلسفة الحديثة وعلى ادعاءات بعض المفكرين الغربيين بوجود تعارض بين الدين والعلم، نجد يؤكد لأبناء ملته: "الخلاف بين العلم والدين لا يرجع أن أحدهما يقوم على التجربة الواقعية وان الآخر لا يقوم عليها. فكل منهما يبدأ ببحث التجربة الواقعية، أما اختلافهما فيرجع إلى خطأ الرأي القائل بأن كل منهما يتناول بالتفسير نفس الأسس التي للتجربة الإنسانية، وننسى أن الدين يرمى بلوغ المعنى لنوع خاص من أنواع التجربة الإنسانية"(120).

                    وقبل الوضوح إلى النصف الثاني من القرن العشرين، نود أن نستعرض طرفا من إسهامات عربية جديدة لعبت دور الوسيط والقنطرة بين الفكر العربي الإسلامي وأفكار العصر الحديث، وذلك ما قامت به نخب عربية مسيحية، كانت لها إسهامات مشكورة، وبالذات في مجال التعريف بالفكر الغربي والحديث منه تخصصا. فهذا فرنسيس مراش (متوفى 1873) يقدم بدايات لهذه الوساطة أو القنطرة في نقل الفكر الغربي بلسان عربي، وكان من الواضح أن دور هذه النخب هو المشاركة الفاعلية في عملية النهضة والتجديد في الفكر العربي الإسلامي عموما. فيقول مراش: "نشأ العلم وقام الفهم، فالعلم ريحانة النفوس وروح قدوس به تنتشر الأفكار وتبصر الأبصار وتكشف الأسرار وتجلى السرائر وتبرز الضمائر وتسموا المنايا وتصفوا النوايا وبحسنه تحسن الصفات وبكماله تكمل الذوات. وهو الكنز الذي لا يفنى والجمال الذي لا يشن قوة الكبير وسند الصغير، ذخر الفقير فمن حازه حاز الجلال . ."(121)

                    ويوضح وبلغة تقليدية: "بالأحمال نقول: إن العلم هو الفاعل الأعظم لتثقيف العقل والمروض الأكبر جماح الطباع والسبب الأهم لتشييد المدن والعمار، إذ أنه يرفع أفكار الإنسان إلى الحقائق السامية فلا تعود دائرة على مستحقرات الأشياء ويرسم في مرآة ذهنه صور الكائنات الدقيقة فلا يعود متمسكا بخزعبلات الأمور فتنطفي من قلبه جمرات الحسد بنظره إلى زوال المحسودات . ." (122) ويستمر موضحا بالطريقة الوعظية نفسها: "أن الاكتساب العقلي ينقل الإنسان من الحالة الوحشية إلى الحالة الأنسية، وهكذا العلم ينقله من حالة الغفلة إلى حالة النباهة ومن قيود الجهل إلى حرية العقل. على أن كلا من البشر يعود بالعلم حرا فلا يتسلط عليه عدو مغتصب ونبيها فلا يخدعه الغشاشون وحازما فلا يميل مع كل ريح وشجاعا فلا يخشى تهديد الطماعين وتوعد المتحشدين . ."(123) ففي النهاية: "العلم هو معرفة الموجودات وأحوالها وطبائعها وأفعالها ونسبة كل منها إلى ما سواه ومعرفة فوائدها في غاياتها"(124). ومن الواضح أن مراش واعظ مناصر بلا تحفظ ما يمكن أن يحققه العلم وهو أمر ينقصه التواضع وكان لأمثال هذه الآراء الانتظار لعقود حتى يكون عليها التواضع علما!.

                    أما عبد القادر الجزائري (متوفى 1882) الذي كان عليه أن يواجه الغزو العسكري والمعرفي والفكري الغربي ممثلا في فرنسا، بمفهوم يؤكد على ضرورة التسلح ضد كل هذه التحديات بالعلم، حتى لو كان طرفا منه عند الخصوم، "المراد بالعلم، المأمور بطلب الزيادة منه، هو علم التجليات الربانية . ."(122) ويضيف التأكيد على الأخذ بمصادر القوة والمعرفة في مسيرة الجهاد.

                    أما شبلي شميل (متوفى 1917) فإنه يربط بين الفلسفة ومن أهمية الاشتغال بها وعملية تحصيل العلوم الحديثة، فيوضح: "ما الفلسفة إلا القياس العلمي بأوسع ما يقدر العقل أن يتصرف فيه . . . العلم لا يدرك ذلك فالفلسفة لا تقدر أن تدرك إلا ما يأذن العلم به"(124). ويوضح بشكل حاسم: "يراد بالعلم الصحيح العلم الطبيعي"(125)، وهذه فكرة جديدة بهذا الحسم والتصميم، ورغم أنها لم تعد مكان إجماع اليوم، إلا أن ظهورها بهذا الشكل في ذلك الوقت، وربما كذلك اليوم في بعض الأوساط الدينية والثقافية يعد جراءة محمودة!.

                    أما أنطوان سعادة (متوفى 1949) فإنه يعمل على ربط التراث العربي الإسلامي بالمفهوم الجديد للعلم في العصر الحديث: "ابن رشد كان ينادي بالتوفيق بين الدين والفلسفة ولكن طريقته في ذلك طريقة جديدة وملخصها هو: أولا: أنه يوجب التأويل لتطبيق الدين على العلم لا العلم على الدين . . فكل شيء لا يقبله العقل والبرهان العلمي يجب تأويله. وكان الإمام الغزالي "يجيز" التأويل لا يوجبه خوفا من الوقوع في المكابرة كما قال في الصفحة 5 من كتاب "تهافت التهافت". وذلك متى ظهر ظهورا واضحا بأدلة قطعية ولكن إذا كان العقل لا يستطيع نقضه بأدلة قطعية فهو لا يؤول لأن في مقدورات الله كل شيء ممكن. ولا يخفى ما بين هاتين القاعدتين من الفرق والبون. وكل واحد منها يقوم عليها بناء عظيم. الأولى يبنى عليها العلم والثانية الدين"(126) ويردف: "العلم يجب أن يوضع في دائرة "العقل" لان قواعده مبنية على المشاهدة والتجربة والامتحان أما الدين فيجب أن يوضع في دائرة "القلب" لأن قواعده مبنية على التسليم بما ورد في الكتب من غير فحص في أصولها. وليس يجوز أن يقال أن هذه القسمة إلى عقل وقلب بدعة في العلم وهادم لسلطنة، لأن العلم يريد البحث في كل شيء وكل أصل، فإن العلم نفسه لا ينكر عجزة في بعض الأحيان"(127).

                    إذن نجد عند أنطوان نوعا من الوصاية على التراث العربي الإسلامي من ناحية، وجراءة في التمهيد لتيار علماني نقدي، ربما في هذه المرحلة المبكرة يشكل تهديدا غير مسبوق لمحورية وأهمية سلطة الدين في هذا السياق الفكري سنرى مع دخول القرن العشرين فريدا منه بين أبناء "الأمة" وجراءة في التعبير العلني عنه، مما ولد ويلد مواجهات فكرية حادة في حياة الأمة وتوجيهها!.

                    ويعد النصف الثاني من القرن العشرين أخصب فترة في تاريخ الفكر الإسلامي في تناول مفهوم "العلم" ورغم أن الموضوع يستحق المعالجة المستفيضة التي ربما ليس مكانها في هذه الورقة البانورامية والتي يعد تناولها في ورقة أخرى مستقلة لكننا هنا سنقدم إشارات سريعة ومتنوعة على أمل العودة إليها في مكان آخر بشكل أكثر توضيحا وتتبع جذورها التاريخية داخل وخارج السياق الفكري العربي الإسلامي.

                    وسنبدأ بأفكار أديبة عربية مسيحية كانت من صاحبات الصالونات الفكرية النخبوية المؤثرة، مي زيادة (متوفاة 1941) وهي أدبية مثقفة تعد من طائفة القنطرة بين الشرق والغرب، فتوضح: "من اعتقادات الناس عامة أن العلم شيء والأخلاق شيء آخر، وقد يكون هذا ظاهرا في أحوال كثيرة إلا أنه لاح عند من يتعاطون إصلاح نفوسهم. عندهم يمتزج العلم بالأخلاق وتتوحد المعرفة والتربية فتصير قوة رفيعة. وليس أقرب من العالم إلى الخلق السامي لأن العلم يرينا عظمة الإنسان وجلال الوجود وقدرة الألوهية الشاملة فيصبح العالم محبا ويتوق إلى الصلاح. إذ لا شيء يحث على الصلاح والرفعة الأخلاقية كالحب العميق الأكيد"(128) وتوضح: "ليس في استطاعة العلم إلا تحسين أحوالنا المادية، أنه يعلم الإنسان استخدام الطبيعة، وينمي ذكاءه نموا شديدا ولكن لا سطوة له على الأخلاق - وأنتم تعلمون- أن العلم نصف الارتقاء، والأخلاق النصف الآخر، وأن شرف المرء قائم بحسن أخلاقه وسمو مداركه أكثر منه بتعدد علومه وكثرة أطماعه"(129) وهكذا فإن نداء مي في الأخلاق مع العلم لا يمكن أن يفهم بصورة سوى في إطار مفهوم العلم الحديث وبالمعنى الغربي(129).

                    تميز النصف الثاني من القرن العشرين بأصوات عديدة بعض من هذه الأصوات لدعاة للفكر والحركات الإسلامية الحديثة يتناولون الحديث عنها "العلم" من زاوية إصلاحية حركية، تعنى بالشأن العام من زاوية " دينية حديثة "، ونجد كذلك أصوات مشابهة ولكن من منطلق علماني يساري يعلي من شأن العلم في شكل دعوة لحركة حزبية أو فكرية حديثة ونجد أصوات لا تزال تشكل القنطرة للتواصل من الغرب في سعي حثيث لترويج الأفكار الجديدة الحديثة وأخيرا نجد استخداما سياسيا لمفهوم العلم دعما لخطاب سياسي تحديثي ودعما لمشاريع سياسية ترى أن العلم يمكن أن يكون وسيلة ناجعة وفعالة لتحقيق برامجها.

                    لنبدأ بالكيفية التي نظرت بعض الحركات الإسلامية، ممثلة في قياداتها وأفكارهم. فهذا حسن البنا (متوفى 1949) يوضح: "العلم في القلب فذلك العلم النافع، وعلم على اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم ن ويا أيها القاعدون عن الصلاة لماذا تقعدون وهي رياضة لأرواحكم ونور لقلوبكم وطمأنينة لأنفسكم وصلة بينكم وبين ربكم وعمل صالح في الدنيا ومثوبة في الآخرة، وليس فيها بعد ذلك من تعب ولا إرهاق"(131) ويوضح أهمية العلم لدعوته والصحوة الإسلامية بشكل عام فيذكر: "العلم تسعد به الأمم وترتقي إلى مدارج العلا، ولا نهضة للأمة بغيره، وما ساد الكفار إلا بالعلم، وما تأخرنا إلا من ناحية الجهل، فالعلم والجهل لا يستويان، قال تعالى: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (132).

                    أما الشيخ محمد الغزالي (متوفى 1996) فيؤكد "أن العلم، على اتساع فنونه الدنيوية والأخروية، لم يزدهر ويصل إلى المرحلة التي بلغها إلا بالتجرد الحق عن الأغراض الصغيرة. وهذا لا يعني البتة أن يكلف العلماء والمتعلمون بتحمل مشاقّ العيش والتعرض للأزمات المحرجة، فإن إخلاص النية لا يستلزم إعنات المخلص وتحميله الأذى".

                    أما المفكر الإسلامي مالك بن نبي (متوفى 1973) فإنه يعمل على توظيف العلم الصالح تجاوز الأمة والمجتمع المسلم تخلفه كل أزماته، ومن ثم أن جعل العلم نوعا ما حياديا، إلا أنه يرى توظيفه والاستفادة منه أمر حضاريا واختياريا. فيرى أن: "العلم، من حيث هو علم، هو مجموعة المعلومات ومجموعة الطرق المؤدية لاكتسابها، ولكن يجب علينا إضافة شيء إلى هذا التعريف الذي تصورناه من زاوية علم تاريخ التطور العلمي، لان التطور العلمي لا ينحصر في هذه الزاوية، بل هو متوسط أيضا بمجموعة شروط نفسية اجتماعية تؤثر سلبا أو إيجابيا، بحيث تعطل هذا التطور، ونتيجة أكثر فأكثر"، ويضيف موضحا: "العلم ما هو في أبسط معانيه، إلا البحث عن الحقيقة في كل ميدان وفي الأخلاق وفي التشريع وفي الاجتماع وفي الطب وفي الطبيعة. . الخ. ولكن هذا البحث معرض لمعوقات وإلى متاهات، وتتخذ وهما بمثابة حقيقة، وقد نتيه في الآراء، ورب رأي خطأ، فعلى العلم أن ويواجه هذه الحالات التي يتردد فيها العقل بين الشك والاقتناع، بتمرينه على هذه المواجهة!" (133) ومن الواضح أن مالك بن نبي يشير فيما أوردناه له، إلى أهمية العلم بالمعنى الحضاري، لكن ينبغي أن نحده بضوابط ومعايير تجعلنا نطمئن إلى نشدانه الحقيقة والعمل على ذلك، وذلك من أجل توظيف أفضل لمجالات عديدة تؤثر في حياة الناس وتهمهم في دينهم ودنياهم.

                    وهذا مصطفى عبد الرزاق (متوفى 1946) وهو من علماء الأزهر التقدميين يرى أن حاجتنا إلى العلم ليست حديثة ولكن الحديث هو شعورنا بتلك الحاجة وتلمسنا سدادها من كل سبيل، وذلك أثر الحياة الناشئة في أمتنا حياة الرقي والأمل. كنا غافلين عن فائدة العلم بحكم الفتور العام في مشاعرنا القومية من الأمراض الاجتماعية التي أصابتنا ولم يبرأ كلها بعد. ولقد كانت الأمة تساق إلى العلم باكية، كما كانت تساق إلى الجندية، وسواء ما كان يشيع به نحو العمالية يساق إلى السخرة ونفر القرعة العسكرية يقاد إلى حمل السلاح وما كان يشيع بين التلاميذ يذهب به إلى المدرسة: كانت الأمهات يلبسن الحداء ويقمن المفاجأة والمنادب وكان الآباء يظهرون من الجزع أشد ما تحتمل الرجولية من مظاهر الجزع(134). وفي الواقع ما يذكر عبد الرزاق الإشارة فيه إلى المدارس العصرية الحديثة، ما يذكره بشكل وثيقة أثنوجرافية لكيف تغيرات مفاهيم عديدة في البلاد العربية، مما يوضح مدى ما لحق الوعي والعقل من معارف ومفاهيم جديدة.

                    أما السيد أحمد خان ( متوفى 1766) وهو من ممثلي الفكر الإسلامي الحديث في الهند، وربما في تفاعل مع ما جلبه الاستعمار البريطاني من تحولات عميقة أثرت في بنية مفهوم العلم نجده يطالب "عليكم بالعلم؛ فإذا شئتم أن تتعلموا أو تستفيدوا فانسخوا كثيرا من عاداتكم القديمة وأخلاقكم الوضيمة، واهتدوا بنور العلم في طريق حياتكم التي تسيرون"(135). وبطبيعة الحال العلم المطلوب هو العلم الغربي الحديث، ودعوته يجب أن تفهم في ذلك السياق التاريخي السياسي الثقافي.
                    أما المفكرون المسلمون ذوي التوجهات التحديثية من أمثال عباس العقاد، وطه حسين، وزكي نجيب محمود فإن تقديمهم لمفهوم العلم له خصوصية ولا يمكن أن يفهم سواء في إطار بنية ونسق ما يمكن أن يشكل مشروح الإصلاحية والنهضة العربية ذات البعد الحضاري الذي لم يعد يصر على الخطاب الديني السلفي حلا لمشكلات الحضارة في المجتمعات المسلمة. فيقول العقاد:
                    "الواقع أن العلم كله يقوم على أساس الإيجاب والترقب ولا يقوم على أساس النفي والإصرار. وما من حقيقة علمية إلا وهي تطوى وسجلها تاريخا طويلا من تواريخ الاحتمال والرجاء والأمل في الثبوث. وإن تكررت دواعي الشك وبل دواعي القنوط" (136) ومما يلاحظ أن العقاد يشاطر كارل بوبر في فهمه للعلم لكن توضيح ذلك ليس مكانه هنا.

                    أما طه حسين (متوفى 1973) فإنه داعية للأسلوب والطرح العلمي لذا يقول: "العلم يجب أن ينتهي إلى الإنتاج المادي الذي يخرج ما في هذا العالم من ثمرات تجعل العيش يسيرا وثيرا. لكل شيء ثمن وثمن مادي يجب أن تأخذه الأيدي وأن تتناوله الأفواه وأن تحتويه الجيوب. هذه قيم أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها وليدة الغرور وسوء التحقيق للأشياء. وأنها تنتهي بالإنسان إلى مادية منكرة توشك آخر الأمر أن تجعله أداة إنتاج لا أكثر ولا أقل"(137). وفي رأيه "العلم الذي لا يتجدد كالماء الذي يأسن ويسرع إلى الفساد"(138).

                    أما فيلسوف الفكر العقلاني زكي نجيب محمود فإنه يرى أن "العلم طريق يسار عليه، وليس نهاية يوصل إليها. فالعلم منهاج قبل أن يكون نتيجة مقطوعا بصوابها. العلم تيار متدفق، كل موجة فيه تتبعها موجة، في حركة تدون ما دام للعقل نشاطه. العلم لم يقصره الله على فرد ولا على جيل ولا على عصر ولا على أمة. ففرد من الناس يكمل ما أنجزه فرد آخر، وجيل يواصل طريق الجيل الذي سلفه وعصر يصحح عصرا وأمة تتكامل بنتاجها العلمي مع نتاج سائر الأمم" (139) وهو يرى أن التفرقة بين "المثقف" و"المثقف الثوري" هي نفسها التفرقة بين "العلم للعلم" و"العلم للمجتمع"(140). لهذا يؤكد: "إن العلم يزحف بوسائله زحفا سريعا على جوانب الحياة التي كانت متروكة قبل ذلك "الرأي" وأينما تصح السيادة للعلم وما يقرره لا يكون من حقنا أن نجعله نهبا للمناقشة واختلاف الآراء. فإذا كان العلم قد خطا خطواته الفسيحة في حل كثير من مشكلات البرد والظلام والجوع والأوبئة والمسافات، فكيف لا نستمع إلى قراراته التي يقضي بها في كل علاقة اجتماعية من تربية إلى سياسة واقتصاد!"(141).

                    ونجد أيضا أحد رجالات تشكيل الرأي العام والفكر يوضح الفرق بين العلم وسواه فهذا عبد العزيز البشري (متوفى 1943) يوضح "لم تكد الدولة العربية تنبعث في الحضارة حتى أرسلت كلمة "الفن" للتعبير عما يقابل كلمة "العلم"، فما كان قوامه إرسال القضايا الكلية التي يتعرف بها أحكام ما يتدرج تحتها من الجزيئات فذلك علم. وما كان قوامه العمل الجاري طوعا للأصول والأحكام المقسومة، فذلك فن فيقال علم الأصول وعلم الفقه وعلم النحو وعلم الصرف ولا يقال في شيء من ذلك فن. ويقال للخطابة وقرض الشعر والموسيقى فن ولا يقال علم. فقد بان لك أن العلم مادته الفكر والنظر وأن الفن مادته العمل والأثر"(142).

                    هذه إجمالا طائفة من آراء دعاته الحديث والأخذ بالعلم الحديث من أجل تطوير الأمة العربية المسلمة من المسلمين. لكن وكما أوضحنا هناك أيضا من سعوا لتجديد معاني مفهوم العلم، لكن لا بد أن تصرف معالجتهم لهذا المفهوم إلى سياق إيديولوجي بسبب نشاطهم الفكري العام، وسنأخذ زكي الأرسوزي (متوفى 1968) نموذجا، فهو قومي عربي ينظر للحزب الذي يتبنى أمثال هذه الإيديولوجية فهو يوضح: "أن للعلم وجهة تربوية تساعد على اكتساب الذهن صفات هي من الديمقراطية بمثابة الهيكل العظمي من الجسد. ومن هذه الصفات صفة اتخاذ العقل مرجعا وحكما في قبول القضايا كحقائق أو رفضها" ويرى "كان العلم فيما مضى وقفا على الطبقة الممتازة. وكان يحمل هالة من القدسية فتارة يتلبس بالدين وأخرى يتلبس بالسحر. وكان العلم خليفة الأنبياء وكان الأشياء العلوية موضوع تأملاته.
                    كان يقبع في خلوته ولا ينزل من عليائه إلى الجمهور إلا ليصغي الجمهور إلى ندائه. وهكذا كان العالم، يحتفظ بهيبته، وهكذا كان العلم يحتفظ بمنعته. أما اليوم فقد أصبح العلم على خلاف ما كان عليه بالأمس. أصبح في متناول الجميع حتى غدا – في معظم الدول – إلزاميا عاما. بل بلغ الأمر في بعض الدول أنها تقدم في كل يوم، وجبة إفطار ووجبة غداء لجميع الطلاب، من سن الحضانة إلى نهاية التحصيل الثانوي، هذا فضلا عن التعليم مجاني"(143).

                    كما أوضحنا، لعبت النخبة المسيحية العربية دورا متميزا في نقل وترويج مفهوم العلم كما تشكل في المغرب في النصف الأول من القرن العشرين، ولقد استمر هذا الدور في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن بشكل أكثر تفاعلا ولم يقتصر على إبراز ما في الغرب. على أن أساليب التقديم اختلفت كما سنرى. فهذا سلامة موسى يعد من أبرز دعاة الأخذ بالعلم في كافة شؤون الحياة وهو من المبشرين بذلك: " العلم هو شيء جديد في عصرنا، إذ ليس هو محض التفكير والاستنتاج وإنما هو التخيل أولا ثم التجربة باليد ثم التفسير بما يتلاءم مع النتائج من هذه التجربة. وشيوع الأسلوب العلمي في أيامنا قد جعل الفلاسفة والأدباء يتشككون في قيمة ما يمارسون من فلسفة وأدب، لذلك أصبحت الفلسفة "تجريبية"(144) وهكذا نرى أن سلامة موسى الذي تبنى "الفكر العلمي" الحديث يشارك بصخب وقوة لجعل العلم بديل في التعامل مع القضايا والأفكار التي عيش عليها المجتمع بدلا من التقاليد أو الدين أو سواهما. أنه يقدم خطابا علمانيا دون لبس، وهو في هذا قد لا يختلف عن سواه من المفكرين العرب المحدثين بعض النظر عن الدين الذي ينتمون إليه!.

                    أما أسد رستم (متوفى 1965) المؤرخ والمفكر فهو وإن قدم العلم الحديث إلا أنه – ربما من أجل التواصل – يتوسل في سعيه للتواصل مع قراءة بالفكر والإرث الإسلامي لتحقيق غاية حديثه: "قال الإمام مالك بن أنس (179هـ): لا يؤخذ العلم من أربعة ويؤخذ عن سوى ذلك: لا يؤخذ من سفيه، ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به"(145). أما ميخائيل نعيمة (متوفى 1988) بسبب نزعته الصوفية العرفانية نجده يؤكد على جمع الشمل فيوضح "عهدنا بالعلم أنه أداة جمع لا أداة تفرقة، أداة تعاون بين الناس لا أداة تنابذ"(146).
                    أما من كان ينحو منحى فلسفي، فإننا نجد أن مفهومه للعلم لا يبتعد كثيرا عن تصوره العام للمدرسة الفلسفية التي ينتمي إليها. فهذا كمال الحاج (متوفى 1976) يرى "أن العلم متحرر من كل شعور ديني لدى الإنسان يفسد على العالم سيره نحو الواقع في حد ذاته. يقولون العلم إدراك للذي هو في حد ذاته. إن الـ "في حد ذاته" موجود خارج وجداننا. فإذا أتجه العلم نحو دراسة الإنسان عينه (كمرض جسمي أو حالة نفسية أو نشاط اجتماعي) فالعلم يشيّء الإنسان إذ يجعله من باب المادة، ليتمكن بذلك من أن يعكف عليه ويدرسه كما لو كان شيئا من أشياء العالم الخارجي. وظيفة العلم إذن أن يشيّء الحياة، كي يصل إلى ما أسمي بالذي هو في حد ذاته. وهذا حذر من الإنسان، كمجموعة نزعات شعورية، تميل به دائما إلى اليمين أو إلى اليسار، متمنع ذاتيه النفس إيضاح موضوعية المادة" (147).
                    ويعد فؤاد حروف (متوفى 1985) من أكثر الدعاة للعلم والمنظرين لمفهومه: "أنا أعلم أن العلم واقع تحت غيمة قاتمة لأن المخترعات والمستنبطات مرتبطة بهذه المآسي التي تجرها الحرب في ذيولها. ولكن العلم نفسه لا يخدم الحرب دون سلام. فالعلم يعطينا الأسمدة بيد والمتفجرات بالأخرى. وكلتا الطائفتين من هذه المواد مركبة من مواد أساسية واحدة تقريبا. وأنه يزودنا من ناحية بالأشعة السينية وأساليب الجراحة وكلتا الطائفتين الجراحة والعقاقير التي تقهر المرض، ومن ناحية أخرى بالمدافع الرشاشة والغاز الخانق والقنابل الذرية ولكن ما يزودنا به العلم لأعمال السلام والإنشاء خليق أن يفوق ما يزودنا به لأعمال الحرب والتدمير". ويوضح: "للعلم فائدة أخرى لم تستتب بعد، ولكنها دين للعالم معلق في أعناق العلماء. إذ لا يخفى أن الديمقراطية في معناها الأمثل، يجب أن تسعى إلى تحقيق الحرية لأفراد المجتمع، علاوة على ضمان الحقوق السياسية، لأنه إذا أدرك أفراد المجتمع بعض الاكتفاء الاقتصادي، كانوا أحكم اشتراكا في الشؤون العامة، وأرشد رأيا فيها، وأعظم استقلالا في وزن الأمور بموازينها الصحيحة" .(148) ويؤكد على أن "العلم لا يقتصر على ما يكشفه من أسرار الكون ولا على ما يخترعه رجاله من أسباب لتيسير الحياة أو لتدميرها ولا على وسائل القدرة التي يوفرها للناس بل هو في صميمه نظرة إلى الكون والحياة والفكر يجتمع فيها التطلع إلى المجهول والجرأة في الخروج على المألوف والتعاون بين المشتغلين بالعلم والرغبة الصادقة في إعلاء كلمة الحق والخير. فرسالة العلم - قدرة وقيمة- هي رسالة النفس المثقفة ورسالة العالم المستمتع بالوفر والرخاء في وقت واحد.
                    وكلاهما خير ما فتئت ركائب التاريخ تحدي إليه منذ كانت البشر" (149)، و"العلم لا يخدم سوى الحقيقة"(150) بل يوضح "لن نجد اثنين يختلفان في أن العلم، نظرا وتطبيقا وقدرة وثقافة، لا غنى عنه في المجتمع الحديث، كائنة درجته من التقدم والتخلف ما كانت. فالمجتمعات المتقدمة تستزيد منه في طوقها أن تستزيد حتى لا تتأخر والمتخلفة والنامية تنصب عليه - أو ينبغي أن تفعل- حتى تسد شيئا ما، الفجوة بينها وبين المتقدمة وتستجيب لآمال شعوبها في حياة أفضل ومنزلة أعز"(151). وفي رأيه "أن العلم يطلب لذاته أولا، ثم تطبق حقائقه ومبادئه على مقتضيات الحياة والعمران. وأن تاريخ ارتقاء العلوم أبان أن أكثر المكتشفات العظيمة لن تجن منها فائدة عملية في بدأ عهدها ثم سارت أساسا لأعظم ما نراه في عصرنا من مقومات العمران"(152) وهو يؤكد على عالمية وإنسانية العلم، معتبرا أن: "العلم تراث متراكم متكامل، العلم مشاركة إنسانية عالمية. وهذان التراث والمشاركة يتجسدان في مؤسسات اسمها جامعات أو معاهد . .، ويجب على الجميع المشاركة في ذلك وإلا كان خارج التاريخ"(153).

                    نجد إذن عند حروف حماس ورغبة في إقناع المجتمع العربي ليس بأهمية العلم وإنما بتبني العلم وأساليب وطرق التفكير العلمي إن أردنا كعرب أن نكون داخل دائرة التاريخ لا خارجه ويرى أن بالعلم يمكننا تحقيق الخير وربما نتجنب الشر والدمار ونحقق الرفعة والمنزلة التي نتطلع إليها. وهذه دعوة جريمة جادة على الأمة تسعى لإخراجها مما هي فيه من تخلف عن مسيرة الإنسانية، وهي في الوقت نفسه خطاب محايد لا يتكئ على الدين وغنما على العلم وسيلة نهضة المجتمع وتكاتفه والعمل على الوصول به إلى مصاف الدول المتقدمة!

                    لعل حماس حروف يأخذ شكلا واضحا في آراء زعيم عربي سياسي بارز هو جمال عبد الناصر الذي يتبنى العلم سياسة وأسلوب الحياة. فهذا عبد الناصر يوضح: "أن العلم هو السلاح الحقيقي للإرادة الثورية. ومن هنا الدور العظيم الذي لا بد للجامعات ولمراكز العلم على مستوياتها المختلفة أن تقوم به " ويؤكد على أن "العلم هو السلاح الذي يحقق النصر الثوري والعلم وحده هو الذي يجعل التجربة والخطأ في العمل الوطني تقدما مأمون العواقب . . . أن السلطات الشعبية بدون العلم قد تستطيع أن تثير حماسة الجماهير، لكنها بالعلم وحده تقدر على العمل تحقيقا لمطالب الجماهير"(154) "أن العلم للعلم في حد ذاته مسؤولية لا تستطيع طاقتنا الوطنية في هذه المرحلة أن تتحمل أعباءها، لذلك فإن العلم للمجتمع يجب أن تكون شعار الثورة الثقافية في هذه المرحلة. على أن بلوغ النضال الوطني لأهدافه سوف يسمح لنا في مرحلة متقدمة من تطورنا بأن نساهم إيجابيا مع العالم في العلم للعلم. وليس العلم للمجتمع عقبة تفرض على العلماء أن يلتزموا بمشاكل الخبز المباشرة وحدها. إن ذلك يصبح تفسير ضيقا لرغيف الخبر الذي نريده"(155) إذ تتحول مع عبد الناصر مسألة توظيف العلم إلى تشجييش سياسي، ويستخدم كلمة "سلاح" هنا بهذا المعنى، بحيث نجد أنفسنا بعد هذه المراجعة الطويلة أن مفهوم "العلم" قد وظف دينيا من خاصية العبادات والمعاملات والأخلاق تحديدا وفي النهاية جيش لاستنهاض الأمة في مواجهتها لأعداء الأمة بالعلم!
                    بطبيعة الحال كامن بالإمكان الاستمرار في توضيح المعاني والدلالات الحديثة التي يمكن أن يشغلها مفهوم العلم، لكن سنتوقف عند هذا الحد لنوضح أن للمفهوم زخم وإشارات عديدة جديدة، يغلب عليها إعادة الانتباه لمفهوم العلم كمدخل وإطار لجماع أنواع الأنشطة التي يمكن أن يقوم بها المجتمع العربي المسلم لمواجهة تخلفه وتأخره عن الركب الإنساني، وأن هذه الدلالات يأخذ بعضها شكل الاستنهاض وبعضها الآخر توضيح إمكانيات العلم الخيرة والشريرة. ومما نلاحظ أن العلم بقي في غالبية خطابه ذكوري، يفكر ويتأمل فيه الذكور. مي زيادة هي الاستثناء وهي أيضا جليسة الرجال ومناظرتهم، مما يجعلنا نتساءل عن أنثوية العلم وهل يحمل القرن الواحد والعشرين آفاق جديدة، هل مثلا جهود كجهود يمنى طريف الخولي من الحالات الفريدة والنادرة، أم هي بداية لمشاركات نسائية واعدة، وهل سيكون لمفهوم العلم بسبب ذلك دوائر جديدة وآفاق غير مطروقه من هذا الشعور من قبل؟!.

                    كذلك قدمت الورقة مفهوم العلم بحسب تدرج تاريخي عام من خلال أفكار علماء محددين، لكن كان بالإمكان معالجة للموضوع كما يراه أصحاب العلوم والفنون الإسلامية الأخرى مثل علم الفقه وأصوله أو التفسير أو علم الكلام وسواها. كل هذه المنعطفات تتطلب القيام بدراسات أخرى حول مفهوم العلم في العالم العربي المسلم، وهذا ما نأمل القيام به وتحقيقه في القريب!

                    المصدر: مجلة دراسات شرقية

                    اللهم اجعلني خيرا مما يظنون
                    ولاتؤاخذني بما يقولون
                    واغفر لي مالا يعلمون

                    تعليق


                    • #11
                      رد: تطور مفهوم العلم في الفكر الإسلامي

                      موضوع هام وحيوي

                      حاولت قراءة مقتطفات منه

                      والموضوع يلزمه قراءة متأنية لأنه يمثل

                      قضية مهمة في جوهر الفكر الاسلامي

                      والموضوع علينا طرحه للنقاش والحوار يكون قريباً

                      بعد أن أعد رداً عليه

                      نرجوا من الجميع المشاركة

                      تعليق


                      • #12
                        رد: تطور مفهوم العلم في الفكر الإسلامي

                        اخى المعتز
                        شكرا لمرورك الكريم
                        وبانتظار عودتك بالرد والنقاش والحوار من باقى الأعضاء
                        مودتى
                        اللهم اجعلني خيرا مما يظنون
                        ولاتؤاخذني بما يقولون
                        واغفر لي مالا يعلمون

                        تعليق

                        يعمل...
                        X