إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رجال وأعلام الأمة

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رجال وأعلام الأمة


    رجال وأعلام الأمة

    عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثاني الخلفاء الراشدين

    ترجمته

    هو أبو حفص عمر بن الخطاب بن نُفَيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، الخليفة الراشد الفاروق الذي عدل في رعيته فنام قرير العين، أحد السابقين الأولين من المهاجرين وأحد العشرة الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة. وأحد أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد كبار علماء الصحابة، الذين لم تأخذهم في الله لومة لائم، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم مبينًا مزايا عمر الفاروق ومناقبه "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه".
    وكان رضي الله عنه شديد البياض تعلوه حُمرة، طويلاً أصلع أجلح انحسر الشعر عن جانبي رأسه. وقال وهب بن منبه: جاءت صفته في التوراة: أنه قرن من حديد، أمير شديد.
    وكان رضي الله عنه ابن ست وعشرين سنة حين أسلم، وذلك بعد أربعين رجلاً وعشر نسوة، وقيل: أسلم بعد خمسة وأربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة.

    قصة إسلامه


    ذكر ابن الجوزي في "صفة الصفوة" قصة إسلامه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر خرج متقلدًا بالسيف، فوجده رجل من بني زُهرة فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدًا، فقال: وكيف تأمن من بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمدًا؟ فقال له عمر: أراك قد تركت دينك الذي أنت عليه، فقال الرجل: أفلا أدلك على العجب إن أختك وخَتَنَك (صهرك) قد تركا دينك، فأتاهما عمر وكانوا يقرؤون "طه" فقال لهما: لعلكما قد صبوتما، فقال له خَتَنُه: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك، فوثب عليه عمر وضربه ضربًا شديدًا، فجاءت أخته ودفعته عنه فضربها بيده فَدمِيَ وجهها، فقالت: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فلما يئس عمر قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه، فقرأ "طه" حتى انتهى إلى قوله تعالى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} (سورة طه/ءاية 14) فانشرح صدره للإسلام وقال: دلوني على محمد، ثم أتى دار الأرقم فإذا على بابه حمزة وطلحة وبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقدومه خرج فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه ثم هزّهُ هزةً فما تمالك عمر أن وقع على ركبته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنت بمنتَهٍ يا عمر؟" فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فكبَّرَ أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد الحرام. وكان إسلامه سنة ست من النبوة، وقيل سنة خمس.

    مناقبه وفضائله


    اشتهر عن الفاروق رضي الله عنه عدله واهتمامه بأمور المسلمين قبل أن يبايع له بالخلافة وبعد ذلك، وأخبار عدله أكثر من أن تجمع في كتاب واحد، فمن أخبار رحمته وعطفه على المسلمين أنه في يوم من أيام الرمادة، وهي سنة كان فيها قحط شديد، نحروا جَزورًا ووزعوها على الناس، وكانوا قد ادخروا له أطيب ما فيها دون أن يعلم، فلما قُدّمت له قال: أنَّى هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، من الجَزور التي نحرنا اليوم، فقال: بئس الوالي أنا إن أكلت أطيبها وأطعمتُ الناس كراديسها، فأمر بخبز وزيت فجعل بيده يكسر الخبز ويثرده، ثم قال لخادمه، وكان اسمه يرفأ: ويحك يا يرفأ، ارفع هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت بثمغ (وهو موضع قرب المدينة) فإني لم ءاتهم منذ ثلاثة أيام، وأحسبهم مقفرين، فضعها بين أيديهم.
    وروى أبو نُعيم في "حلية الأولياء" أن سيدنا عمر رضي الله عنه خرج في سواد الليل فرءاه طلحة، فدخل عمر بيتًا ثم دخل بيتًا ءاخر، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك فقالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يُصْلحني ويُخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أتتبع عثرات عمر.
    وأما أخبار زهده رضي الله عنه فكثيرة، منها ما ذكره ابن الجوزي في "صفة الصفوة" وهو أنه رضي الله عنه خطب الناس وهو خليفة وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة، وقال أنس: كان بين كتفيه ثلاث رقاع.
    وأما تعبده لله تعالى فقد كان كثيرًا، وخوفه منه كان كبيرًا، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كان عمر بن الخطاب يقول: لو مات جَدْيٌ بطَفّ (جانب) الفرات لخشيت أن يحاسب الله عمر.
    وعن ابن عمر أيضًا أنه قال: ما مات عمر حتى سرد الصوم، أي جعله متواليًا متتابعًا.
    وقال سعيد بن المسيب: كان عمر رضي الله عنه يحب الصلاة في جوف الليل.
    ومن مناقبه رضي الله عنه أنه شهد بدرًا والمشاهد كلها وثبت مع النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في غزوة أُحد.
    ومن جملة مناقبه رضي الله عنه أنه كان أول من أمر بالتأريخ اعتمادًا على الأشهر الهجرية، وأول من أمر بجمع الناس على صلاة التراويح بعد أن كانوا يصلونها فرادى، وأول من عَسَّ، أي طاف بالليل يحرس الناس ويكشف أهل الريبة، وأول من حمل الدّرَّة (العصا) وأدب بها، وأول من دَوَّن الدواوين، وأول من لُقّبَ بأمير المؤمنين.

    ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه

    وردت أحاديث كثيرة في مدح سيدنا الفاروق رضي الله عنه وبيان فضائله وصفاته الحميدة، منها ما بيّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم إخلاصه لله تعالى وصلابته وقوته في الدفاع عن دين الله والأمة الإسلامية وإقامة العدل بين المسلمين، فمن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: "والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فَجّك".
    وروى الترمذي وابن ماجه والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أشد أمتي في أمر الله عمر".
    ومن هذه الأحاديث ما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم أُتيتُ بقدح لبن فشربت منه حتى إني أرى الريَّ يخرج من أطرافي، ثم أعطيت فضلي عمر" قالوا: فما أوَّلتَ ذلك يا رسول الله؟ قال: "العلم".

    من كلامه رضي الله عنه


    لقد أُثر عن سيدنا الفاروق رضي الله عنه الكثير من المواعظ والحكم البليغة؛ فمن ذلك قوله رضوان الله عليه "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا نفوسكم اليوم. وتزينوا للعرض الأكبر {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} (سورة الحاقة/ءاية 18).
    وفي كلامه هذا حث على محاسبة العبد نفسه وكبح جماحها وكفها عن هواها ليسلم في دنياه وءاخرته.
    ومن كلام الفاروق رضي الله عنه أيضًا قوله فيما حكاه ابن الجوزي في مناقب عمر عن الأحنف بن قيس قال: قال عمر: يا أحنف من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن فرح استخف به، ومن أكثر من شىء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه. وهذا من عمر رضي الله عنه توجيه وجيه لما ينبغي أن يكون عليه المرء من الاتزان والرزانة، فلا يكثر من الضحك بدون سبب ولا يكثر من المزاح كي لا تقل هيبته في نفوس العباد وبالتالي يقل انتفاعهم به وتأثرهم بما يقول من ارشادات وتوجيهات، وكذا فإن كثرة الكلام في غير منفعة وغير مصلحة فإنه لا خير فيه؛ ولذا ينبغي للعاقل أن يراقب نفسه فيما يقول وما يفعل.
    وفي مناقب عمر لابن الجوزي أن عمر قال: "لا تظن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً" فما علمنا منه خيرًا حسنَّا الظن به والله يعلم السرائر وما تخفي الصدور. أما نحن فقد أمرنا بتحسين الظن إذ يقول الله عز وجل: {يا أيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم} (سورة الحجرات/12).
    ومن جملة كلامه أيضًا قوله: ثلاٌث يصفو بهن ود أخيك: تسلم عليه إذا لقيته وتفسح له في المجالس وتناديه بأحب الأسماء إليه، ذكر ذلك ابن الجوزي في مناقب عمر بلفظ ءاخر وحاصله يفهم أهمية أن تجتمع هذه الخصال الثلاثة في المرء المسلم مما يزيد في أواصر التماسك والوحدة ليقوم المجتمع على أسس سليمة متينة.
    ومن حكمه الرائعة قوله رضي الله عنه فيما رواه الأحنف بن قيس "تفقهوا قبل أن تسودوا" أي اطلبوا الفقه والعلم قبل طلب الزعامة والرياسة وقبل أن تصيروا أسياد الناس.
    هذا وليعلم أنه ورد عن عمر أيضًا كلام مفيد في الطب فمن ذلك قوله:
    "إياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة مؤذية للجسم، وعليكم بالقصد في قوتكم فإنه أبعد من الأشَر وأصح للبدن وأقوى على العبادة، وإن امرءًا لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه، وقال: إياكم واللحم فإن له ضراوة كضراوة الخمر، والضــراوة بالشىء الولع به. وإنمــا كـره عمر رضي الله عنه الإدمان عليه لما فيه من التنعم والتشبه بالأعاجم.

    وفاته


    كانت وفاته رضي الله عنه صبيحة السابع والعشرين من ذي الحجة لسنة ثلاث وعشرين، فبينما هو يؤم الناس في صلاة الصبح، إذ جاء أحد غلمان المغيرة وكان يدعى أبا لؤلؤة، وكان مجوسيًّا، فطعنه بسكين ذات طرفين وولى هاربًا، وصار لا يمر على أحد يمينًا وشمالاً إلا طعنه، ولما علم أنه لا مهرب له طعن نفسه فمات.
    وقبل أن تفيض نفسه طلب الفاروق رضي الله عنه من ابنه عبد الله أن يحصي ما عليه من الدَّيْن وأن يؤديه لأصحابه، وقال له: اذهب إلى عائشة رضي الله عنها وقل لها: يستأذن عمر بن الخطاب أن يُدفن مع صاحبيه، فمضى عبد الله بن عمر فاستأذن فقالت له: كنت أريده لنفسي ولأوثرنَّه اليوم على نفسي، فدفن قرب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
    إن مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغت مبلغًا كبيرًا جعل العلماء والمؤرخين والمترجمين يوردون فصولاً وأبوابًا طويلة في تعداد مآثره، ومنهم من ألف كتابًا مخصوصًا لتعداد مناقبه كابن الجوزي الذي عَدَّد من مزاياه وصفاته ما جمع كتابًا ضخمًا، وكذلك السيوطي الذي ألف كتابًا له سماه: "الغُرَر في فضائل عمر"، وكثيرون غيره.


  • #2
    أبو بكر الصديق رضي الله عنه اول الخلفاء الراشدين

    أبو بكر الصديق رضي الله عنه اول الخلفاء الراشدين


    ترجمته

    هو أبو بكر الصديق واسمه عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر القرشي، وقيل كان اسمه في الجاهلية "عبد الكعبة" فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم "عبد الله"، يلتقي نسبه هو ورسول الله في مرة بن كعب، وأمه أم الخير سلمى (وقيل ليلى) بنت صخر بن عامر وهي بنت عم أبي قحافة.
    وُلد بعد عام الفيل بنحو ثلاث سنين، كان أبيض اللون نحيف الجسم خفيف العارضين معروق الوجه (أي قليل اللحم) ناتىء الجبهة، وعن أنس أنه قال: "كان أبو بكر يخضب بالحناء والكتم" (نبت يصبغ به).
    وكان من رؤساء قريش وعلمائهم، حليمًا وقورًا مقدامًا شجاعًا صابرًا كريمًا رؤوفًا، هو أجود الصحابة وأول من أسلم من الرجال وعمره سبع وثلاثون سنة عاش في الإسلام ستًّا وعشرين سنة. وبويع له بالخلافة يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة من الهجرة وأجمعت الصحابة كلهم على خلافته.
    وقد أورد ابن الجوزي في كتاب "صفة الصفوة" في تسميته بعتيق ثلاثة أقوال: أحدها روي عن عائشة أنها سئلت لم سمي أبو بكر عتيقًا؟ فقالت: نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هذا عتيق الله من النار"، والثاني أنه اسم سمته به أمه قاله موسى بن طلحة، والثالث أنه سمي به لجمال وجهه قاله الليث بن سعد.
    وسماه النبي صلى الله عليه وسلم صِدّيقًا وقال: "يكون بعدي اثنا عشر خليفة أبو بكر الصدّيق لا يلبث إلا قليلاً"، وكان علي بن أبي طالب يحلف بالله أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء صديق.ا.هـ.
    وأخرج الحاكم في المستدرك عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء المشركون إلى أبي بكر فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم، فقال: صدق إني لأصدقه بأبعد من ذلك بخبر السماء غدوة وروحة، فلذلك سمي الصديق. ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء.

    قصة إسلامه

    وقد أورد ابن الجوزي في كتاب "صفة الصفوة" قال حسان بن ثابت وابن عباس وأسماء بنت أبي بكر وإبراهيم النخعي: أول من أسلم أبو بكر، وقال يوسف بن يعقوب بن الماجشون: أدركت أبي ومشيختنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبد الرحمن وصالح بن كيسان وسعد بن إبراهيم وعثمان بن محمد الأخنسي وهم لا يشكّون أن أول القوم إسلامًا أبو بكر.
    وعن ابن عباس قال: أول من صلى أبو بكر رحمه الله ثم تمثل بأبيات حسان:
    إذا تذكرت شجوًا من أخي ثقة * فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
    خير البرية أتقاها وأعدلها * إلا النبي وأوفاها بما حملا
    الثاني التالي المحمود مشهده * وأول الناس حقًّا صدَّقَ الرسلا
    وورد في قصة إسلامه رضي الله عنه أنه رأى يومًا في منامه وهو في الشام أن الشمس والقمر نزلا في حِجره فأخذهما بيده وضمهما إلى صدره وأسبل عليهما رداءه، ثم انتبه من نومه فذهب إلى راهب يسأله عن الرؤيا. فقال الراهب: من أين أنت؟ قال: من مكة. فقال: وما شأنك؟ قال: التجارة. فقال له الراهب: "يخرج في زمانك رجلٌ يقال له محمد الأمين تتبعه ويكون من قبيلة بني هاشم وهو نبي ءاخر الزمان، وأنت تدخل في دينه وتكون وزيره وخليفته من بعده، قد وجدتُ نعته وصفته في التوراة والزبور". فلما سمع سيدنا أبو بكر رضي الله عنه صفة النبي ونعته صلى الله عليه وسلم رقّ قلبه واشتاق إلى رؤيته.
    وما لبث أبو بكر رضي الله عنه أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم فكان أول من أسلم من الرجال.

    مناقبه وفضائله

    عن أسماء بنت أبي بكر قالت: جاء الصريخ إلى أبي بكر فقيل له: أدرك صاحبك. فخرج من عندنا وإن له غدائر، فدخل المسجد وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم، قال: فلهوا عن رسول الله وأقبلوا إلى أبي بكر فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئًا من غدائره إلا جاء معه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، أورده ابن الجوزي في صفة الصفوة.
    وذكر أهل العلم والتواريخ والسير أن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وجميع المشاهد، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، ودفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته العظمى يوم تبوك، وأنه كان يملك يوم أسلم أربعين ألف درهم فكان يعتق منها ويقوي المسلمين ولم يشرب الخمرة لا في الجاهلية ولا في الإسلام وهو أول من جمع القرءان.
    وذكر محمد بن إسحاق أنه أسلم على يده من العشرة المبشرين خمسة هم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم.
    وقد كان أبو بكر رضي الله عنه رجلا بكّاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرءان، وكان أفضل الصحابة وأذكاهم. ومن فضائله رضي الله عنه ما شهد به عمر بن الخطاب حيث قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدّق ووافق ذلك مالاً عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، قال فجئت بنصف مالي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقلت: "لا أسابقك إلى شىء أبدًا" أخرجه الترمذي.
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر"، فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله. وعن أنس قال "لما كان ليلة الغار قال أبو بكر: يا رسول الله دعني أدخل قبلك فإن كان حية أو شىء كانت لي قبلك. قال: "ادخل" فدخل أبو بكر فجعل يلتمس بيديه كلما رأى جحرًا قال بثوبه (أخذ بثوبه) فشقه ثم ألقمه الجحر. حتى فعل ذلك بثوبه أجمع قال: فبقي جحر فوضع عَقِبه عليه، ثم أدخلَ رسول الله فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "فأين ثوبك يا أبا بكر"؟ فأخبره بالذي صنع فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة". فأوحى الله إليه أن الله تعالى قد استجاب لك. أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/33).
    وعن الزهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: هل قلت في أبي بكر شيئًا؟ فقال: نعم، فقال: قل وأنا أسمع فقال:
    وثاني اثنين في الغار المنيف وقد * طاف العدو به إذ أصعد الجبلا
    وكان حب رسول الله قد علموا * من البرية لم يعدل به رجلا
    فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: "صدقت يا حسان هو كما قلت"، أورده ابن الجوزي في "صفة الصفوة".
    وعن قيس قال: اشترى أبو بكر بلالاً وهو مدفون في الحجارة بخمس أوراق ذهبًا فقالوا: لو أبيت إلا أوقية لبعناك، فقال: لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته.

    ورعه رضي الله عنه

    وقد أورد ابن الجوزي في "صفة الصفوة" قال: عن زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر الصديق مملوك فأتاه ليلة بطعام فتناول منه لقمة فقال له المملوك: مالك كنت تسألني كل ليلة لم تسألني الليلة؟ قال: حملني على ذلك الجوع، من أين جئت بهذا؟ قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت لهم فوعدوني فلما أن كان اليوم مررت بهم فإذا عرس لهم فأعطوني فقال: أف لك كدت تهلكني فأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ وجعلت لا تخرج فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء فدعا بعس من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها فقيل له: يرحمك الله كل هذا من أجل هذه اللقمة؟ فقال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به" فخشيت أن ينبت شىء من جسدي من هذه اللقمة، وهذا من ورعه رضي الله عنه.

    توليه الخلافة

    بُويع رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك حين ذهب هو وعمر وبعض الصحابة ليتشاوروا في أمر الخلافة حتى قال عمر لأبي بكر: أبسط يدك. فبسط يده فبايعه ثم بايعه المهاجرون ثم الأنصار ثم كانت البيعة العامة في اليوم التالي.
    عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما وُلي أبو بكر الخلافة خطب الناس فحَمِد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "أما بعد أيها الناس قد وُليتُ أمركم ولستُ بخيركم، ولكن الله أنزل القرءان وسنَّ النبيُ صلى الله عليه وسلم السنن فعلمنا، اعلموا أن أكيس الكيس التقوى، وأن أحمق الحمق الفجور. إن أقواكم عندي الضعيف حتى ءاخذ له بحقه، وإن أضعفكم عندي القوي حتى ءاخذ منه الحق، أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنتُ فأعينوني وإن زغتُ فقوِّموني".
    والمعلوم أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عظمت مصيبة المسلمين حيث كثر النفاق وارتدت بعض القبائل والبعض امتنع عن أداء الزكاة، فأسرع أبو بكر الصديق رضي الله عنه لمداركة هذا الأمر العظيم فأمر بتجهيز الجيوش لقتال أهل الردة ومن منع الزكاة وقُتل مسيلمة الكذاب الذي ادّعى النبوة، وهرب طليحة بن خويلد إلى أرض الشام وكان ادعى النبوة أيضًا ثم أسلم في عهد عمر بن الخطاب، واستشهد من الصحابة نحو سبعمائة رجل أكثرهم من القرّاء، كما جهز رضي الله عنه الجيوش لفتح بلاد الشام.

    استخلافه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما
    أخرج ابن سعد والحاكم عن ابن مسعود قال: افرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين استخلف عمر، وصاحبة موسى حين قالت: استأجره، والعزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: أكرمي مثواه.
    وروي أن أبا بكر لما ثقل دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبو بكر: وإن، فقال عبد الرحمن بن عوف: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر فقال: أنت أخبرنا به، فقال: على ذلك. فقال اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته وأنه ليس فينا مثله، وشاور معهما سعيد بن زيد وأسيد بن الحضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار.
    وأخرج ابن عساكر عن يسار بن حمزة قال: لما ثقل أبو بكر أشرف على الناس من كوة فقال: أيها الناس إني قد عهدت عهدًا، أفترضون به، فقال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله، فقام عليٌّ فقال: لا نرضى إلا أن يكون عمر، قال: فإنه عمر، ذكر ذلك السيوطي في "تاريخ الخلفاء".

    وفاته

    مرض رضي الله عنه ثم توفي في السنة الثالثة عشرة عن ثلاث وستين سنة، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وثلاثة عشر يومًا. ودفن في بيت عائشة ورأسه عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان أوصى بذلك، وارتجت المدينة بالبكاء ودهش القوم.
    ولما توفي جاء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه باكيًا مسرعًا مسترجعًا حتى وقف بالباب وقال: يرحمك الله أبا بكر لقد كنت والله أول القوم إسلامًا، صدّقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وسمَّاك الله في كتابه صديقًا فقال: {والذي جاء بالصدق وصدّق به} (سورة الزمر/33).
    قال أهل السير: توفي أبو بكر ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمان ليالٍ بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشر من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة وأوصى أن تغسله زوجته وأن يدفن إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصلى عليه عمر بين القبر والمنبر ونزل في حفرته ابنه عبد الرحمن وعمر وعثمان وطلحة بن عبيد الله.
    توفي الصدّيق وله من الولد: عبد الله وأسماء ذات النطاقين وعبد الرحمن وعائشة ومحمد وأم كلثوم.
    اللهم احشرنا مع زمرة الصدّيقين وثبتنا على اتباعهم وأمِتْنا على محبتهم.

    تعليق


    • #3
      عثمان بن عفان رضي الله عنه ثالث الخلفاء الراشدين

      عثمان بن عفان رضي الله عنه ثالث الخلفاء الراشدين


      ترجمته


      هو أبو عبد الله بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي وأمه أروى بنت كُرَيْز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف.
      وُلد بالطائف بعد الفيل بست سنين دخل في الإسلام على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وعمره حينئذ تسع وثلاثون سنة وكان هذا قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم فسيدنا عثمان رضي الله عنه من السابقين الأولين الذين ذكرهم الله تعالى في القرءان بقوله {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} (سورة التوبة/ءاية 100) وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث واحد وفي سياق واحد: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعلي في الجنة وعثمان في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة وسعيد بن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة". رواه الإمام أحمد في مسنده.
      وكان رضي الله عنه أول من هاجر بأهله وقد هاجر الهجرتين الأولى إلى الحبشة والثانية إلى المدينة المنورة وهو أول من طيَّبَ المسجد وأول من زاد أذانًا ثانيًا يوم الجمعة وأول من أعطى أجرة للمؤذنين وأول من فَوَّضَ إلى الناس إخراج زكاتهم وأول من وُلّيَ الخلافة في حياة أمه وأول من اتخذ صاحب شرطة.
      وقد شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها إلا بدرًا لأن زوجته رقية كانت مريضة فأمره صلى الله عليه وسلم أن يقيم بالمدينة ليمرضها وعدَّه الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل بدر وأسهم له في غنائمها.

      ذكر زوجاته وأولاده

      قبل نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عثمان رضي الله عنه ابنة النبيّ صلى الله عليه وسلم رقية وقد هاجرت معه إلى الحبشة وماتت عنده في ليالي بدر وهي التي ولدت له عبد الله فصار يكنى بأبي عبد الله بعد أن كان يكنى بأبي عَمْرو ثم زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم من ابنته أم كلثوم وبقيت عنده إلى أن ماتت سنة تسع للهجرة وبهذا سُمّي رضي الله عنه بذي النورين لأنه تزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      وتزوج رضي الله عنه فاختة بنت غزوان فولدت له عبد الله الأصغر وتزوج أم عمرو بنت جندب الدَّوْسِيّة فولدت له عَمْرًا وخالدًا وأبانًا وعُمَر ومريم وتزوج فاطمة بنت الوليد بن المغيرة فولدت له الوليد وسعيدًا وأم سعيد وتزوج أم البنين بنت عيينة الغزارية فولدت له عبد الملك وتزوج رملة بنت شيبة فولدت له عائشة وأم أبان وأم عَمرو وتزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية فولدت له مريم وقيل إنها ولدت له عَنْبسة وأختًا لها تسمى أم البنين.

      ذكر صفاته الخَلْقِية

      كان رضي الله عنه رَبْعَة أي معتدل القامة ليس طويلاً ولا قصيرًا حسن الوجه أبيض مشربًا بحمرة رقيق البشرة، عظيم الكراديس أي مفاصل عظامه كانت عظيمة بعيد ما بين المنكبين كثير شعر الرأس عظيم اللحية.

      نبذة من شمائله وفضائله

      لقد جعل كثير من أهل التراجم والسير فصولاً تتناول مناقبه رضي الله عنه حتى إن الترمذي رحمه الله ألَّف كتابًا خاصًا به سَمَّاه "مناقب عثمان".
      ومن ذلك ما رواه مسلم في فضائل عثمان وأحمدُ في مسنده عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسًا كاشفًا عن فخذه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله ثم استأذن عمر وهو على حاله ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه، فلما قاموا قلت: يا رسول الله استأذن عليك أبو بكر وعمر فأذنت لهما وأنت على حالك فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك فقال: "يا عائشة ألا أستحيي من رجل، واللهِ إن الملائكة لتستحيي منه".
      وروى ابن الجوزي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان مع النبي في حائط من حيطان المدينة فجاء رجل يستفتح فقال النبي: "افتح له وبشره بالجنة" ففتحت فإذا أبو بكر فبشرته بالجنة، ثم استفتح رجل ءاخر فقال: "افتح وبشره بالجنة" فإذا عمر ففتحت وبشرته بالجنة ثم استفتح رجل ءاخر وكان متكئًا، فجلس فقال: "افتح له وبشّره بالجنة على بلوى تصيبه" فإذا عثمان ففتحت له وبشّرته بالجنة فأخبرته بالذي قال فقال: الله المستعان.
      وأخرج البخاري في فضائل الصحابة ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد بن حنبل أن جبل أُحُد ارتجَّ وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسكن أُحد، فما عليك إلا نبي وصدّيق وشهيدان".
      وفي تاريخ ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوَّل الليل إلى أن طلع الفجر رافعًا يديه يدعو لعثمان: "اللهم عثمان رضيتُ عنه فارضَ عنه".
      وروى الحافظ أبو نُعيم الأصفهاني في كتابه "حلية الأولياء" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "اشترى عثمان بن عفان من رسول الله الجنة مرتين، حين حفر بئر رُومة وحين جهز جيشَ العُسْرة".
      وكانت بئر رُومة يباع ماؤها للمسلمين فاشتراها عثمان رضي الله عنه وحفرها وجعلها عامة للمسلمين. ولا تزال إلى الآن معروفة في المدينة المنوّرة.
      وتفصيل حادثة تجهيز جيش العسرة في ما رواه الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب السلمي قال: خطب النبي فحث على جيش العسرة فقال عثمان: عَلَيَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها ثم حَثَّ فقال عثمان عَلَيَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال السُّلميُّ: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بيده يحركها: "ما على عثمان ما عمل بعد هذا".
      وفي رواية للحاكم النيسابوري رحمه الله تعالى عن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلّبها ويقول: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم" مرتين.
      وأخرج صاحب "حلية الأولياء" عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان يوم جيش العسرة جائيًا وذاهبًا فقال: "اللهم اغفر لعثمان ما أقبل وما أدبر، وما أخفى وما أعلن، وما أَسَرَّ وما أجهر".
      كما روى الطبراني عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عثمان أحيَا أمتي وأكرمها".

      جمعُه القرءان الكريم

      ذكر البخاري في صحيحه مبدأ أمر جمع القرءان في مصحف واحد وهو أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أرسل إلى زيد بن ثابت وهو من كتبة الوحي فأتاه زيد فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عنده فقال الصديق رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استَحَرَّ يوم اليمامة بقُرَّاء القرءان (أي كَثُر) وإني أخشى إن استحرَّ القتل بالقرّاء بالمواطن فيذهب كثير من القرءان وإني أرى أن تأمر بجمع القرءان. فقال زيد لعمر رضي الله عنه: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: هذا والله خير. قال زيد: "فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر". وتتبع زيد بن ثابت رضي الله عنه القرءان فصار يجمعه من العُسُبِ واللخاف (وهي الحجارة البيضاء الرقيقة) وصدور الناس، وكانت في صحف عديدة جمعت عند أبي بكر رضي الله عنه حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.
      ولمَّا بويع عثمان رضي الله عنه بالخلافة استشار الصحابة فكان الرأي أن يجمع القرءان في مصحف واحد، فجمع عثمان رضي الله عنه عددًا من الصحابة، قال أبو داود: كانوا اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار وكان بينهم من كتب الوحي وأرسل إلى حفصة بنت عمر رضي الله عنها يطلب منها الصحف التي جمعها زيد بن ثابت ثم نسخها في كتاب واحد.
      وفي "فتح الباري" لابن حجر العسقلاني أن عثمان رضي الله عنه قال: من أكْتَبُ الناس؟ قالوا: زيد بن ثابت، قال: فأي الناس أفصح؟ قالوا: سعيد بن العاص، فقال: فَلْيُمْلِ سعيد وليكتب زيد.
      ولمَّا انتهوا من نسخ المصحف جعل منه نُسخًا وأرسلها إلى الأمصار وقد اختلف في عدد النسخ هذه، فمنهم من قال: هي أربعة ومنهم من قال: خمسة وقيل: ستة وسبعة ثم جمع ما سوى هذه النسخ من القرءان فأحرقها وأمر إلى أهل الأمصار بذلك.
      وقد كان جَمْعُ عثمان رضي الله عنه للقرءان لمّا كثر الاختلاف في وجوه القراءات على اختلاف لغات العرب فتنازع أناس وخطَّأ بعضهم بعضًا، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك حتى جمعه على لغة قريش، ولا يعني ذلك منع قراءته بلغات العرب الأخرى وذلك أنه جاء في صحيح البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرءان أُنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه".

      ثناء الناس عليه رضي الله عنه

      قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان عثمان من الذين: {ءامنوا وعملوا الصالحات ثم اتَّقَوا وءامنوا ثم اتَّقَوْا وأحسنوا والله يحب المحسنين} (سورة المائدة/ءاية 93) ذكره الأصفهاني في "حلية الأولياء".
      وروى الإمام أحمد رضي الله عنه عن رُهَيْمَة جدة الزبير بن عبد الله أنها قالت: كان عثمان يصوم الدهر ويقوم الليل إلا هجعة من أوله.
      وقال ابن سيرين رحمه الله: "قالت امرأة عثمان بن عفان رضي الله عنه حين أطافوا يريدون قتله: إن تقتلوه أو تتركوه فقد كان يحيي الليل كله في ركعة يجمع فيها القرءان" رواه ابن الجوزي.
      وأخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن مهدي قال: خصلتان لعثمان ليستا لأبي بكر ولا لعمر رضي الله عنهم: صبره على نفسه حتى قُتِلَ مظلومًا وجمعه الناس على المصحف.

      تواضعه

      إضافة إلى ما اجتمع في سيدنا عثمان رضي الله عنه من الخصال المرضية والصفات السَّنِيَّة من حلم وعلم وكرم وجود وحياء وصفاء وورع وزهد كان من أشد الناس تواضعًا.
      أخرج ابن سعد عن عبد الله الرومي قال: كان عثمان يلي وضوء الليل بنفسه فقيل له: لو أمرتَ بعض الخدم فكفوك، قال: لا، الليل لهم يستريحون فيه.
      وروى الإمام أحمد أن الحسن رضي الله عنه سُئِلَ عن القائلين في المسجد (أي الذين ينامون أو يستلقون في المسجد عند منتصف النهار) فقال: رأيت عثمان بن عفان يَقِيلُ في المسجد وهو يومئذ خليفة وأثر الحصى بجنبه فيقال: هذا أمير المؤمنين هذا أمير المؤمنين. وعن شرحبيل بن مسلم أنه قال: كان عثمان رضي الله عنه يُطعم الناس طعام الإمارة ويَدخل بيته فيأكل الخل والزيت.

      ذكر خلافته

      بعد دفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثلاث ليال بويع سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بالخلافة يوم الإثنين لليلة بقيت من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة واستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين وعاش في الخلافة اثنتي عشرة سنة وكان خاتمه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر رضي الله عنهم.
      وفي خلافته رضي الله عنه غزا المسلمون ففتحوا الكثير من البلاد فتوسعت بهم بلاد الإسلام ومن هذه البلاد التي افتتحت جزيرة قبرص وكَرْمَان وسِجِسْتَان وكابُل وبلاد أخرى في أفريقية.

      قصة استشهاده وما جرى عليه

      لمّا تمت الفتوحات للأمة الإسلامية وقَوِيَ الملك في الأمصار واختلطت العرب بالأمم والأقوام المختلفة اللغات وكثر الطعن والقيل والقال في المدينة المنورة كتب رؤساء الفتنة إلى جماعتهم في الأمصار يستقدمونهم إلى المدينة إرادة الفتنة والمكيدة للخليفة فحاصروه في بيته أيامًا، وكان سيدنا عثمان رضي الله عنه يقول: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إليَّ عهدًا فأنا صابرٌ عليه" رواه الترمذي في مناقب عثمان.
      فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا عثمان إنه لعل الله يُقَمّصُكَ قميصًا (أي الخلافة)، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني" أخرجه الحاكم والترمذي.
      فلمّا بلغ سيدنا عليًا رضي الله عنه أن أصحاب الفتنة حاصروا عثمان ومنعوه الماء وأرادوا قتله، أرسل إليه بثلاث قرب مملوءة بالماء وقال للحسن والحسين: اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحدًا يصل إليه وبعث الزبيرُ ابنه وبعث طلحةُ ابنه وبعث عدة من الصحابة أبناءهم يمنعون الناس من أن يدخلوا على عثمان رضي الله عنه.
      ولكن رجالاً من الذين أرادوا بسيدنا عثمان شرًّا تَسَوَّروا من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا عليه وكان يقرأ القرءان وهو صائم، فضربه أحدهم بالسيف فأكبَّت عليه نائلة زوجته فَقُطِعَت أصابع يدها ولم يكن مع عثمان رضي الله عنه سواها في الدار، فقتل شهيدًا رضي الله تعالى عنه يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة خلت من شهر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين للهجرة، وعمره تسعون وقيل أكثر من ذلك وقيل أقل ودفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء بمقبرة البقيع بالمدينة المنورة وصلى عليه الزبير.
      وقد قال سيدنا عثمان رضي الله عنه قبل قتله: إني رأيت البارحة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأبا بكر وعمر فقالوا: اصبر فإنك تُفطر عندنا القابلة.
      وقد أورد ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ" أبياتًا لحسان بن ثابت الأنصاري في الذين قدموا المدينة من مصر واجتمعوا على قتله:

      أتركتم غـزو الدروب وراءكم * وغزوتمونا عند قبر محمد
      فلبئس هديُ المسلمين هديتُمُ * ولبئس أمرُ الفاجرِ المتعــمدِ
      إن تقدموا نجعل قرى سَرَواتكم * حول المدينة كُلَّ لَين مـذودِ
      أو تدبروا فلبئس ما سفرتُمُ * ولَمِثْلُ أمر أميركـــم لم يَرْشَدِ
      وكأن أصحاب النبي عشية * بُدْنٌ تُـذَبَّحُ عند باب المسجــدِ
      أبكي أبا عمرو لحسن بلائه * أمسى ضـجيعًا في بقيع الغرقد

      وبعد فإنما هذا غيض غائض من فيض فائض من بحر فضائل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا ونفعنا ببركته وحشرنا في زمرته وأماتنا على سنته ومحبته، إنه سبحانه على ما يشاء قدير وبعباده لطيف خبير.

      تعليق


      • #4
        علي بن أبي طالب رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين

        علي بن أبي طالب رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين
        ترجمته

        هو سيدنا أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره وأبو السبطين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة وأول من أسلم من الصبيان، علَم من أعلام الدين ومن أبرز المجاهدين والشجعان وقدوة للزاهدين ومن أشهر الخطباء والمفوهين والعلماء العاملين أمُّه فاطمة بنت أسد بن هاشم. وُلد قبل البعثة بعشر سنين وتربى في حجر النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفي بيته وكان يلقب حيدرة وقيل إن أمه هي التي سمته حيدرة. وأما تسميته بأبي تراب فإن رسول الله هو الذي سمّاه أبا تراب ولهذه التسمية قصة وهي أنّ الرسول دخل على فاطمة فسألها عن علي: "أين ابن عمِك"، قالت: هو ذاك مضطجع في المسجد فجاءه رسول الله فوجده قد سقط رداؤه عن ظهره فجعل يمسح التراب عن ظهره ويقول: "اجلس أبا تراب"، فوالله ما سمّاه به إلا رسول الله ووالله ما كان له اسم أحبَّ إليه منه.
        وفي رواية أخرى أنه في غزوة العُشيرة سماه الرسول أبا تراب وكان خارج المسجد، وقال له: "قم أبا تراب، ألا أخبرك بأشقى الناس أحمر ثمود عاقر الناقة، والذي يضربك على هذا، (يعني قرنه) فيخضب هذه منها (وأخذ بلحيته)". كفله النبي قبل أن يوحى إليه لأن قريشًا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب كثير العيال قليل المال فأخذ الرسول عليًّا وضمّه إليه وأخذ العباس جعفرًا وضمّه إليه تخفيفًا عن أبي طالب.

        وصفه


        كان رضي الله عنه رجلاً رَبْعةً أميل إلى القِصر ءادم اللون عريض اللحية أبيضها لا يخضبها وقد خضبها مرة بالحنّاء ثم تركها، أصلع على رأسه زغيبات ضخم البطن ضخم مُشاشة المنكب ضخم عضلة الذراع دقيق مستدقها حسن الوجه ضخم عضلة الساق دقيق مستدقها عظيم العينين أدعجهما ورؤي على عينيه أثر الكحل شـثن الكفين كثير الشعر ضحوك السن من أشجع الصحابة وأعلمهم قضاء ومن أزهدهم في الدنيا لم يسجد لصنم قط، إذا مشى تكفأ شديد الساعد واليد ثبت الجنان ما صارع أحدًا إلا صرعه شجاعًا منصورًا على من لاقاه.
        وقد روي أن معاوية قال لضرار الصدائي: صف لي عليًّا فقال: أعفني قال: لتصِفَنَّه. قال: إذ لا بد من وصفه كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلاً ويحكم عدلاً يتفجّر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس إلى الليل ووحشته وكان غزير العبرة طويل الفكرة كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ونحن من تقريبه إيّانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظّم أهل الدين ويقرّب المساكين ولا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضًا على لحيته يتململ تململ السقيم ويبكي بكاء الحزين ويقول يا دنيا غري غيري إليّ تعرضت أم إليّ تشوفت؟ هيهات قد طلقتك ثلاثًا لا رجعة فيها فعمرك قصير وخطرك قليل ءاه ءاه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق، فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا حسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح واحدها في حجرها.

        لباسه


        عن خالد بن أمية قال: رأيت عليًّا وقد لحق إزاره بركبتيه وعن عبد الله بن أبي الهذيل قال: رأيت عليًّا عليه قميص رازيّ، إذا مدّ كمه بلغ الظفر، فإذا أرخاه بلغ نصف ساعده.
        وكان يلبس إزارًا مرفوعًا، فقيل له، فقال: يُخشّعُ القلب ويقتدي به المؤمن، ورؤي رضي الله عنه وعليه إزار إلى نصف الساق، ورداء مشمّر قريب منه ومعه دِرّة له يمشي بها في الأسواق ويأمرهم بتقوى الله وحسن البيع ويقول: أوفوا الكيل والميزان، ويقول: لا تنفخوا اللحم. وكان يتعصّب بعصابة سوداء. ويلبس عمامة سوداء، وقبله حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام. لبس يوم فتح مكة عمامة سوداء أرخى عذبتها بين كتفيه الشريفين.
        وكان سيدنا علي يتختم في يساره، وكان نقش خاتمه "محمد رسول الله" ونقش على خاتمه أيضًا "لله الملك".

        زهده وتقشفه وورعه


        روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "إنّ الله قد زيّنك بزينة لم يزين العباد بزينة أحبَّ منها، هي زينة الأبرار عند الله، الزهد في الدنيا. فجعلك لا ترزأ من الدنيا "أي لا يصيب من الدنيا" ولا ترزأ الدنيا منك شيئًا، ووصب لك المساكين "أي أدام لك المساكين" فجعلك ترضى بهم أتباعًا ويرضون بك إمامًا".
        وجاءه ابن التياح فقال: يا أمير المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء. فقال: الله أكبر فقام متوكئًا على ابن التياح حتى قام على بيت المال وهو يقول: يا صفراء ويا بيضاء غُري غيري، هاء وهاء، حتى ما بقي فيه دينار ولا درهم. ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين.
        وروي أنه دخل مرة بيت المال فرأى فيه شيئًا، فقال: لا أرى هذا هنا وبالناس حاجة إليه، فأمر به فقُسّم، وأمر بالبيت فكنس، ونَضح فصلى فيه أو نام فيه.
        وصعد رضي الله عنه يومًا المنبر، وقال: من يشتري مني سيفي هذا، فلو كان عندي ثمن إزار ما بعته، فقام إليه رجل وقال: أسلفك ثمن إزار.
        واشترى مرة تمرًا بدرهم فحمله في ملحفته فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك فقال: أبو العيال أحق بحمله. وعوتب في لباسه، فقال: مالكم وللباسي هذا هو أبعد من الكبر وأجدر أن يقتدي به المسلم.

        كراماته


        عن الأصبغ قال: أتينا مع عليّ فمررنا على قبر الحسين فقال عليّ: ههنا مناخ ركائبهم وههنا موضع رحالهم، وههنا مهراق دمائهم، فتية من ءال محمد.
        وعن علي بن زاذان، أنَّ عليًّا حدّث حديثًا فكذَّبه رجل، فقال علي: أدعو عليك إن كنتُ صادقًا، قال: نعم، فدعا عليه فلم ينصرف حتى ذهب بصره.
        وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعو عليًّا، فأتيت بيته فناديته فلم يجبني فعدت فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال لي: "عد إليه ادعه". قال: فعدت أناديه فسمعت صوت رحى تطحن، فشارفت فإذا الرحى تطحن وليس معها أحد، فناديته فخرج إلي منشرحًا، فقلت له إنّ رسول الله يدعوك. فجاء ثم لم أزل أنظر إلى رسول الله وينظر إليّ. ثم قال: "يا أبا ذر ما شأنك"، فقلت: يا رسول الله عجيب من العجب، رأيت رحى تطحن في بيت عليّ، وليس معها أحد يرحى.
        ومرة عرض لعليّ رجلان في الخصومة فجلس في أصل جدار، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، الجُدُر تقع فقال علي: امض كفى بالله حارسًا. فقضى بين الرجلين وقام فسقط الجدار.
        وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أقضى أمتي علي"، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أقضانا علي بن أبي طالب، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نتحدث أنَّ أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب، فعن قوته وإصابته في القضاء قصة تدل على ذلك فيها أنه لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وجد أربعة وقعوا في حفرة يصطاد فيها الأسد، سقط أولاً رجل فتعلق بآخر، وتعلق الآخر بآخر حتى تساقط الأربعة فجرحهم الأسد وماتوا من جراحته، فتنازع أولياؤهم حتى كادوا أن يقتتلوا، فقال عليّ: أنا أقضي بينكم، فإن رضيتم فهو القضاء، وإلا حجزت بعضكم عن بعض حتى تأتوا رسول الله ليقضي بينكم. اجمعوا من القبائل التي حفروا البئر ربع الدية وثلثها ونصفها وكاملها، فللأول ربع الدية لأنه أهلك من فوقه، وللذي يليه ثلثها لأنه أهلك من فوقه، وللثالث النصف لأنه أهلك من فوقه، وللرابع الدية كاملة، فأبوا أن يرضوا، فأتوا رسول الله فلقوه عند مقام إبراهيم فقصوا عليه القصة، فقال: أنا أقضي بينكم. فقال رجل من القوم: إنّ عليًّا قضى بيننا، فلما قصوا عليه القصة أجازه.
        وروي عنه رضي الله عنه: أنه قضى بين اثنين يتغديان، ومع أحدهما خمسة أرغفة، والآخر ثلاثة أرغفة، وجلس إليهما ثالث واستأذنهما في أن يصيب من طعامهما فأذنا له، فأكلوا على السواء، ثم ألقى إليهما ثمانية دراهم وقال: هذا عوض ما أكلت من طعامكما، فتنازعا في قسمتها فقال صاحب الخمسة: لي خمسة ولك ثلاثة، وقال صاحب الثلاثة: بل نقسمها على السواء، فترافعا إلى عليّ رضي الله عنه فقال لصاحب الثلاثة: اقبل من صاحبك ما عرض عليك، فأبى وقال: ما أريد إلا مرَّ الحق. فقال عليّ: لك في مرّ الحق درهم واحد وله سبعة. قال: وكيف ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن الثمانية أربعة وعشرون ثلثًا، لصاحب الخمسة خمسة عشر ولك تسعة، وقد استويتم في الأكل، فأكلت ثمانية وبقي لك واحد، وأكل صاحبك ثمانية وبقي له سبعة، وأكل الثالث ثمانية، سبعة لصاحبك وواحد لك، قال: قد رضيت الآن.

        الأحاديث الواردة في فضله


        روى أحمد والحاكم وغيرهما: أن الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: "من سبَّ عليًّا فقد سبَّني، ومن سبَّني فقد سبَّ الله" فالذي يسبُّ عليًّا ويبغضه ولا يحبه يكون فاسقًا وهذا تحذير من سبّ عليّ. ومعنى "فقد سبني": كأنه سبّني.
        وقد روى مسلم وغيره أنَّ سيدنا عليًّا قال: إنه لعهد النبي الأمّي إليَّ أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. فإذا كان سباب المسلم فسوقًا فكيف بمن يسب عليًّا عليه السلام.
        وفي صحيح مسلم ما نصه: عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدًا فقال: ما يمنعك أن تسبَّ أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثًا قالهن له رسول الله فلن أسُبَّه، لأن يكون لي واحدة منهن أحبّ إليَّ من حمر النَّعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له حين خلفه في بعض مغازيه فقال له علي: يا رسول الله خلّفتني مع النساء والصبيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي"، وسمعته يوم خيبر يقول: "لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله"، قال فتطاولنا لها فقال: "ادعو لي عليًا"، فأتى به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية له، ففتح الله عليه. ولما نزلت هذه الآية: {فقل تعالوا ندعُ أبنآءنا وأبنآءكم} (سورة ءال عمران/ءاية 61) دعـا رسول الله عليًّا وفاطمة وحسنًا وحسينًا فقال: "اللهم هؤلاء أهلي" ورواه أيضًا النسائي.
        وروى الحاكم رحمه الله في المستدرك عن رفاعة بن إياس الضبي عن أبيه عن جده قال: كنا مع عليّ يوم الجمل، فبعث إلى طلحة بن عبيد الله أن القني، فأتاه طلحة فقال: نشدتك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" قال: نعم، قال: فلم تقاتلني؟ قال: لم أذكر، قال: فانصرف طلحة. ثم قتله مروان بن الحكم وهو منصرف.
        قال أبو عمر بن عبد البر: "لا يختلف العلماء والثقات في أنّ مروان قتل طلحة".
        ويكفيه فضلاً أيضًا حديث: "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها" وأيضًا شرف أنه أول من أسلم من الصبيان، وفضل أنه نزل قبر الرسول لما مات الرسول ليواريه وشارك في غسله، وغير ذلك من المناقب والفضائل والصفات الحميدة، والأخلاق الحسنة، وأنه مبشر بالجنة من رسول الله.

        شجاعته في الجهاد


        شهد رضي الله عنه الغزوات مع رسول الله، فكان له فيها شأن عظيم، وأظهر شجاعة عجيبة، وأعطاه الرسول اللواء في مواطن كثيرة، فلما غزا رسول الله كزز بن جابر الفهري (غزوة بدر الأولى)، أعطاه لواءه الأبيض، وفي غزوة بدر الكبرى، كان أمام رسول الله رايتان سوداوان، إحداهما مع علي يقال لها العقاب، والأخرى مع بعض الأنصار، وأمره رسول الله أن يبارز في هذه الغزوة الوليد بن عتبة، فبارزه عليّ وقتله.
        وفي غزوة أحد قتل سيدنا علي ثلاثة من أصحاب الألوية ورءوسًا كبيرة عرفت بعدائها للإسلام وكان وقتها في عنفوان شبابه ممتلئًا قوة ونشاطًا وإيمانًا.
        وفي غزوة الخندق لما أقحم بعض المشركين خيلهم وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، ومنهم عمرو بن عبد ود العامري، وكان من أقوياء العرب المشهورين وكان وقتئذ كبير السن، فلما وقف هو وخيله، قال له سيدنا علي: أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. فقال: فإني أدعوك إلى النزال قال: ولم يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك. قال علي: ولكني والله أحبُّ أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه فعقره ثم أقبل على عليّ فتنازلا وتجادلا فقتله عليّ رضي الله عنه، وخرجت خيله منهزمة وهذه شجاعة نادرة من أبي الحسن.
        وفي غزوة خيبر معروف عند أهل السير قتله لمرحب زعيم حربي من زعماء اليهود، ضربه سيدنا علي على هامته، حتى عضّ السيف منها بأضراسه، وسمع أهل المعسكر ضربته، ثم لما وقع الترس من سيدنا عليّ أخذ بابًا عند الحصن فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو مقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده حين فرغ، وكان ذاك الباب يحتاج لثمانية رجال حتى يقلبوه ليس لحمله، كما ذكر ذلك أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
        وسيدنا علي هو الذي قتل الحويرث بن نقيد الذي أهدر دمه رسولُ الله وكان يهجو رسول الله، ويكثر أذاه وهو بمكة.
        وفي غزوة حنين كان رضي الله عنه ثابتًا مع من ثبت من المسلمين مع رسول الله كما ثبت في أحد وغيرها وكلما راجعنا السّير والغزوات وجدنا اسم عليّ رضي الله عنه لألاء مضيئًا قضى عمره مجاهدًا مدافعًا عن دين الله. يفتح الحصون المستعصية ويهدم الأصنام إعلاءً لكلمة الله سبحانه وتعالى.

        من أقواله


        ما أكثر العبر وأقل الاعتبار، وما زنى غيور قط. ما أحسن تواضع الأغنياء طلبًا لما عند الله، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالاً على الله سبحانه.
        كفاك أدبًا لنفسك اجتناب ما تكرهه من غيرك. من نظر في عيوب غيره فأنكرها ثم رضيها لنفسه فذلك هو الأحمق بعينه. لا تظنن بكلمة خرجت من أحد سوءًا وأنت تجد لها في الخير محتملاً.

        وفاته


        توفي رضي الله عنه شهيدًا سعيدًا مُبشَّرًا بالجنة ونعيمها، وعمره ستون سنة وكانت خلافته أربع سنوات وتسعة شهور، رضي الله عنه وكرّم وجهه وغفر لنا بجاهه وحشرنا معه ومع الشهداء والصدّيقين والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

        يتبع لاحقاً


        تعليق


        • #5
          رد: رجال وأعلام الأمة

          الزبير بن العوام حَواريُّ النبي صلى الله عليه وسلم

          ترجمته

          هو أبو عبد الله الزبير بن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قُصي بن كلاب، حواريُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، أسلم وهو ابن ثمان سنين مع أمه وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام.
          اتفق البخاري ومسلم على حديثين له، وانفرد له البخاري بأربعة أحاديث، ومسلم بحديث واحد.
          وهاجر الزبير رضي الله عنه إلى الحبشة الهجرتين، ولما فُرضت الهجرة إلى المدينة المنورة هاجر إليها وهو ابن ثماني عشرة سنة.

          مناقبه وفضائله


          كان الصحابي الجليل الزبير بن العوام رضي الله عنه واحدًا ممن سَلَّ سيفه دفاعًا عن رسول الله، ففي "حلية الأولياء" أن الزبير سمع نفحة نفحها الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخِذَ بأعلى مكة، فخرج الزبير رضي الله عنه يشق الناس بسيفه حتى أتى أعلى مكة فلقيه فقال صلى الله عليه وسلم: "ما لك يا زبير" فقال: أُخبرتُ أنك أُخِذتَ، فأتيتُ أضربُ بسيفي من أخذك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكـان بذلـك أول من سَلَّ سيفًـا فـي سبيل الله.
          قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي حواريٌّ وحواريَّ الزبير" وكان الزبير رضي الله عنه ءانذاك كما ذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" ابن اثنتي عشرة سنة وقد قال موسى بن طلحة: كان عليٌّ والزبير وطلحة وسعد عِذار عام واحد أي ولدوا في سنة واحدة وقال المدائني: كان طلحة والزبير وعلي أترابًا وكان عمه يُعلقه ويُدَخّن عليه وهو يقول: لا أرجع إلى الكفر أبدًا.
          شهد الزبير رضي الله عنه الغزوات والمشاهد كلها مع رسول الله وبايعه على الموت في سبيل الله وثبت معه يوم بدر ويوم أُحُد وكانت معه إحدى رايات المهاجرين يوم غزوة الفتح، فلما دخل المسلمون مكة المكرمة يوم الفتح كان الزبير رضي الله عنه على المجَنَّبة اليسرى، وكان المقداد بن الأسود على المجَنَّبة اليمنى، فجاءا بفرسيهما فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجهيهما بثوبه وقال: "إني قد جعلت للفرس سهمين وللفارس سهمًا، فمن نَقَصَهما نَقَصَه الله".
          ولما كانت غزوة بدر الكبرى كان على الزبير عمامة صفراء فنزل جبريل والملائكة على سيماء الزبير، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد عن عمرو بن عاصم الكلابي عن هَمّام عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت على الزبير رَيطة صفراء مُعتجرًا بها يوم بدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة نزلت على سيماء الزبير".
          وفي البخاري ومسلم وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: "من يأتيني بخبر القوم" فقال الزبير: أنا، فأعادها النبي صلى الله عليه وسلم ثانية وثالثة والزبير يقول: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينئذٍ: "لكل نبي حواريٌّ وحواريّ الزبير".
          وفي "سير أعلام النبلاء" للذهبي عن يونس بن بُكَير عن هشام عن أبيه عن الزبير أنه قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "لكل نبي حواريٌّ وحواريَّ الزبير وابن عمتي". وقد أخرجه ابن سعد في طبقاته وصححه الحاكم في مستدركه. والحواريُّ في اللغة هو الناصر أو ناصر الأنبياء كما ذكر صاحب القاموس وقال مصعب الزُبيري: هو الخالص من كل شىء وقال الكلبي: الحواريُّ: الخليل.
          وفي طبقات ابن سعد بالإسناد عن هشام بن عروة أن غلامًا مر بابن عمر فسئل من هو فقال: أنا ابن حَواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عمر: إن كنتَ من ولد الزبير وإلا فلا فسئل ابن عمر: هل كان أحد يقال له حواريُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غير الزبير؟ فقال: لا أعلمه.

          وفاته


          كانت وفاته رضي الله عنه يوم الجمل عند مُنْصَرَفه تائبًا من قتال أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان ذلك سنة ست وثلاثين للهجرة.
          وجاء في سبب مقتله في مستدرك الحاكم عن قيس بن أبي حازم قال: قال عليّ للزبير: "أما تذكر يوم كنت أنا وأنت في سقيفة قوم من الأنصار فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتُحبُّهُ" فقلت: ما يمنعني قال: "أما إنك ستخرج عليه وتقاتله وأنت ظالم". قال: فرجع الزبير.
          وقال صاحب "العقد الثمين": "وكان الزبير رضي الله عنه قد انصرف عن القتال نادمًا".
          وبعد انصرافه نادمًا عن معسكر معاوية بن أبي سفيان لحقه عمرو بن جُرموز فقتله في وادي السباع على سبعة فراسخ من البصرة وأخذ رأسه إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فاستأذن عليه فقال الإمام علي: بشروه بالنار، وفي رواية أخرى أنه قال: بشروا قاتل ابن صفية بالنار.
          وقد روى الذهبي بالإسناد عن أبي جروٍ المازني أنه قال: شهدتُ عليًّا والزبير حين توافقا، فقال عليّ: يا زبير، أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنك تقاتلني وأنت لي ظالم قال: نعم، ولم أذكره إلا في موقفي هذا، ثم انصرف؛ قال يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: انصرف الزبير يوم الجمل عن علي فلقيه ابنه عبد الله فقال: جُبنًا جُبنًا، فقال الزبير: قد علم الناس أني لست بجبان ولكن ذَكَّرني عليٌّ شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلفت أن لا أقاتله ثم قال:
          ترك الأمور التي أخشى عواقبها * في الله أحسن في الدنيا وفي الدينِ
          وفي "الوافي بالوفيات" للصفدي أن ابن جرموز حين بَشَّره الإمام علي رضي الله عنه بالنار قال أبياتًا هي:
          أتيت عليًّا برأس الزبير* وأرجو لديه من الـزُّلفه
          فبشَّر بالنار إذ جئتُهُ* فبئس البـشارةُ والتحـفـه

          ولم يَدَع الزبير رضي الله عنه دينارًا ولا درهمًا، إلا أرضين بالغابة وأربع دُور بالمدينة والبصرة والكوفة ومصر، وكان عليه ديون سببها أن الرجل كان يجيء بالمال ليستودعه إياه فيقول له: لا ولكن هو سلف، إني أخشى عليه الضيعة. وقَدَّر ابنه عبد الله ما عليه من الدَين فبلغ ألفي ألف ومئتي ألف فباع أرضه التي بالغابة ونادى بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا لنقضه فلما مضت السنون الأربع قَسَّم الأموال المتبقية بين الورثة.
          واشتهر عن حسان بن ثابت أبيات قالها في الزبير هي:

          أقام على عهد النبي وهـديه * حَواريُّهُ والقـول بالفعــل يُعدَلُ
          أقام على منهاجه وطريقه * يُـوالي وليَّ الحـق والحق أعـدلُ
          هو الفارس المشهور والبطل الذي * يصول إذا مـا كـان يوم محجَّلُ
          إذا كشفت عن ساقها الحرب حَشَّها * بأبيض سباق إلى الموت يُـرقِلُ
          وإن امرءًا كانت صـفـية أمَّهُ * ومن أسد في بـيتها لمــؤثّلُ
          له من رسـول الله قربى قريبة * ومن نصـرة الإسـلام مجدٌ مؤثَّـلُ
          فكم كربة ذبَّ الـزبـير بسيفه * عن المصطفى والله يُعطي ويُجْزِلُ
          ثناوك خير من فَعالِ معاشر * وفعلك يا ابـن الهـاشمية أفضــلُ


          رحم الله الزبير بن العوام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

          تعليق


          • #6
            رد: رجال وأعلام الأمة

            طلحة بن عُبَيد الله الشهيد ذو الخير والجود


            ترجمته


            هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي أمه الصعبة بنت الحضرمي أخت العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه أسلمت وأسلم طلحة قديمًا معها. وطلحة رضـي الله عنه أحد العشرة الذين بَشَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأحد السابقين الأولين إلى الإسلام وأحد الستة أهل الشورى.
            له عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديثان متفق عليهما وانفرد له البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة أحاديث وله في مسند بَقيّ بن مخلد ثمانية وثلاثون حديثًا.
            كان رَبعةً مائلاً إلى القصر مليح الوجه رحب الصدر بعيد ما بين المنكبين شعره كثير ليس بالجعد القطط ولا بالسبط المسترسل ضخم القدمين إذا التفت التفت جميعًا.

            قصة إسلامه

            يروي ابن سعد في طبقاته قصة مفادها أن طلحة قال: حضرت سوق بُصرى بالشام فإذا راهب في صومعته يقول: سَلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحد من أهل الحـرم؟ فقلـت: نعم أنا فقـال: هل ظهر أحمـد بعـد؟ قلتُ: ومَنْ أحمـد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه وهو ءاخر الأنبياء ومخرجه من الحَرَم ومُهاجَره إلى نخل وحَرَّة وسباخ، قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال فخرجت سريعًا حتى قدمت مكة فقلت: هل كان من حَدَث؟ قالوا: نعم محمد بن عبد الله الأمين تنّبأ وقد تبعه ابن أبي قحافـة (يعنون أبا بكر رضي الله عنه) فانطلقت إلى أبي بكر فأخبرتُهُ بما قال الراهب فخرجنا معًا فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت على يديه وأخبرته بخبر الراهب فسُرَّ سرورًا عظيمًا بذلك.
            وقد شهد طلحة رضي الله عنه المشـاهد كلهـا مع رسـول الله صلى الله عليه وسلم إلا بدرًا، وذلك لأن رسول الله لما وصلته أخبار عن عير قريش بعث طلحة وسعيد بن زيد ليأتياه بأخبار العير فخرجا حتى بلغا الحوراء حتى مرت بهما العير فرجعا يريدان المدينة ليخبرا رسول الله بخبرها لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد خرج قبل مجيئهما، وكانت وقعة بدر في اليوم الذي دخل فيه طلحة وسعيد المدينة فلم يشهدا الوقعة، فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمهما وأجرهما فكانا كمن شهدها.

            بعض مناقبه

            ورد في "سير أعلام النبلاء" للذهبي أن طلحة رضي الله عنه أتاه مال من حضرموت مقدار سبعمائة ألف درهم فبات ليلته يتململ فقالت له زوجته: ما لك؟ قال: تَفَكَّرتُ منذ الليلة ما ظَنُّ رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته؟ فقالت له زوجـه وهي أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: إذا أصبحت فادعُ بجفانٍ وقِصاع فقَسّمه فقال لها: رحمك الله أنت موَفَّقة بنت موفَّق. فلما أصبح قَسّمه بين المهاجرين والأنصار فبعث إلى عليّ رضي الله عنه منها بجفنة، فقالت له زوجه: أما كان لنا في هذا المال من نصيب قال: فشأنك بما بقي فكانت صرة فيها نحو ألف درهم.
            وأخبار بذل طلحة بن عبيد الله وسخائه كثيرة في كُتب التراجم والسير منها أن أعرابيًا جاءه يسأله فتَقَرَّبَ إليه برَحِم فقال: إن هذه لرَحِم ما سألني بها أحد قبلك إن لي أرضًا قد أعطاني بها عثمان ثلاثمائة ألف فاقبضها، وإن شئت بعتها من عثمان ودفعت إليك الثمن، فقال الرجل: الثمن، فأعطاه إياه.
            وعن محمد بن سعد بالإسناد عن محمد بن إبراهيم التيمي أنه قال: كان طلحة لا يَدَعُ أحدًا من بني تيم عائلاً إلا كفاه وقضى دينه ولقد كان يرسل إلى عائشة كل سنة بعشرة ءالاف ولقد قضى عن صُبيحة التيمي ثلاثين ألفًا.
            وقال الزبير بن بكار: حدثني عثمان بن عبد الرحمن أن طلحة بن عبيد الله قضى عن عبيد الله بن معمر وعبد الله بن عامر بن كُرَيز ثمانين ألف درهم.
            وأثنى عليه رسول صلى الله عليه وسلم الله خيرًا ومدحه فسماه طلحة الخير وطلحة الفيّاض وطلحة الجود وذلك لبذله وسخائه في سبيل الله، فكثيرًا ما كان يعطي من غير مسئلة.
            وعن عائشة رضي الله عنها عن أبيها الصديق رضي الله عنه أنه كلما ذُكر يوم وقعة أُحُد قال: ذلك كله يوم طلحة، كنت أول من فاء يوم أُحُد فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي عبيدة بن الجراح: "عليكما صاحبكما" يريد طلحة وقد نزف فأصلحنا من شأن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتينا طلحة فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر بين طعنة وضربة ورمية.
            وقد ثبت أن طلحة رضي الله عنه حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد، فقد أخرج النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في ناحية في اثني عشر رجلاً منهم طلحة، فأدركهم المشركون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من للقوم" قال طلحة: أنا قال: "كما أنت" فقال رجل من الأنصار: أنا فقال: "أنت" فقاتل حتى قُتل فلم يزل كذلك حتى بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم طلحة، فعندئذٍ قاتلهم طلحة قتال الأحد عشر حتى قُطعت أصابعه، ثم رد الله المشركين.
            وأخرج الحاكم والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أُحُد: "أوجَبَ طلحة".
            وفي طبقات ابن سعد بالإسناد عن عامر الشعبي أنه قال: أُصيب أنف النبي صلى الله عليه وسلم ورباعيته يوم أُحُد، وإن طلحة بن عبيد الله وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فضُربت فشلَّت إصبعه.
            وفي الطبقات أيضًا عن عائشة وأم إسحق ابنتي طلحة قالتا: جُرح أبونا يوم أُحُد أربعًا وعشرين بين جراحة وقع منها في رأسه شَجَّة مربعة وقُطِعَ نساه (يعني عرق النسا) وشلَّت إصبعه وسائر الجراح في سائر جسده وقد غلبه الغشي ورسول الله صلى الله عليه وسلم مكسورة رباعيتاه مشجوج في وجهه قد علاه الغشي وطلحة محتمله يرجع به القهقرى كلما أدركه أحد من المشركين قاتل دونه حتى أسنده إلى الشِّعب.

            وفاته

            كانت وفاة سيدنا طلحة رضي الله عنه يوم الجمل يوم التقى جيشا علي رضي الله عنه ومعاوية بن أبي سفيان وذلك في جمادى الآخرة من السنة السادسة والثلاثين للهجرة بعد أن رماه مروان بن الحكم بسهم وهو منصرف من معسكر معاوية تائبًا من قتاله لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
            وقد روى الحاكم في مستدركه أن أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه بعث إلى طلحة أن القني فأتاه طلحة فقال له: نشدتك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه"؟ فقال طلحة: نعم، قال: "فلمَ تقاتلني" قال: لم أذكر فانصرف طلحة تائبًا.
            ويذكر صاحب المستدرك في تتمة هذه القصة عن ثور بن مجزأة أنه قال: "مررت بطلحة بن عبيد الله يوم الجمل وهو صريع في ءاخر رمق فوقفت عليه فرفع رأسه فقال: إني لأرى وجه رجل كأنه القمر، ممن أنت فقلت: من أصحاب أمير المؤمنين عليّ فقال: ابسط يدك أبايعك فبسطت يدي وبايعني ففاضت نفسه فأتيت عليًّا فأخبرته بقول طلحة فقال: الله أكبر الله أكبر صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبى الله أن يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه.

            رحم الله طلحة بن عبيد الله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

            تعليق


            • #7
              رد: رجال وأعلام الأمة

              عبد الرحمن بن عوف الثقة الأمين في الأرض والسماء

              ترجمته

              هو أبو محمد عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زُهرة بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لؤي، كان اسمه في الجاهلية عبد عمرو وقيل كان اسمه عبد الحارث وقيل عبد الكعبة، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن. وذكر الحافظ العسقلاني في "الإصابة" أنه ولد بعد عام الفيل بعشر سنين.
              وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة أهل الشورى وأحد الثمانية الأوائل الذين أسلموا قديمًا قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم.
              وهو أحد الذين هاجروا الهجرتين: الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة المنورة وأحد السابقين الذين شهدوا بدرًا وكذا شهد المشاهد كلها.
              وروى عنه ابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك وبنوه: إبراهيم وحميد وأبو سلمة وعمرو ومصعب وروى عنه مالك بن أوس وجبير بن مطعم وجابر بن عبد الله والمِسْور بن مخرمة وغيرهم.
              وله في الصحيحين حديثان. وانفرد له البخاري بخمسة أحاديث.

              مناقبه

              كان الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه واحدًا من أولئك الأبطال الذين أُثر عنهم بذل النفيس في سبيل الله ونصرة دينه، فقد روى ابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن ثابت البناني عن أنس قال: بينما عائشة رضي الله عنها في بيتها إذ سمعت صوتًا رجَّت منه المدينة فقالت: ما هذا؟ قالوا: عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف من الشام، وكانت سبعمائة راحلة، فقال عبد الرحمن بن عوف لعائشة رضي الله عنها: فإني أُشهدك أنها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله عز وجل.
              وروى الذهبي في "سير أعلام النبلاء" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خياركم خياركم لنسائي" فأوصى لهن عبد الرحمن بن عوف بحديقة قُوّمت بأربعمائة ألف.
              وقال عبد الله بن جعفر الزهري: حدثتنا أم بكر بنت المسور أن عبد الرحمن باع أرضًا له لعثمان بن عفان بأربعين ألف دينار فأخذ المال وقسمه في فقراء بني زُهرة وفي المهاجرين وأمهات المؤمنين.
              قال المِسْوَر: فأتيتُ عائشة بنصيبها فقالت: من أرسل بهذا؟ قلتُ: عبد الرحمن بن عوف، فقالت: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون". وقد أخرج أحمد بن حنبل هذا الحديث في مسنده.
              وذكر الذهبي في سيره عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة أن عبد الرحمن بن عوف أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، فكان الرجل يعطى منها ألف دينار. وقال الزهري إن عبد الرحمن بن عوف أوصى للبدريين بمال فوُجدوا مائة، فأعطى كل واحد منهم أربعمائة دينار فكان منهم سيدنا عثمان بن عفان فأخذها.
              وبإسناد ءاخر عن الزهري أن عبد الرحمن أوصى بألف فرس في سبيل الله.
              وفي "صفة الصفوة" لابن الجوزي عن الزُهري أنه قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله أربعة ءالاف، ثم تصدق بأربعين ألفًا ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله تعالى، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله تعالى، وكان عامة ماله من التجارة.
              وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة في الحديث الذي ذُكر فيه العشرة المبشرون. وذكرنا ءانفًا ما كان له من الصدقات الكثيرة التي وزعها على أمهات المؤمنين وفقراء المهاجرين وغيرهم من الفقراء وعابري السبيل والأرامل والأيتام.
              وكان عبد الرحمن بن عوف فقيرًا حين هاجر إلى المدينة فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع أحد النقباء من الأنصار، فقال له سعد: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم لك نصف مالي وانظر أي زوجتيَّ هويت نزلت لك عنها فإذا حَلَّتْ تزوجتها، فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دُلَّني على السوق. فذهب وباع واشترى وربح، ولم يزل على هذه الحال حتى كثر ماله وكان له ما كان من المال والصدقات.
              وكان رضي الله عنه من أعدل وأثبت الصحابة رواية للأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي سِيَر الذهبي عن ابن عباس أنه قال: جلسنا مع عمر فقال: هل سمعت عن رسول الله شيئًا أمر به المرء المسلم إذا سها في صلاته كيف يصنع؟ فقلت: لا والله، أوما سمعت أنت يا أمير المؤمنين من رسول الله في ذلك شيئًا؟ فقال: لا والله، فبينا نحن في ذلك أتى عبد الرحمن بن عوف فقال: فيم أنتما فأخبره عمر، فقال عبد الرحمن: لكني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر في ذلك، فقال له عمر: فأنت عندنا عدل، فماذا سمعت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سها أحدكم في صلاته حتى لا يدري أزاد أم نقص، فإن كان شك في الواحدة والثنتين فليجعلها واحدة، وإذا شك في الثنتين أو الثلاث فليجعلها ثنتين، وإذا شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثًا حتى يكون الوهم في الزيادة، ثم يسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يُسَلّم ثم يُسَلّم".
              وكذلك ذكر الحافظ العسقلاني في "الإصابة" أن سيدنا عمر بن الخطاب لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتى سمع عبد الرحمن بن عوف يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ الجزية من مجوس هَجَر، فصـار بعدهـا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذها منهم.
              وفي "الإصابة" أيضًا للحافظ العسقلاني من حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يحافظ على أزواجي من بعدي هو الصادق البار" فكان عبد الرحمن بن عوف يخرج بأزواج النبي ويحج معهن ويجعل على هوادجهن الطيالسة.
              ومن مناقبه أنه صلى بالنبي عليه السلام صلى الله عليه وسلم إمامًا، فعن المغيرة بن شعبة أنه سئل: هل أمَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أحدٌ من هذه الأمة غير أبي بكر؟ فقال: نعم، فذكر أن النبي توضأ والمغيرة معه ومسح على خُفَّيه وعمامته (أي مسح شيئًا من الرأس ثم أكمل على العمامة)، وأنه صلى خلف عبد الرحمن بن عوف.
              وفي رواية أن الرسول انتهى إلى عبد الرحمن بن عوف وهو يصلي بالناس، فأراد عبد الرحمن أن يتأخر، فأومأ إليه أن مكانَكَ، فصلى وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة عبد الرحمن ركعة واحدة وأتم الذي فاته. وفي "صفة الصفوة" أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ما قُبِضَ نبي حتى يصلي خلف رجل صالح من أمَّته".
              وعن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه قال: كان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف شىء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: "دعوا لي أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحُد ذهبًا لم يُدْرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه". ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ونَسَبه إلى البزار وقال: رجاله رجال الصحيح. وفي رواية مسلم في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لخالد: "لا تسبوا أصحابي لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهبًا ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه".
              وامتدحه أكثر من واحد من الصحابة رضوان الله عليهم، فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ورد عنه أنه قال فيه: "عبد الرحمن أمين في السماء وأمين في الأرض"، وعمر بن الخطاب قال فيه: "عبد الرحمن سيد من سادات المسلمين".
              وعن سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء وكان معه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف رضوان الله عليهم فقال صلى الله عليه وسلم: "اثبت حراء فإنما عليك نبي أو صِدّيق أو شهيد".

              خصال وشمائل


              ولقد كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مع كثرة ماله متواضعًا عفيف النفس متفكرًا بالآخرة، فقد روي في "صفة الصفوة" عن نوفل بن إياس الهُذلي أنه قال: كان عبد الرحمن لنا جليسًا وكان نِعْم الجليس، وإنه انقلب بنا يومًا حتى دخلنا بيته فدخل فاغتسل، ثم خرج فجلس معنا وأُتينا بصحفة فيها خبز ولحم، فلما وُضعت بكى عبد الرحمن بن عوف، فقلنا له: يا أبا محمد ما يبكيك؟ فقال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، ولا أرانا أُخّرنا لها لما هو خير لنا.
              وأخرج البخاري عن سعد بن إبراهيم عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف أُتي بطعام وكان صائمًا فقال: قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكُفن في بردة إن غُطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدا رأسه، وقُتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بُسط، وأُعطينا من الدنيا ما أُعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجّلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
              وفي حلية الأولياء لأبي نُعيم أن رجلاً قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم القرءان وكان لين الصوت، فما بقي أحد من القوم إلا فاضت عينه غير عبد الرحمن بن عوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لم يكن عبد الرحمن فاضت عينه فقد فاض قلبه".
              ومن مناقبه أيضًا عزل نفسه عن الخلافة ورفضه إياها وكان جديرًا بها، فلما قُتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتمع أهل الشورى لمبايعة خليفة جديد للمسلمين، قال عبد الرحمن: هل لكم أن أختار لكم وأنفصل منها؟ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنا أول مَنْ رضي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك أمين في أهل السماء، أمين في أهل الأرض".
              وعن سعيد بن المسيب أن سعد بن أبي وقاص أرسل إلى عبد الرحمن رجلاً وهو قائم يخطب: أن ارفع رأسك إلى أمر الناس، أي ادعُ إلى نفسك، فقال عبد الرحمن: ثكلتك أمك، إنه لن يلي هذا الأمر أحد بعد عُمر إلا لامه الناس.
              وعن المسور بن مخرمة أن عبد الرحمن قال حين طُلب منه أن يدعو إلى نفسه: والله لأن تؤخذ مدية فتوضع في حلقي ثم يُنفذ بها أحَبُّ إليَّ من ذلك.

              وفاته


              توفي رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين للهجرة عن خمسة وسبعين عامًا، وقيل اثنين وسبعين.
              وصلى عليه سيدنا عثمان بن عفان، وقيل الزبير بن العوام، ودفن في البقيع بالمدينة المنورة.

              رحم الله عبد الرحمن بن عوف صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

              تعليق


              • #8
                رد: رجال وأعلام الأمة

                سعد بن أبي وقاص أول من رمى سهمًا في سبيل الله

                ترجمته

                هو أبو إسحق سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص هو مالك بن أُهَيْب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لؤي، وهو أحد الستة أهل الشورى وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد في الجنة وسعيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة" رواه الترمذي. وكذلك هناك حديث ءاخر رواه أبو يعلى في مسنده والحاكم في مستدركه بالإسناد عن عبد الله بن عمر أنه قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يدخل عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة" فطلع سعد بن أبي وقاص.
                وسعد كما أشرنا هو من بني زُهرة وأبوه أبو وقاص هو ابن عم ءامنة بنت وَهْب والدة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ أخرج الترمذي في مناقب سعد والطبراني في معجمه الكبير وابن سعد في طبقاته، عن جابر أنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل سعد بن مالك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خالي، فليُرِني امرؤ خاله".
                روى جملة من الأحاديث، وله في الصحيحين خمسة عشر حديثًا. وانفرد له البخاري بخمسة أحاديث، وانفرد مسلم بثمانية عشر حديثًا.
                وحدَّث عنه عبد الله بن عمر وعائشة وابن عباس والسائب بن يزيد وقيس بن أبي حازم، وسعيد بن المسيَّب وأبو عثمان النهدي وعمرو بن ميمون والأحنف بن قيس وعلقمة بن قيس، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، ومجاهد وشُريح بن عُبيد الحمصي وأيمن المكي وبشر بن سعيد وأبو عبد الرحمن السُّلَمي وأبو صالح ذكوان وعروة بن الزبير، وأولاد سعد وهم: عامر وعمر ومحمد ومصعب وإبراهيم وعائشة، وكثيرون غيرهم.

                مناقبه

                يروي أهل التراجم والسير عن الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حادثة هي مثال عن قوة إيمان صحابة رسول الله رضوان الله عليهم، وهي ما رواه مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي هند عن أبي عثمان أن سعد بن أبي وقاص قال: نزلت هذه الآية: {وإن جاهداك لتُشْرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطِعْهما} (سورة العنكبوت/8). قال: كنتُ بَرًا بأمي، فلما أسلمت قالت: يا سعد، ما هذا الدين الذي قد أحدثت لَتَدَعَنَّ دينك هذا، أو لا ءاكل ولا أشرب حتى أموت فتُعَيَّرَ بي فيقال: يا قاتل أمه، فقلت: لا تفعلي يا أمَّه، إني لا أدع ديني هذا لشىء، فمكثت يومًا وليلة لا تأكل ولا تشرب، وأصبحت وقد جُهدت، فلما رأيت ذلك قلت: يا أمَّهْ، تعلمين والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني. إن شئتِ فكلي أو لا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت.
                كان رضي الله عنه من أوائل من دخل في الإسلام من المهاجرين، فهو إذًا من السابقين الأولين الذين ذكرهم الله تعالى في القرءان الكريم وكان عمره حين أسلم سبع عشرة سنة، وقيل تسع عشرة.
                شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أول من رمى سهمًا في سبيل الله، ففي كتاب "الإصابة" للحافظ العسقلاني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية إلى جانب من الحجاز يدعى رابغ، فهاجم المشركون المسلمين، فحماهم سعد يومئذ بسهامه، فكان هذا أول قتال في الإسلام، فقال سعد في هذا شعرًا:

                ألا هل أتى رسول الله أني * حميت صحابتي بصدور نبلي
                أذود بها عدوهم ذيــادًا * بكل حَزونة وبكل ســـهل
                فما يعتد رامٍ في عدوٍ * بسهمٍ يا رسـول الله قبــــلي

                وكان رضي الله عنه جيد الرمي مُسَدَّد الإصابة، ولا سيما بعد أن دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي "صفة الصفوة" لابن الجوزي عن قيس بن أبي حازم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم سَدّدْ رميته وأجب دعوته".
                وفي "سير أعلام النبلاء" روى الذهبي عن ابن شهاب أنه قال: قَتَلَ سعدٌ يوم أُحُد بسهم رُمِيَ به، فَرموا به مرة ثانية فأخذه سعد، فرمى به الثانية فقَتَلَ، فرُدَّ عليهم فرمى به الثالثة فقَتَل، فعجب الناس مما فعل.
                عن ابن إسحق عن صالح بن كيسان عن بعض ءال سعد عن سعد أنه قال عن معركة أُحُد: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ويقول: "ارمِ، فداك أبي وأمي"، حتى إنه ليناولني السهم ما له من نصل، فأرمي به.
                وقال ابن المسيَّب: كان جيد الرمي، سمعته يقول: جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أُحُد.
                وكذلك أخرج الترمذي وأحمد بن حنبل في مسنده، والبخاري في المغازي، بالإسناد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يجمع أبويه لأحد غير سعد.
                وروى ابن زنجويه عن عائشة بنت سعد أنها كانت تقول: أنا ابنة المهاجر الذي فداه رسول الله يوم أُحُد بالأبوين.
                وأخرج الإمام أحمد بن حنبل بالإسناد عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك يوم الخندق حتى بدت نواجذه، كان رجل معه ترس وكان سعد راميًا، فجعل يقول كذا يحوّي بالترس (أي يحركه) ويغطي جبهته، فنزع له سعد بسهم، فلما رفع رأسه رماه به فلم يخطىء هذه منه (يعني جبهته)، فانقلب وأشال برجله، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله حتى بدت نواجذه.

                استجابة دعوته

                كان مشهورًا بين الصحابة رضوان الله عليهم، وبين من جاء بعدهم من التابعين والعلماء أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان مجاب الدعوة؛ وذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له الآنف الذكر وهو قوله: "اللهم سَدّد رميته وأجِب دعوته"؛ وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي والحاكم في مستدركه والهيثمي في "مجمع الزوائد" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك"، فكان الناس لا يتعرضون له خشية أن تصيبهم دعوته، وكان هناك من الناس من أصابته دعوته، منهم رجل يقال له أبو سعدة، وذلك عندما شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر بن الخطاب فقالوا إنه لا يحسن الصلاة، فبعث عمر رضي الله عنه رجالاً يسألون عنه بالكوفة، فكانوا لا يأتون مسجدًا من مساجد الكوفة إلا قيل لهم فيه خير، حتى أتوا مسجدًا لبني عبس، فقال رجل يقال له أبو سعدة: أما إذا نشدتمونا الله، فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية ولا يسير بالسَّريَّة، فقال سعد: اللهم إن كان كاذبًا فأعْم بصره وأطل عمره وعرضه للفتن، قال عبد الملك، فأنا رأيته بعد ذلك يتعرض للإماء في السكك، فإذا سئل: كيف أنت؟ يقول: كبير مفتون أصابتني دعوة سعد.
                وفي "سير أعلام النبلاء" عن ابن جدعان عن ابن المسيَّب أن رجلاً كان يسب علي بن أبي طالب وطلحة والزبير رضي الله عنهم، فجعل سعد ينهاه ويقول: لا تقع في إخواني، فأبى، فقام سعد فصلى ركعتين ودعا بكلمات، فجاء بُخْتِيٌّ (أي جمل) يشق الناس، فأخذه بالبلاط ووضعه بين صدره والبلاط حتى سحقه فمات، قال ابن المسيَّب: فأنا رأيت الناس يتبعون سعدًا يقولون: هنيئًا لك يا أبا إسحق، استجيبت دعوتك.
                وروى حاتم بن إسماعيل عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن جده أنه قال: دعا سعد بن أبي وقاص فقال: يا رب، بَنيَّ صغار، فأطِلْ في عمري حتى يبلغوا، فعاش بعدها عشرين سنة.

                بناؤه الكوفة

                كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد كتب إلى سعد بن أبي وقاص يسأله عن السبب الذي غير ألوان العرب وغيَّر لحومهم، فكتب إليه سعد رضي الله عنه أن السبب هو تغير الهواء والأرض، فأرسل عمر إليه قائلاً : إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث سلمان وحذيفة رائدين، فليرتادا منزلا بريًا بحريًا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر فخرج سلمان غربي الفرات، وحذيفة شرقيّه، حتى التقيا عند الكوفة فأعجبتهما، فكتبا إلى سعد بن أبي وقاص وكان ءانذاك قد انتهى من فتح مدائن كسرى ومعظم بلاد فارس فارتحل بجنده من المدائن حتى عسكر بالكوفة، وكان ذلك في المحرم من سنة سبعَ عشرة للهجرة، فأمر راميًا فرمى بسهم ناحية الشرق، وءاخر ناحية الغرب، وأمر الناس أن يبنوا بيوتهم من وراء السهمين، وقسم النواحي بين العرب فكان لكل قوم ناحيتهم، وبنى في وسط المدينة المسجد ودار الإمارة.

                وفاته

                توفي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة المنورة سنة خمس وخمسين للهجرة، وقيل سنة خمسين، وقيل سنة ست وخمسين، وقيل غير ذلك، وهو ابن بضع وسبعين سنة، وقيل اثنتين وثمانين.
                وروى الذهبي في سيره عن الليث عن عقيل عن الزهري أن سعد بن أبي وقاص لما حضرته الوفاة دعا بجبة صوف بالية فقال: كفنوني فيها، فإني لقيت المشركين فيها يوم بدر، وإنما خبأتها لهذا اليوم.
                وحُمل رضي الله عنه إلى المدينة وصلى عليه مروان بن الحكم وهو يومئذ والي المدينة. وأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن تمر جنازته في المسجد، فأوقف على حُجَرهن فصلين عليه وخرج من باب الجنائز ودفن في البقيع.

                رحم الله سعد بن أبي وقاص صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                تعليق


                • #9
                  رد: رجال وأعلام الأمة

                  سعيد بن زيد مجاب الدعوة


                  ترجمته


                  هو أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل بن عبد العُزّى بن رياح بن قُرط بن رَزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، القُرشي العَدَويُّ، أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن السابقين الأولين البَدْريين الذي رضي الله عنهم ورضوا عنه، أسلم قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم.
                  شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد حصار دمشق وفتحها، فولاه عليها أبو عبيدة بن الجراح.
                  روى أحاديث يسيرة له منها اثنان في الصحيحين، وانفرد له البخاري بحديث واحد.
                  وأما والده وهو زيد بن عمرو بن نُفَيل فقد اشتهر عند أصحاب كُتب التراجم والسير أنه كره ما كان يفعله المشركون من عبادة الأصنام والحجارة والذبح لها والاستقسام بالأزلام، وكان لا يعبد إلا الله وحده ولا يشرك به شيئًا، فقد روى ابن سعد في طبقاته أنه أظهر مخالفته لقومه في عبادتهم للأوثان، وكان لا يأكل ما كانوا يذبحونه على الأصنام، وقدم الشام فسأل اليهود وغيرهم من أهل الأديان الباطلة فلم تعجبه دياناتهم، فرجع إلى مكة وهو يقول: لا أعبد إلا الله.
                  وفي طبقات ابن سعد بالإسناد عن موسى بن عقبة قال: سمعت سالمًا أبا النضر يحدث، أن زيدًا والد سعيد كان يعيب على قريش ذبائحهم ثـم يقـول: الشاة خلقها الله وأنزل من السماء ماءً وأنبت لها الأرض، ثم يذبحونها على غير اسم الله، إنكارًا لذلك وإعظامًا له لا ءاكل مما لم يذكر اسم الله عليه.
                  وروى الذهبي في "سير أعلام النبلاء" أن زيدًا التقى بالشام راهبًا فقال له الراهب: أراك تريد دين إبراهيم عليه السلام، يا أخا أهل مكة، الحق ببلدك، فإن الله يبعث من قومك من يأتي بدين إبراهيم، وهو أكرم الخلق على الله.
                  وعن علي بن عيسى الحكمي عن أبيه عن عامر بن ربيعة أنه قال: قال لي زيد: يا عامر إني خالفت قومي واتّبعت ملة إبراهيم وما كان يعبد وإسماعيل من بعده، وكانوا يصلون إلى هذه القبلة، فأنا أنتظر نبيًا من ولد إسماعيل يُبعث ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأُصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام. قال عامر: فلما تنبّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمتُ وأخبرته بقول زيد بن عمرو وأقرأته منه السلام فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحَّمَ عليه وقال: "قد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً".
                  وقد التقى زيد بن عمرو برسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يدرك مبعثه إذ مات قبل ذلك، ولكن سعيدًا ابنه أدرك رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وءامن به وكان من المبشرين العشرة.

                  من مناقبه

                  إن الله تعالى قد أنعم على عباده بنعم لا نحصيها، أعظمها وأجلها نعمة الإيمان التي لا تعادلها نعمة. ومن نعم الله تعالى أنه جعل بعض عباده المؤمنين مستجابي الدعوة، ومنهم الصحابي الجليل سعيد بن زيد رضي الله عنه، الذي اشتهر عنه ذلك وذُكر في الكثير من كُتُب الترجمة.
                  ومن هذه الأخبار ما رواه الحافظ أبو نُعيم في "حلية الأولياء" وهو أن امرأة تدعى أروى بنت أويس ادَّعت أن سعيد بن زيد رضي الله عنه قد أخذ من أرضها فأدخله في أرضه، فقال رضي الله عنه: ما كنتُ لأسرق منها بعد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سرق شبرًا من الأرض طُوّقه يوم القيامة من سبع أرَضين"، ثم دعا: اللهم إن كانت كاذبة فلا تُمتها حتى يعمى بصرها، وتجعل قبرها في بئرها.
                  وجاء في تتمة هذه القصة أنها لم تمت حتى ذهب بصرها، وخرجت يومًا تمشي في دارها حَذِرة، فوقعت في بئرها وكانت قبرها.
                  من مناقبه أنه كان من العشرة الذين بشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكذلك ذُكر في الحديث الذي أخرجه البخاري في الجهاد، ومسلم في فضل سعد، وأحمد في مسنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين اهتز جبل حراء وكان واقفًا عليه قال: "أثبت حراء فإنه ليس عليك إلا نبي أو صِدّيق أو شهيد". وذكر الذهبي أن الذين كانوا على الجبل ءانذاك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وسعيد بن زيد، رضي الله عنهم أجمعين.
                  ومن مناقبه أيضًا إنكاره على الذين كانوا يسبّون الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ففي "حلية الأولياء" للحافظ أبي نُعَيم أن المغيرة بن شعبة كان في المسجد الأكبر وعنده أهل الكوفة عن يمينه وعن يساره، فجاء سعيد بن زيد رضي الله عنه فأجلسه على السرير، ثم جاء رجل من أهل الكوفة فسَبَّ، فقال سعيد بن زيـد رضي الله عنه: من يسب هذا يا مغيرة؟ قال: يسب علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال سعيد رضي الله عنه: يا مغيرة بن شعبة أعادها ثلاثًا ألا أسمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسَبّون عندك فلا تنكر ولا تغير وأنا أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مما سمعت أذناي ووعاه قلبي من رسول الله، فإني لم أكن أروي عنه كذبًا يسألني عنه إذا لقيته، أنه قال: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد في الجنة، وتاسع المؤمنين في الجنة"، قال فرَجّ أهل المسجد يناشدونه: يا صاحب رسول الله من التاسع؟ قال: ناشدتموني بالله، والله عظيم، أنا تاسع المؤمنين، ثم أتبع ذلك يمينًا فقال: لمشهَدٌ شَهِدَهُ رجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر وجهه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفضل من عمل أحدكم ولو عُمّر عُمر نوح.

                  وفاته

                  توفي رضي الله عنه بالعقيق، فحُمل إلى المدينة المنورة فدفن بها، وذلك سنة خمسين، وقيل إحدى وخمسين، وكان يومها ابن بضع وسبعين سنة.
                  وقال الذهبي: مات سعيد بن زيد وكان يَذْرَب، فقالت أم سعيد لعبد الله بن عمر: أتُحَنطه بالمسك فقال: وأيُّ طيب أطيب من المسك، فناولته مسكًا. والذَرَب هو داء يصيب المعدة فلا تهضم الطعام ولا تمسكه.
                  وقال ابن الجوزي في "صفة الصفوة": ونزل في حفرته سعـد بن أبي وقــاص وعبد الله بن عمر. وصلى عليه المغيرة بن شُعبة وهو يومئذٍ والي الكوفة لمعاوية بن أبي سفيان.

                  رحم الله سعيد بن زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                  تعليق

                  يعمل...
                  X