إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الإلهيات عند ابن رشد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الإلهيات عند ابن رشد

    عبد الرحمن بدوي
    الإلهيات عند ابن رشد
    ليس لابن رشد كتاب قائم برأسه في الإلهيات، وإنما نلتمس آراءه في هذا الباب من شرحه على "ما بعد الطبيعة"
    لأرسطو وتلخيصه من ناحية، ومن ردوده على الغزالي في كتاب "تهافت التهافت". ولهذا يعسر على الباحث أن
    يقدم عرضاً متصلاً لمذهب ابن رشد، إذ يصعب التمييز بين ما هو مجرد شرط لأرسطو، وبين ما يعتقده ابن رشد
    رأياً خاصاً به. وتلك هي دائماً حال الشارح والمؤرخ: يتوارى دائماً خلف ما يشرح أو يعرض من نصوص وآراء.
    ولربما كان عمله هذا أعظم فائدة وأدل على تفوق عقلي أكثر مما يصنعه من يعرض الآراء كأنها من عنده، وهي
    في حقيقة الأمر خلاصة باهتة لما قاله الآخرون قبله، لكنه عرضها وكأنها باسمه هو ومن عنده. لكن البحث التاريخي كفيل بعد ذلك بفضح
    زيف دعوى هذا الأخير، رغم أن دعواه الأصالة قد خالت على السطحيين من الناس، أعني كافتهم إلا النادرين.
    أـ قدم العالم
    يرى ابن رشد كما رأى أرسطو أن العالم قديم، أي ليس له بداية، "وأنه لم يزل موجوداً مع الله تعالى، ومعلولاً له،
    ومساوقاً له غير متأخر عنه بالزمان مساوقة المعلول للعلة، ومساوقة النور للشمس،
    وأن تقدم الباري عليه كتقدم العلة على المعلول، وهو تقدم بالذات والرتبة، لا بالزمان" ودليلهم على ذلك:
    1_ استحالة صدور حادث عن قديم مطلقاً،
    2_ لو كان الباري متقدماً بالزمان على العالم، لكان قبل الزمان زمان، وهذا خلف،
    3_ إمكان العالم كان موجوداً، فالعالم لم يزل ممكن الحدوث.
    4_ كل حادث تسبقه مادة، إذ لا يستغني الحادث عن مادة، فالمادة إذن قديمة، فالعالم قديم.
    ويرد الغزالي على هذه الحجج، فينبري ابن رشد للدفاع عنها وإبطال ردود الغزالي، مبيّناً أنه إنما يقابل إشكالات بإشكالات،
    وهذا إنما يقتضي حيرة وشكوكاً، لا إبطالاً للإشكال الذي يقبله.
    وخلاصة الرأي عند ابن رشد أنه "إن كانت حركات الأجرام السماوية وما يلزم عنها أفعالاً لموجود أزلي، غير داخل
    وجوده في الزمان الماضي، فواجب أن تكون أفعاله غير داخلة في الزمان الماضي".
    ويتفرع على ذلك أن العالم كما أنه "أزلي لا بداية لوجوده، فهو أبدي لا نهاية لآخره، ولا يتصور فساده وفناؤه، بل لم يزل كذلك،
    ولا يزال أيضاً كذلك. وأدلّتهم الأربعة التي ذكرناها في الأزلية جارية في الأبدية، فإنهم يقولون أن العالم معلول علته أزلية أبدية،
    فكان المعلول مع العلة. ويقولون: إذا لم تتغير العلة، لم يتغير المعلول".
    ويؤيد ابن رشد رأي الفلاسفة هذا بقوله أنه "يمتنع عندهم أن ينعدم الشيء إلى لا موجوداً أصلاً، لأنه لو كان كذلك، لكان الفاعل يتعلق فعله بالعدم أولاً بالذات".
    ويؤول ابن رشد الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم فيقول في "فصل المقال" (ص 42_43): "إن ظاهر الشرع إذا تصفح،
    ظهر من الآيات الواردة في الأنبياء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة، وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين،
    أغني غير منقطع. وذلك أن قوله تعالى: _وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء) (سورة هود/7) يقتضي
    بظاهره أن وجوداً قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزماناً قبل هذا الزمان، أعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك
    _وقوله تعالى: (يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات) (سورة إبراهيم/ 48) يقتضي أيضاً بظاهره ان وجودا ثانيا بعد هذا الوجود.
    وقوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) (سورة فصلت/ آية11) يقتضي بظاهره أن السماوات خلقت من شيء. فالمتكلمون
    ليسوا في أقوالهم أيضاً في العالم على ظاهر الشرع، بل متأولون: فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجوداً مع العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه نصاً أبداً).
    وبهذا يبين ابن رشد أن القول بقدم العالم لا يخالفه نصّ من القرآن، ولا تعارض إذن في هذه المسألة بين ما يقول به الفلاسفة من أن العالم قديم وبين ما ورد في الشرع.
    ب_ علم الله بالجزئيات
    والمسألة الثانية التي كفّر الغزالي بها الفلاسفة المسلمين هي: علم الله بالجزئيات.
    ويرى ابن رشد أن الغزالي غلط في ذلك، لأنهم لا يقولون ان الله لا يعلم الجزئيات أصلاً "بل يرون أنه _تعالى _ يعلمها بعلم غير مجانس لعلمنا بها،
    وذلك أن علمنا بها معلوم للمعلوم، فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره. وعلم الله _سبحانه_ بالوجود على مقابل هذا: فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود.
    ومن شبّه المعلمين أحدهما بالآخر، فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصّها واحداً، وذلك غاية الجهل".
    وإنما أتى هذا الغلط من قياس العلم القديم على العلم المحدث، وهو قياس الغائب على الشاهد وقد عرف فساد هذا القياس. وكما أنه لا يحدث في الفاعل تغيّر
    عند وجود مفعوله، أعني تغيّراً لم يكن قبل ذلك، كذلك لا يحدث في علم القديم سبحانه تغيّر عند حدوث معلوم عنه".
    وإذن ليس يعلم الله الموجود حين حدوثه، وإنما يعلمه بعلم قديم.
    والغزالي حين يعرض رأي فلاسفة الإسلام في هذه المسألة يقول ان منهم من ذهب إلى أنه (أي الله) لا يعلم إلا نفسه، ومن ذهب إلى أنه يعلم غيره "وهو
    الذي اختاره ابن سينا: فقد زعم أنه يعلم الأشياء علماً كلياً لا يدخل تحت الزمان، ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن. ومع ذلك زعم أنه لا يغرب عن علمه
    مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي". وابن رشد "في تهافت التهافت" يرد على اعتراضات الغزالي على الفلاسفة في
    هذه المسألة بأن يقول ان الأصل في مشاغبة الغزالي على الفلاسفة ها هنا راجع إلى تشبيهه علم الخالق سبحانه بعلم الإنسان، وقياس أحد العلمين على
    الآخر. وهذا خطأ في التشبيه، لاختلاف علم الخالق عن علم الإنسان. هذا أولاً.
    وثانياً من قال من الفلاسفة ان الله إنما يعلم الكليات دون الجزئيات، فالسبب في ذلك أن العلم بالكليات عقل، أما العلم بالجزئيات أي بالأشخاص
    _فهو حسّ أو خيال. وتجدد الأشخاص يوجب شيئين: تغير الادراك، وتعدده. أما علم الأنواع والأجناس _أي علم الكليات _ فليس يوجب تغيراً، إذ علمهما ثابت.
    لكن ابن رشد يسلّم بأن تعدد الأنواع والأجناس يوجب التعدد في العالم، ولهذا فإن "المتحققين من الفلاسفة لا يضعون علمه_ سبحانه وتعالى _
    بالموجودات: لا بكلي، ولا بجزئي. وذلك أن العلم الذي هذه الأمور لازمة له هو: عقل منفعل ومعلول. والعقل الأول هو فعل محض، وعلة،
    فلا يقاس علمه على العلم الإنساني. فمن جهة ما لا يعقل غيره، من حيث هو غيره، هو علم منفعل، ومن جهة ما يعقل الغير، من حيث هو ذاته، هو علم فاعل.
    ج_ انكار بعث الأحياء
    والمسألة الثابتة هي إنكار الفلاسفة لبعث الأجساد وسائر أمور المعاد "وقولهم أن كل ذلك أمثلة ضربت لعوام الخلق لتفهيم ثواب وعقاب
    روحانيين هما أعلى رتبة من الجسمانية". ذلك أنهم "قالوا أن النفس تبقى بعد الموت بقاء سرمدياً: اما في لذة لا يحيط الوصف بها لعظمها،
    وأمّا في ألم لا يحيط الوصف به لعظمة. ثم قد يكون ذلك الألم مخلداً، وقد ينمي على طول الزمان. ثم تتفاوت طبقات الناس في درجات الألم
    واللذة تفاوتاً غير محصور، كما يتفاوتون في المراتب الدنيوية ولذاتها تفاوتاً غير محصور. واللذة السرمدية للنفوس الكاملة الذكية،
    والألم السرمدي للنفوس الناقصة الملطخة. والألم المنقضي للنفوس الكاملة الملطخة، فلا تنال السعادة المطلقة إلاّ بالكمال والتزكية والطهارة، والكمال بالعلم، والذكاء بالعمل".
    والغزالي يرى أن أكثر هذه الأمور ليس مخالفاً للشرع. ولكن المخالف للشرع هو إنكارهم حشر الأجساد، وإنكارهم اللذات الجسمانية في الجنة،
    والآلام الجسمانية في النار، وإنكارهم وجود جنة ونار كما وصفهما القرآن. والسبب في إنكارهم لهذه الأمور هو استحالتها بالدليل العقلي. ولهم في ذلك مسالك منها:
    تقدير العود إلى الأبدان لا يعدو ثلاثة أقسام: إما أن يقال: الإنسان عبارة عن البدن والحياة التي هي عرض قائم به، ومعنى الموت انقطاع الحياة،
    فتنعدم والبدن ينعدم أيضاً. واما أن يقال ان النفس موجود، ويبقى بعد الموت، ولكن يرد البدن الأول بجمع تلك الأجزاء بعينها.
    وإما أن يقال: يرد النفس إلى بدن، سواء كان من تلك الأجزاء أو من غيرها، ويكون العائد هو ذلك الإنسان من حيث ان النفس هي تلك النفس، فأما المادة فلا التفات لها.
    وهذه الأقسام الثلاثة باطلة: لأن الأول إيجاد لمثل ما كان، لا إعادة لعين ما كان. والثاني، وهو تقرير بقاء النفس ورده إلى ذلك البدن بعينه،
    باطل لأنه لو عاد لكان ذلك عوداً إلى تدبير البدن بعد مفارقته، وهذا محال، لأن بدن الميت ينحل تراباً أو تأكله الديدان والطيور
    ويستحيل دماً وبخاراً وهواء، ويمتزج بهواء العالم وبخاره ومائه امتزاجاً يبعد انتزاعه واستخلاصه.
    والثالث، وهو رد النفس إلى بدن إنساني من أية مادة كانت وأي تراب اتفق _محال من وجهين: أحدهما أن المواد القابلة للكون
    والفساد محصورة في مقعّر فلك القمر لا يمكن عليها مزيد، وهي متناهية، والأنفس المفارقة للأبدان غير متناهية، فلا تفي بها،
    والثاني أن التراب لا يقبل تدبير النفس ما بقي تراباً، بل لا بد أن تمتزج العناصر امتزاجاً يضاهي امتزاج النطفة.
    والغزالي يختار هذا القسم الثالث ولا يرى مانعاً من ذلك شرعياً.
    وابن رشد في رده على الغزالي لا يتناول أقوال الغزالي واحداً بعد واحد كما فعل في المسائل التسع عشرة الأخرى، بل يضع تعليقاً عاماً
    هو أنه لم يتناول واحد من الفلاسفة المتقدمين هذه المسألة بالبحث، وليس لهم فيها قول، إنما وردت هذه الأقوال في الأديان والشرائع.
    والفلاسفة يرون أن الشرائع ضرورية، لأنها تنحو نحو تبرير الناس ليصل الإنسان إلى سعادته الخاصة به، ولبث الفضائل الخلقية في الإنسان
    ، "والفضائل الخلقية لا تتمكن إلا بمعرفة الله تعالى وتعظيمه بالعبادات المشروعة لهم (أي للناس) في ملة ملة... ويرون بالجملة أن الشرائع
    هي الصنائع الضرورية المدنية التي تأخذ مبادئها من العقل والشرع... ويرون _مع هذا _ أنه لا ينبغي أن يتعرض، بقول مثبت أو مبطل،
    في مبادئها العامة، مثل: هي يجب أن يعبد الله تعالى؟ أو لا يعبد؟ وأكثر من ذلك: هل هو موجود، أم ليس بموجود؟ وكذلك يرون في سائر
    مبادئه مثل القول في وجود السعادة الأخيرة وفي كيفيتها، لأن الشرائع كلها أتفقت على وجود أخروي بعد الموت، وإن اختلفت في صفة ذلك الوجود".
    ومعنى هذا أن الفلسفة لا تتناول شؤون المعاد والأخرويات، وأن على الفيلسوف أن لا يناقض ما جاء به النبيّ في الملة التي نشأ الفيلسوف عليها.
    والملل كلها حق عنده، وإن كان عليه مع ذلك "أن يختار أفضلها في زمانه... وأن يعتقد أن الأفضل يسنح بما هو أفضل منه.
    ولذلك أسلم الحكماء الذين كانوا يعلّمون الناس بالاسكندرية لما وصلتهم شريعة الإسلام، وتنصّر الحكماء الذين كانوا ببلاد الروم،
    لما وصلتهم شريعة عيسى... ولا يشك أحد أنه كان في بني إسرائيل حكماء كثيرون، وذلك ظاهر من الكتب التي تلفي عند بني إسرائيل المنسوبة إلى سليمان".
    وينتهي ابن رشد إلى أن الاعتقادات التي وردت بها الشرائع في أمور الآخرة، وإن لم يتناولها البرهان العقلي، والفلاسفة
    لم يتعرضوا لها، فإنها "أحث على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها، ولذلك كان تمثيل المعاد لهم (أي للناس) بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية".
    د_ براهين وجود الله
    وابن رشد يرجع هذه البراهين إلى اثنين: برهان مأخوذ من العناية الإلهية بالعالم، وبرهان مأخوذ من الخلق. وهو يفضل البرهان
    بالحركة، وينقد سائر البراهين: البرهان الغائي، البرهان بالتمييز بين الممكن والواجب (وهو الذي تمسك به خصوصاً الفارابي وابن سينا)، والبرهان بالعلية.
    "تبيّن في العلم الطبيعي أن كل متحرك له محرك، وأن المتحرك إنما يتحرك من جهة ما هو بالقوة، والمحرك يتحرك من جهة ما هو بالفعل
    . وإن المحرك إذا حرّك تارة ولم يحرك أخرى، فهو محرك بوجه ما، إذ توجد فيه القوة على التحريك حينما لا يحرك. ولذلك متى أنزلنا
    هذا المحرك الأقصى للعالم يحرك تارة ولا يحرك أخرى، لزم ضرورة أن يكون هناك محرك أقدم منه، فلا يكون هو المحرك الأول.
    فإن فرضنا أيضاً هذا الثاني يحرّك تارة، ولا يحرك أخرى، لزم فيه ما لزم في الأول. فباضطرار: إما أن يمرّ ذلك إلى غير نهاية،
    أو ننزل أن ها هنا محركاً لا يتحرك أصلاً، ولا من شأنه أن يتحرك لا بالذات ولا بالعرض. وإذا كان ذلك كذلك، فهذا المحرك أزلي ضرورة".
    ه‍_ نقد نظرية الصدور
    وينقد ابن رشد القائلين بصدور العالم عن الله بطريق الفيض، وعلى رأسهم الفارابي وابن سينا، وهو في هذا تلميذ مخلص لأستاذه أرسطو.
    يقول ابن رشد: "وأما ما حكاه (أي الغزالي) عن الفلاسفة في ترتيب فيضان المبادىء المفارقة عنه، وفي عدد ما يفيض عن مبدأ من تلك المبادىء _
    فشيء لا يقوم برهان على تحصيل ذلك وتحديده. ولذلك لا يلغي التحديد الذي ذكره: في كتب القدماء.
    وأما كون جميع المبادىء المفارقة، وغير المفارقة، فائضة عن المبدأ الأول، وأن بفيضان هذه القوة الواحدة صار العالم بأسره واحداً،
    وبها ارتبطت جميع أجزائه حتى صار الكل يؤمّ فعلاً واحداً كالحال في بدن الحيوان الواحد المختلف القوى والأعضاء والأفعال، فإنه
    إنما صار عند العلماء واحداً وموجوداً بقوة واحدة فيه، فاضت عن الأول _فأمر أجمعوا عليه، لأن السماء عندهم بأسرها هي بمنزلة حيوان واحد".
    وكما أن في الحيوان الواحد قوى عديدة، ولكن تسري فيه قوة واحدة، كذلك "كانت نسبة أجزاء الموجودات من العالم كله نسبة أجزاء الحيوان الواحد
    من الحيوان الواحد. فباضطرار أن يكون حالها في أجزائه الحيوانية وفي قواها المحركة النفسانية والعقلية هذه الحال، أعني أن فيها قوة واحدة روحانية _
    وهي سارية في الكل سرياناً واحداً _بها ارتبطت جميع القوى الروحانية والجسمانية، ولولا ذلك لما كان ها هنا نظام وترتيب. وعلى هذا يصح القول ان
    الله خالق كل شيء وممسكه وحافظه، كما قال الله سبحانه: (ان الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) (سورة فاطر/ 41). وليس يلزم من سريان القوة
    الواحدة في أشياء كثيرة أن يكون في تلك القوة كثرة، كما ظن من قال أن المبدأ الواحد إنما فاض عنه أولاً، واحد، ثم فاض من ذلك الواحد كثرة،
    فإن هذا إنما يظن به أنه لازم إذا شبّه الفاعل الذي في غير الهيولي بالفاعل الذي هو هيولي. ولذلك أن قيل اسم: "الفاعل" على الذي في غير هيولي،
    والذي في هيولي، فباشتراك الاسم فهذا يبين لك جواز صدور الكثرة عن الواحد".
    ويحمل ابن رشد بشدة على هذا المبدأ الذي قال به الفارابي وقال به خصوصاً ابن سينا وهو أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.
    وهنا يوجه ابن رشد إلى نفسه هذا السؤال ليجيب عنه. فيقول:
    "فإن قيل: فما تقول أنت في هذه المسألة _وقد أبطلت مذهب ابن سينا في علة الكثرة، فما تقول أنت في ذلك؟ فإنه قد قيل ان فرق الفلاسفة كانوا يجيبون
    في ذلك بواحد من ثلاثة أجوبة: أحدها: قول من قال ان الكثرة إنما جاءت من قبل الهيولي،
    والثاني: قول من قال: إنما جاءت من قبل الآلات.
    والثالث قول من قال: من قبل الوسائط.
    والذي يجري عندي على أصولهم أن سبب الكثرة هو مجموع الثلاثة الأسباب: أعني: المتوسطات، والاستعدادات والآلات. وهذه كلها قد بيّنا كيف تستند إلى
    الواحد، وترجع إليه، إذ كان وجود كل واحد منها بوحدة محضة هي سبب الكثرة. وذلك أنه يشبه أن يكون السبب في كثرة العقول المفارقة إختلاف طبائعها القابلة،
    فيما تعقل من المبدأ الأول، وفيما تستفيد منه من الوحدانية التي هي فعل واحد في نفسه، كثير بكثرة القوابل له، كالحال في الرئيس الذي تحت يده رئاسات كثيرة
    ، والصناعة التي تحتها صنائع كثيرة.
    ويرجع ابن رشد الاختلاف إلى الأسباب الأربعة: فاختلاف الأفلاك يرجع إلى اختلاف محركيها، واختلاف صورها، واختلاف موادها _إن كان لها مواد _
    واختلاف أفعالها المخصوصة في العالم. والاختلاف فيما دون فلك القمر يرجع إلى اختلاف المادة، مع اختلافها في القرب والبعد من المحركين لها وهي
    الأجرام السماوية، مثل اختلاف النار، والتراب، وبالجملة: المتضادات. وأما السبب في اختلاف الحركتين واختلاف حركاتها، كما تبين ذلك في كتاب "الكون والفساد" لأرسطو.
    وما دام الأمر هكذا، فأسباب الكثرة عند أرسطو: من الفاعل الواحد هي الثلاثة الأسباب، ورجوعها إلى الواحد هو بالمعنى المتقدم، أي كون الواحد سبب الكثرة.


يعمل...
X