إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

بقلم أحمد قعبور :حياة الشاعر علي الخليلي..ومختارات من الشعر الفلسطيني..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بقلم أحمد قعبور :حياة الشاعر علي الخليلي..ومختارات من الشعر الفلسطيني..

    مختارات من الشعر الفلسطيني وعلي الخليلي

    بقلم أحمد قعبور


    ولد علي الخليلي في مدينة نابلس عام 1943. وأنهى دراسته الثانوية فيها، لينتقل عام 1962 إلى بيروت، حيث درس في جامعتها العربية وتخرج من كلية التجارة، ليقفل عائداً إلى وطنه فيدير جريدة الفجر المقدسية ويترأس تحرير مجلة الفجر الأدبي. قضى سنوات من عمره في ليبيا لم ينقطع خلالها بطبيعة الحال عن الشعر والأدب. واكتشف في نفسه، منذ وقت مبكر، باحثاً في الأدب الشعبي، ولم يغفل عن كتابة الرواية، والسيرة الذاتية، والنقد الأدبي، فضلاً عن اهتماماته التراثية والفكرية وزاويته المشرقة الدائمة في صحيفة القدس المقدسية.
    وعلي الخليلي أديب غزير الإنتاج، ولهذا سأورد قائمة أعماله حسب موسوعة المرحوم أحمد عمر شاهين التي صدرت طبعتها الثانية عام 2000، ومن المؤكد أن كتب علي الخليلي قد ازدادت منذ ذلك التاريخ، أما القائمة فتبلغنا بالعناوين التالية "في الشعر: جدلية الوطن، 1972 ـ تضاريس من الذاكرة 1977 ـ تكوين للوردة، 1989 ـ هات لي عين الرضا هات لي عين السخط ـ 1996" في دراسة التراث والموروث الشعبي "التراث الفلسطيني والطبقات، 1977 ـ البطل الفلسطيني في الحكاية الشعبية ـ أغاني الأطفال في فلسطين 1979 ـ أغاني العمل والعمال في فلسطين ـ الغول: مدخل إلى الخرافة العربية ـ النكتة العربية". وفي الإبداع السردي له "الكتابة بالأصابع المقيدة: حكايات وجدانية، 1979 ـ المفاتيح تدور في الأقفال: رواية، 1979 ـ عايش تلين: وهي حكايات للأطفال". ومن كتبه النقدية "شروط وظواهر في أدب الأرض المحتلة" وقد تضيف الذاكرة مما لم يرد في الموسوعة: "موسيقى الأرغفة" و"النص الموارب". أما كتابه الذي أمامي الآن ـ أي مختارات من الشعر الفلسطيني ـ فلعله آخر إنتاجه المنشور، وقد صدر هذا العام.
    طريقة في البحث

    كأي مثقف يتعرض لتأليف عمل أنثولوجي ـ ولا سيما إذا كان شريكاً في الإبداع ـ كان على الشاعر علي الخليلي أن يتوخى الحذر، ويبتعد قدر الإمكان عن القضايا الإشكالية بما لا يجور على صدقية العمل. وعلى هذا فقد اختار وصف المشهد الشعري المعاصر بأبوابه المضمونية والجغرافية والحداثوية. وأعطى الباب الأول اسم "الباب السياسي". وربما كان الأكثر إنصافاً لهذا الشعر أن يطلق عليه "الباب الوطني". فالأخ علي، شاعر فلسطيني. وقد عانى كما عانينا من الاستخدام الفظ لكلمة السياسي في وصف شعرنا قدحاً وتسطيحاً لمحتواه. وإلا فهل يعقل عاقل أن قصيدة "الثلاثاء الحمراء" التي كتبها ابراهيم طوقان قبل ثلاثة وسبعين عاماً يمكن أن توصف بأنها مجرد قصيدة سياسية؟ فإذا تجاوزنا عن هذه النقطة العابرة، وصلنا إلى خطة في الدراسة ـ المقدمة، تقسم الشعر إلى مراحل، أولاها مرحلة "الوعي الوطني المبكر لمقاومة الاستيطان اليهودي والصهيونية في فلسطين". ويضعها المؤلف في الفترة الواقعة بين 1897 و1935. ومن شعراء هذه المرحلة الشيخ سليم أبو الإقبال اليعقوبي واسكندر الخوري البيتجالي. ولم يذكر المؤلف غيرهما. ولكن إذا شكا من ضيق الفسحة في المختارات واعتذر لمن لم يورد أسماءهم، فإن الأمر لم يكن يكلفه في المقدمة إلا سطراً أو سطرين لبعض أسماء شعراء تلك المرحلة المنسية لتنوير الأجيال الجديدة. ولما كان قد أشار، بأمانته العلمية المعهودة، إلى المصادر التي عاد إليها. وأولها فيما يختص بالمرحلة المبكرة كتاب الشاعر سميح القاسم "مطالع من أنثولوجيا الشعر الفلسطيني في ألف عام" فإنني بالعودة إلى هذه المطالع، أسجل اسم الشاعر الشيخ سعيد الكرمي (وهو والد شاعرنا الكبير أبي سلمى) وعيسى داود العيسى، وسليمان التاجي الفاروقي، وناصر عيسى، ومحيي الدين الحاج عيسى، وإبراهيم الدباغ وغيرهم، وربما ظلم الشاعر الخليلي نفسه بتقييد بحثه في إطار الموضوع السياسي المرتبط بمرحلة محددة. ولما لم يجد كثيراً من الشعراء الذين يغطون تلك المرحلة، اضطر إلى القفز عن أسمائهم. مع أن معظمهم ـ إن لم يكونوا كلهم ـ قد كتبوا في الشعر الوطني.
    وينتقل بعد ذلك إلى مرحلة بلورة الهوية (1936ـ1939) ليصيبني، صراحة، بالذهول، وهو يورد اسم الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود كأول أنموذج لتلك المرحلة. والمحقق الأدبي التاريخي المحايد لا يمكن أن يتجاوز أسماء ابراهيم طوقان (وقد ذكره الخليلي وحده، بعد عبد الرحيم محمود؟؟) وأبا سلمى وحسن البحيري ومحيي الدين الحاج عيسى وبرهان العبوشي. أما الشهيد عبد الرحيم محمود فقد ارتبط اسمه بالكفاح الفلسطيني الذي سبق نكبة 1948، وقصيدته الخالدة "الشهيد" مكتوبة بعد التاريخ الذي وضعه الخليلي لهذه المرحلة (1936-1939) بثماني سنوات. وكنت أتمنى لو توقف المؤلف عند ابراهيم طوقان وأبي سلمى على وجه الخصوص، بوصفهما الرمزين الشعريين المجمع عليهما لمرحلة بلورة الهوية.
    ويبدو أن المؤلف قد ضن ببعض الأسماء لتلك المرحلة لينصفها في مرحلة نكبة 1948. فقد ذكر من شعراء تلك المرحلة كلاً من أبي سلمى وبرهان الدين العبوشي وفدوى طوقان وخليل زقطان وحسن البحيري، إضافة إلى معين بسيسو وهارون هاشم رشيد وسلمى الخضراء الجيوسي. ويأخذني العجب ـ لا الذهول هذه المرة ـ من إغفال الشاعرين الكبيرين يوسف الخطيب وكمال ناصر. وهل يجوز مجرد التفكير في شعر النكبة من غير أن يكون في المقدمة يوسف الخطيب؟.. إلا أن المؤلف سينصف شاعرنا الكبير في مرحلة "الثورة بعد 1967" فقد آن الأوان ليذكر أسماء محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد ويوسف الخطيب وراشد حسين. ولم أفهم الحكمة من ترتيب الأسماء على هذا النحو، فهو ليس ترتيباً زمنياً. كما أنه ليس ترتيباً مضمونياً إذا جاز التعبير. فراشد حسين تقدم زمنياً على زملائه شعراء العمق الفلسطيني وبعضهم اعتبره أستاذه. كما لم يرد اسم الشاعر حنا أبي حنا الذي كتب مقدمة أولى مجموعات محمود درويش. ولم يحظَ يوسف الخطيب ـ وهو من هو ـ إلا بالترتيب الأخير مع أنه يتقدم هذه الكوكبة زمنياً ومضمونياً. أما من حيث المستوى فلا يحق لي في هذا المقام أن أتدخل. فالشاعر الخليلي يعد أنثولوجيا ولا يقدم نقداً تطبيقياً.
    المكان والأضلاع

    آثر المؤلف أن يوقف متابعته النقدية، من حيث تسلسل الزمن التاريخي، عند مرحلة الثورة وما بعد 1967. علماً أن ثلاثين سنة تفصلنا عن ذلك التاريخ، وقد جرت مياه كثيرة في أنهار فلسطين منذ ثلاثة عقود. ومع ذلك فإن من حقه كباحث أن يتوقف عند الزمن الذي يريد. وقد انتقل بعد ذلك إلى ما أطلق عليه "الباب المكاني". فانتبه إلى خصوصية الداخل، حيث يصمد أشقاؤنا في الأرض المحتلة منذ عام 1948. ولمحمود درويش حصة كبيرة من الوقت بينهم، ثم ترد أسماء راشد حسين وسميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران وجمال قعوار وطه محمد علي. وقد أشفق المؤلف على هؤلاء ا لشعراء الأشقاء لأن مجموعهم "يختنق في الحصار وفي غياب الأمة العربية عنه أيضاً وكأنه غير موجود حقاً".. أليس في هذا الكلام بعض الشطط في التعميم؟.. إذا كان المقصود بالحصار ذلك الخنق اليومي الذي يمارسه الاحتلال فهذا صحيح من غير أن نغفل عن أن الشعراء ـ وغير الشعراء ـ من أهلنا في الضفة والقطاع باتوا يشاركونهم هذا الحصار منذ حزيران 1967. أما أن الأمة العربية غائبة عنهم وكأنهم غير موجودين حقاً فإنني أتوجه إلى الشاعر والباحث علي الخليلي الذي أنفق زهرة شبابه على الإنتاج الأدبي والثقافي عموماً، هل نال واحداً بالألف من الفرصة التي نالها الشاعر سميح القاسم كواحد من أبرز الشعراء العرب المحدثين؟. والإشارة إلى الفرصة تأتي في معرض الرد على الفكرة التعميمية بأن شعراء العمق منسيون ولا أحد يهتم بهم. إن هناك استثناءات هذا صحيح، وبعض هؤلاء الأخوة كان من حقه اهتمام أكبر، ولكن المشهد العام يقول، يا أخي علي، إذا كان النبي الكريم قال للأعرابي: لقد ضيقت واسعاً.. فإنني أخشى أن تكن وسعت ضيقاً..
    ثم ينتقل إلى ما يسميه بالضلع الثاني من الباب المكاني، فيعرض للشعراء الفلسطينيين الذين عاشوا في الأردن، مثل فدوى طوقان وعبد الرحيم عمر، ولاحقاً حيدر محمود وخيري منصور وعبدالله رضوان ووليد سيف ولا يذكر من خصوصيات هؤلاء الشعراء إلا تداخل أسمائهم في أسماء زملائهم الشعراء الأردنيين. وكنت أفهم من الباب المكاني أن يتوقف المؤلف عند ظاهرة المخيمات والشقاء ولملمة الشعث وصولاً إلى استقبال الثورة. وهناك هنة بسيطة تتعلق بالشاعرة فدوى طوقان التي قضت معظم حياتها لا في الأردن بل في نابلس ولا أدري كيف فاتت هذه الملاحظة على الشاعر الخليلي وهو النابلسي الذي لا يبعد فرن أبيه عن بيت أهل فدوى كثيراً. كما أنه نفسه أصدر مجموعة بعنوان "نابلس تمضي إلى البحر" وهو عنوان يشي بمفارقة المكان، ولعله العنوان الوحيد في المجموعات الفلسطينية الذي يؤدي إلى هذه المفارقة. وكان من حقه أن يذكر ذلك، لا سيما وأنه ناقد موضوعي لم يتحرج من الحساسية الذاتية فقد أورد اسمه غير مرة في هذه الدراسة، إلا أن المفارقة الكبرى كانت في شطبه أسماء شعراء فلسطينيين مرموقين مبدعين ممن عاشوا في الأردن مثل محمد عز الدين المناصرة ومحمد القيسي وابراهيم نصر الله وزهير الشايب ويوسف عبد العزيز وطاهر رياض. أما "الضلع الثالث" وهو شعراء غزة، فيمثله بحق هارون رشيد ومعين بسيسو ولكن العقود الأخيرة أنجبت جيشاً من الأسماء التي ظهرت في غزة، ولا أريد في هذا الحيز الضيق أن أذكر بعضها حتى لا يفوتني بعضها الآخر فأسيء من حيث أطلب الإنصاف ويبقى "الضلع الرابع" أي الشعراء الذين عاشوا في المنفى ويحضره منهم جبرا ابراهيم جبرا وأبو سلمى وخالد علي مصطفى وبرهان الدين العبوشي، ولا أدري أين ذهب فواز عيد وسلمى الخضراء الجيوسي وخالد أبو خالد ونديم ناصر وحسيب القاضي وغيرهم كثير كثير كثير ولا أدري ما إذا كان يحق لاسم أحمد دحبور أن يكون بينهم.
    معضلة الحداثة

    كل الاحترام لعلي الخليلي، فقد كان بين قلة من المنصفين الذين كسروا حصار التعتيم على توفيق صايغ. هذا الشاعر الفلسطيني الأوديبي المسيحي الذي يشكل ظاهرة فريدة في الشعر العربي. فضلاً عن أنه رائد قصيدة الشعر الحر (المتخلي عن الوزن والقافية) في تاريخ الشعر العربي المعاصر. وقد أفرد له علي الخليلي في كتابه هذا مساحة معقولة من الاهتمام. وإذا كان في هذه النزاهة ما يلزمنا بالاعتراف بها وتحيتها، فإنها تثير شجوناً من نوع آخر. فقد أورد بحق، تاريخ صدور مجموعة "ثلاثون قصيدة" لتوفيق صايغ عام 1954. وبذلك يكون صايغ قد سبق الجميع إلى غير الموزون. فجبرا وأنسي الحاج وأدونيس والخال والماغوط كلهم اختطوا هذه الطريق من بعده، وبعضهم كتب الموزون إلى جانب غير الموزون. ولا يقولن أحد إن ألبير أديب والياس زخريا وغيرهما قد سبقا إلى قصيدة النثر، فالتجارب السابقة على توفيق صايغ كانت حائرة في اسمها: شعر منثور، شعر مرسل، منطلق..إلخ، بل إن بعض التقليديين كتبوا غير الموزون ـ مثل المرحوم حسن البحيري ـ لا بوصفه شعراً بل أطلقوا عليه اسم الشعر المنثور ووصفوه نظرياً بأنه نثر جميل.
    أما رؤيا توفيق صايغ المعقدة، فقد اختزلها علي الخليلي إلى "قلق ميتافيزيقي عميق" وإن لم ينكر بحث الشاعر في ذاته وأسئلته حول معنى الحياة والموت والقلق والعذاب. بل وصف اتجاهه بالنهج الذاتي في الشعر. وهذا كله صحيح، إلا أنه الملمح العام لشاعر منكود في معضلة فهم العالم. يوضح أنه مسيحي لا بالمعنى اللاهوتي ـ مع أنه ابن قس ـ بل وفق رؤيا تركز على فلسطينية المسيح ليصل إلى اللحظة الأوديبية من خلال علاقة المسيح بأمه، وكذلك علاقة الشاعر. وملاحظة علي الخليلي بخصوص عدم حضور فلسطين في شعر توفيق صايغ صحيحة جزئياً، بمعنى أنه لم يقرأ فلسطين بين السطور، وإلا فما دلالة قصيدة "نشيد وطني" الجريئة المشهورة التي "يهجو" فيها الشاعر بلاده لا تنصلاً منها بل غيرة عليها. حتى إذا دلفنا إلى مجموعتيه "القصيدة ك" و"معلقة توفيق صايغ" طالعتنا مأساة الفلسطيني على المعابر والحدود في ظل حرمانه من جواز السفر (القصيدة 24 من مجموعة القصيدة ك) كما نطل على مشهد من صافي الشعر الفلسطيني في تسجيل النكبة وظروفها غير الإنسانية (مجموعة معلقة توفيق صايغ) بل إنه يدمج الذاتي بالموضوعي ويسأل ك التي تعذبه بحبها: "أجئت تعيدين علي مأساة بلادي؟".
    ويقفز علي الخليلي، رجوعاً، بعد الإشارة الموفقة إلى توفيق صايغ، نحو الشاعر الشاب المرحوم مطلق عبد الخالق الذي توفي بحادث سير مروع سنة 1927. ولكن ما علاقة مطلق بالحداثة؟ وهل يظن علي الخليلي أن الصايغ سمع بمطلق حتى يكون شعر مطلق تراثاً لتوفيق صايغ؟ لقد كتب المرحوم مطلق عبد الخالق قصائد خفيفة فيها تأمل لا يرقى إلى ما كتبه مجايلوه من شعراء المهجر مثلاً. وكان له ملحمة شعرية لم يشر إليها علي الخليلي بعنوان "ضجعة الموت" وفي هذه الملحمة تجاوز لشعر عصره، باستخدام الرموز الإغريقية. ولكن لهذه الملحمة قصة، إذ أن أساسها فكرة للدكتور داهش. هذا المشعوذ العبقري الفلسطيني الذي كاد يدعي النبوة، وكان مطلق عبد الخالق والشاعر اللبناني حليم دموس من مريديه. وقد نظم كل منهما "ضجعة الموت" بعد أن لقنهما د. داهش فكرتها. وفي القصيدة التي اختارها علي الخليلي لمطلق عبد الخالق في هذه المختارات الفلسطينية، وهي بعنوان "الوطن" ما يؤكد ابتعاد عالم مطلق الشعري عن عالم توفيق صايغ ابتعاد الأرض عن السماء.
    ولكن المأساة هي في أن علياً لم يواصل جسارته في هذا المضمار. فقد ذكر الصايغ وأهمل جبرا ابراهيم جبرا، توأم توفيق صايغ الروحي وواضع منفستو الشعر الحديث وأول من ميز بين الشعر الحر وقصيدة النثر. وقد كانت مقدمته لشعر بلند الحيدري عام 1951 دفعة قوية باتجاه الحداثة. أما مجموعته الرائدة "تموز في المدينة" ـ وفيها عشر قصائد عن فلسطين على الأقل ـ فكانت تجمع الشعر الحر (غير الموزون) إلى قصيدة النثر مع مقدمة نوعية جعلت الكثيرين يتعلمون من جبرا. ولا أفهم كيف يتم إغفال اسم جبرا إذا ورد حديث الحداثة..
    ثم إن الشريط متصل، والكثير من الشعراء الفلسطينيين ـ بمن فيهم سيد القول الفلسطيني محمود درويش ـ هم من أركان الحداثة. وعلي الخليلي نفسه من هذه الكوكبة فلماذا لم يشر إلى استمرار الحداثة وإنجازاتها في الإسهام الفلسطيني؟
    خلاف واتفاق

    يحق للقارئ المتسرع أن يشك في أنني أكاد أختلف مع الشاعر علي الخليلي في كل شيء. وليس هذا هو واقع الحال. ولكن الشعر الفلسطيني ـ وأحسن علي الخليلي صنعاً عندما أكد عدم اختلافه عن الشعر العربي ـ يتميز بحساسية إضافية، قياساً إلى حساسية الشعر العربي الحديث الذي كان عليه أن يخوض معركتين فاصلتين، أولاهما مع بدايات منتصف القرن العشرين، في ظل انفجار القضية الفلسطينية التي أسفرت عن النكبة، وقد أخذت المعركة الشعرية شكل الصراع بين المحافظين والمحدثين الذين تبنوا قصيدة التفعيلة. أما المعركة الثانية فبعد هزيمة حزيران 1967 ببضع سنوات بعد أن توسع نداء الشعر الحر وقصيدة النثر حتى ضاعت الطاسة أو كادت. والشعر الفلسطيني، بما هو جزء من الشعر العربي، عاش هاتين المعركتين وعانى من الحساسية بين الجديد والقديم المتولدة عنهما. إلا أن حساسيته الإضافية جاءت من خارج الشعر. وأخذت طابعاً وطنياً بعد أن تشظى الشعب الفلسطيني وتبعثر في ديسابورا حقيقية هذه المرة وليست مثل ديسابورا الخرافة اليهودية. فاختلطت الأسماء. وغاب التمييز. فبعض الشعراء مندغمون في البلاد التي آوتهم، وبعضهم انقطعت أخبارهم مع أنهم طلعوا ببداية قوية (مثلاً، حسن النجمي وحكمت العتيلي وعماد جمهور) وبعضهم عاش مرحلتين أو أكثر حتى ليصعب تحديد المرحلة التي يمثلها (مثلاً، المرحوم أبو سلمى عايش ثورة 1936 وكان أشهر شعرائها، وعايش النكبة وكتب فيها قصائد خالدة، وبشر بالثورة المعاصرة. ويوسف الخطيب كان شاعر النكبة ـ هل أقول الأول؟ ـ وبشر بالثورة وأصبح من كبار شعرائها. وهو ما يصدق على الشهيد كمال ناصر الذي استشهد وهو عضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية). ويأخذ جبرا، في هذا الزحام، وضعاً استثنائياً فقد أحبه العراق الذي استضافه وصاهره حتى أصبح الكثيرون يظنونه عراقياً، ولم يكن هذا ليزعجه في كثير فهو يحب العراق ولكنه ظل في نتاجه فلسطينياً حتى النخاع، وهو القائل :"لقد انضغطت بيت لحم في روحي انضغاط النور في الماس".. وجاءت الخلافات السياسية بين الأجيال المخضرمة من الشعراء الفلسطينيين حتى تقدم بعضهم على حساب بعضهم الآخر لاعتبارات غير شعرية. فنخلص مما تقدم ـ وغيره كثير ـ إلى مساحة خلاف واسعة. فضلاً عن أن التحقيق التاريخي في أشعار الفلسطينيين يكتنفه التشوش والتداخل. والأهم من هذا كله أنه لا يمكن التقاء النقاد والباحثين وحتى الشعراء على منهج موحد في فهم الشعر وتصنيفه بالتالي، فما بالك بمقدمة جامعة لأنثولوجيا تضم مختارات ولا تزعم الإحاطة بالخريطة كاملة؟
    أريد أن أصل إلى أن الملاحظات التي سجلتها لا تدخل في حكم القيمة. ولا تنال ـ لا سمح الله ـ من الجهد الكبير العميق للصديق الشاعر علي الخليلي. ولكنه قدم قراءة، وهذا الاشتباك الأخوي هو قراءة على القراءة إلا عندما يتعلق الأمر بملاحظة تاريخية.. فالحقيقة تحكمنا جميعاً.
    هـذا الزمن

    تضم "مختارات من الشعر الفلسطيني" التي أعدها الشاعر علي الخليلي ثبتاً باثنين وثلاثين شاعراً وشاعرة، ولد أولهم وهو سليم حسن أبو الإقبال اليعقوبي عام 1880 وتوفي عام 1941، وولد آخرهم وهو وسيم الكردي، عام 1960، أي أن المختارات تغطي مساحة زمنية وسعها ثمانون عاماً، أو على وجه الدقة اثنان وعشرون عاماً زيادة على قرن كامل من الزمن. فالشاعر الكردي ـ مد الله بعمره ـ لا يزال بيننا وهو ينتج بكامل اللياقة الشعرية. وهذه المساحة الزمنية شهدت حربين عالميتين ساخنتين وحرباً باردة، ونشوء أول نظام اشتراكي وانهيار المنظومة الاشتراكية، وصولاً إلى ولادة النظام العالمي الجديد. وإذا كانت الحداثة موجودة منذ ما قبل هذا التاريخ، فإن العولمة ـ بمعناها المعاصر وطبعتها الأمريكية ـ هي وليدة القرن العشرين. كذلك شهد شعراء هذه المرحلة سلسلة الثورات الفلسطينية ونشوب حروب النكبة والنكسة والعبور وانفجار أطول انتفاضة في التاريخ العربي. وخلال هذه الملحمة الزمنية تبدلت أذواق غنائية موسيقية وتغير شكل الإيقاع الجسدي من الدبكة إلى أحدث الرقصات المجنونة، وتغيرت الأزياء. وخيضت معارك فكرية ونظرية حول حرية المرأة. بل وصلت الصراعات الفكرية إلى ذروتها حتى هتكت مختلف أنواع المسكوت عنه وغير المفكر فيه. وكانت الديمقراطية هي الغائب الحاضر في المشهد العربي المعاصر. والتبس الأمر بين نظام رجعي يوفر حداً من الحريات وبين نظام تقدمي ذي طبيعة عسكرية قاسية. وانتقل العرب من النخوة القبلية إلى المشروع القومي النهضوي المتصادم مع الاستعمار والإمبريالية، لينتهي الأمر بانتكاسة إقليمية تعزز الأنظمة المنفردة بحدودها، حتى أصبحت الجامعة العربية حارسة لهذه الحدود الإقليمية بعد أن كانت الثقافة القومية تدعو إلى التمرد على هذه الحدود.
    إنها خريطة معقدة شديدة التشابك والتغير والتردد، محكومة بصراعات داخلية وخارجية. وتأتي القضية الفلسطينية لتزيد الأمر تعقيداً. فهي ـ من جهة ـ نتيجة لبعض ما تقدم، وهي من جهة ثانية تعول على هذه الخريطة فلا يمكن للجواب عن السؤال الفلسطيني أن يكون مجرد خطاب إقليمي.
    ووضع الشعر الفلسطيني شديد الإشكالية. فهو جزء من الشعر العربي تاريخاً ومنشأ وتناقضات وتطورات، وهو محكوم باستجابات وجدانية ووطنية وفكرية لأسئلة فلسطين ومعاناة شعبها. والشاعر الفلسطيني لا يستطيع أن يتنكر لقضايا وطنه وأمته. ولكنه أيضاً ابن العصر، بكل ما في العصر من أسئلة قد يتطرف بعدها حتى التمادي في الابتعاد عن السؤال الوطني. ومن شأن هذه الحيرة أن تخصب الاختلاف لأنه علامة صحة. فالتعددية من الظواهر الإيجابية الضرورية لعالم اليوم، على أن نميز بين التعددية بما هي مساحات من الفرص للاختيارات، وبين مظهرها الرث المتجلي في الخلافات السياسية الضيقة.
    ترى هل استطاع علي الخليلي بمختاراته هذه أن يعبر عن هذا المشهد المركّب؟ دعونا نأمل ذلك.
    هذه المختارات

    بين الاثنين والثلاثين شاعراً الذين اختارهم واختار لهم المؤلف، لم تظهر إلا شاعرتان، وهما، طبعاً، وأشدد على "طبعاً"، فدوى طوقان المولودة عام 1917 وسلمى الخضراء الجيوسي المولودة عام 1929 حسب التاريخ المسجل في الكتاب. فهل عقمت النسوية الفلسطينية في مجال الشعر حتى أنه لم تولد شاعرة منذ سبعة عقود؟ إنني أتفهم إشارة المؤلف إلى عدم قدرته موضوعياً، في حيز محدود، على الإحاطة بالمشهد الشعري الفلسطيني كاملاً، بل إنني أتعاطف معه إلى حد الشفقة بمعناها الإيجابي المتضامن. ولكن الأمر مع شعر المرأة مختلف. وحضور المرأة يتعلق بالتراث والثقافة والأيديولوجيا. ولا شك في أن ثقافتنا المذكّرة لا تزال تبعد المرأة إلى مؤخرة المشهد. ولكن هل يجوز أن نتعاطى مع شاعر وناقد حداثي مثل على الخليلي بوصفة جزءاً من الثقافة المذكرة؟. أنا أختار ـ ولعله يقرني على ذلك ـ أن ألومه في هذا التقصير بحق النساء الشاعرات على أن أعتبره مثقفاً محكوماً بأيديولوجيا تدعو إلى خصي المرأة الذي هو نوع من خصي الرجل.
    فإذا انتقلنا من هذه الملاحظة الشائكة، وجدنا المؤلف محكوماً بالمصادر المتاحة. بمعنى أنه لم يأخذ حريته في الاختيارات ليعبر عن حقيقة الشعراء وحقيقة العصر تماماً. فهل يعقل مثلاً أن يكون أبو سلمى هو صاحب هاتين القصيدتين المختارتين ـ إحداهما متواضعة المستوى، وهي الأولى من حيث الترتيب ـ مع أنه صاحب الدالية المشهورة:
    انشر على لهب القصيد
    شكوى العبيد إلى العبيد ؟
    صحيح أن فيها أبياتاً محرجة عربياً. ولكن الكتاب كله مختارات، ويستطيع شاعر محنك مثل علي الخليلي أن يتصرف. وماذا بشأن محمود درويش؟ قصيدة من الشرق وقصيدة من الغرب. وإذا كان المؤلف يريد أن يقدم صورة بانورامية لشاعر فلسطين الأكبر، أفلا يرتب القصائد التي اختارها حسب المراحل الزمنية التي عبرها الشاعر؟.. إن علياً لم يفعل ذلك.
    ومع اهتمامي الكلي باعتذاره عن عدم الإحاطة بالشعراء جميعاً، إلا أن بعض الأسئلة المحيرة تفرض حضورها، فهل علي الخليلي مقتنع بمختارات لا اسم فيها للراحل الرائع فواز عيد، ولا لحسن النجمي أو إبراهيم نصر الله؟ وأين زهير أبو شايب ومحمد لافي ويوسف عبد العزيز و عصام ترشحاني وباسم النبريص وميشيل حداد؟.. أكيد أن مهمة صاحب الأنثولوجيا مهمة شاقة. لكن العدل مطلوب. فأنا أتفهم أن تغفل الذاكرة عن اسم لامع. ولكن غياب أسماء فواز عيد أو عصام ترشحاني بل جبرا.. (هل هذا معقول؟ أين جبرا إبراهيم جبرا ؟) يصبح قاسياً إلى حد الإيلام قياسياً إلى بعض الأسماء الموجودة في المختارات بلا مؤاخذة، مع الاحترام الواجب للجميع.
    ليست شخصية

    أحرجتني هذه الفقرة الأخيرة لأنها تمسني شخصياً. وترددت في كتابتها إلى أن انتبهت إلى أن صديقي وأخي علياً قد أعطاني حقي وزيادة. فليست شخصية هذه الملاحظة، لكن لها دلالة مؤسفة. فقد تبرع علي الخليلي مشكوراً، أطال الله عمره، بتكبيري ست سنوات مرة واحدة، وهكذا يكون قد أخرجني من جيلي. فقد ذكر ـ وهو صديقي الذي يعرفني جيداً – أنني من مواليد 1940 مع أنه هو الذي ذكر وكتب شخصياً في مقدمته تاريخ ميلادي الحقيقي وهو 1946. فهل نعتمد التاريخ الموجود في المقدمة أم التاريخ الموجود عند المختارات؟.. ليس هذا لغزاً، والجواب بسيط. فقد عاد إلى الطبعة العربية من مختارات د. سلمى الخضراء الجيوسي التي كتبت التاريخ في المقدمة وفي الطبعة الإنكليزية التي هي الأصل. أما في الطبعة العربية فكان الخطأ بفعل كيدي لا علاقة لشاعرتنا الكبيرة به. وما يدل على أن صديقي علياً قد اعتمد على هذا الكتاب هو انه توقف عند ذكر عناوين كتبي حتى تاريخ صدور كتاب الدكتورة سلمى، مع أنني أصدرت ثلاث مجموعات بعد ذلك التاريخ وهي متوفرة بإهداء متواضع مني في مكتبة علي الخليلي. وليس هذا وحسب، بل أن القصائد المختارة لي ـ وأنا فخور بها على أي حال ـ هي القصائد نفسها بالترتيب نفسه الموجود في كتاب د. سلمى. وليس في هذا ما يؤخذ على المؤلف الذي أشار بوضوح إلى استعانته بهذا الكتاب.. ولكن يا أخي العزيز، ألا يدل هذا على أن الاختيارات كانت محكومة بضيق حيز المصادر والمراجع؟
    ومع ذلك، لا أستطيع إلا أن أنحني لهذا الجهد، وهذا التعمق في قراءة المشهد الشعري الفلسطيني. وليس هذا بجديد على علي الخليلي. فشكراً لك. ومبروك لك ولنا هذا الجهد يا أبا سري.
    أنا بنت الهاشمي أخت الرجال
    الكاتبة والشاعرة
    الدكتورة نور ضياء الهاشمي السامرائي
يعمل...
X