إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

المصلح الشاعر : محمد رشيد رضا ( 01865 - 1935م ) الصحفي المفسر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المصلح الشاعر : محمد رشيد رضا ( 01865 - 1935م ) الصحفي المفسر

    الشيخ: مــحــمــد رشــيــد رضـــا
    علم من أعلام العروبة والإسلام

    كان الشيخ رشيد رضا أكبر تلامذة الأستاذ الإمام محمد عبده، وخليفته من بعده، حمل راية الإصلاح والتجديد، وبعث في الأمة روحًا جديدة، تُحرِّك الساكن، وتنبه الغافل، لا يجد وسيلة من وسائل التبليغ والدعوة إلا اتخذها منبرًا لأفكاره ودعوته ما دامت تحقق الغرض وتوصل إلى الهدف.
    وكان (رحمه الله) متعدد الجوانب والمواهب، فكان مفكرًا إسلاميًا غيورًا على دينه، وصحفيًا نابهًا ينشئ مجلة "المنار" ذات الأثر العميق في الفكر الإسلامي، وكاتبًا بليغًا في كثير من الصحف، ومفسرًا نابغًا، ومحدثًا متقنًا في طليعة محدثي العصر، وأديبًا لغويًا، وخطيبًا مفوهًا تهتز له أعواد المنابر، وسياسيًا يشغل نفسه بهموم أمته وقضاياه، ومربيًا ومعلمًا يروم الإصلاح ويبغي التقدم لأمته.
    وخلاصة القول: إنه كان واحدًا من رواد الإصلاح الإسلامي الذين بزغوا في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، وعملوا على النهوض بأمتهم؛ حتى تستعيد مجدها الغابر، وقوتها الفتية على هدى من الإسلام، وبصر بمنجزات العصر


    المولد والنشأة:
    في قرية "القلمون" كان مولد "محمد رشيد بن علي رضا" في (27 من جمادى الأولى 1282هـ = 23من سبتمبر 1865م)، وهي قرية تقع على شاطئ البحر المتوسط من جبل لبنان، وتبعد عن طرابلس الشام بنحو ثلاثة أميال، وهو ينتمي إلى أسرة شريفة من العترة النبوية الشريفة، حيث يتصل نسبها بآل "الحسين بن علي" (رضي الله عنها).
    وكان أبوه "علي رضا" شيخًا للقلمون وإمامًا لمسجدها، فعُني بتربية ولده وتعليمه؛ فحفظ القرآن وتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب، ثم انتقل إلى طرابلس، ودخل المدرسة الرشيدية الابتدائية، وكانت تابعة للدولة العثمانية، وتعلم النحو والصرف ومبادئ الجغرافيا والحساب، وكان التدريس فيها باللغة التركية، وظل بها رشيد رضا عامًا، ثم تركها إلى المدرسة الوطنية الإسلامية بطرابلس سنة (1299هـ = 1882م)، وكانت أرقى من المدرسة السابقة، والتعليم فيها بالعربية، وتهتم بتدريس العلوم العربية والشرعية والمنطق والرياضيات والفلسفة الطبيعية، وقد أسس هذه المدرسة وأدارها الشيخ "حسين الجسر" أحد علماء الشام الأفذاذ ومن رواد النهضة الثقافية العربية، وكان يرى أن الأمة لا يصلح حالها أو ترتقي بين الأمم إلا بالجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا على الطريقة العصرية الأوربية مع التربية الإسلامية الوطنية.
    ولم تطل الحياة بتلك المدرسة فسرعان ما أُغلقت أبوابها، وتفرّق طلابها في المدارس الأخرى، غير أن رشيد رضا توثقت صلته بالشيخ الجسر، واتصل بحلقاته ودروسه، ووجد الشيخ الجسر في تلميذه نباهة وفهمًا، فآثره برعايته وأولاه عنايته، فأجازه سنة (1314هـ = 1897م) بتدريس العلوم الشرعية والعقلية والعربية، وهي التي كان يتلقاها عليه طالبه النابه، وفي الوقت نفسه درس "رشيد رضا" الحديث على يد الشيخ "محمود نشابة" وأجازه أيضًا برواية الحديث، كما واظب على حضور دروس نفر من علماء طرابلس، مثل: الشيخ عبد الغني ألرافعي، ومحمد القاوجي، ومحمد الحسيني، وغيرهم.

    في قريته:
    اتخذ الشيخ رشيد رضا من قريته الصغيرة ميدانًا لدعوته الإصلاحية بعد أن تزود بالعلم وتسلح بالمعرفة، وصفت نفسه بالمجاهدات والرياضيات الروحية ومحاسبة نفسه وتخليص قلبه من الغفلة وحب الدنيا، فكان يلقي الدروس والخطب في المسجد بطريقة سهلة بعيدة عن السجع الذي كان يشيع في الخطب المنبرية آنذاك، ويختار آيات من القرآن يحسن عرضها على جمهوره، ويبسط لهم مسائل الفقه، ويحارب البدع التي كانت شائعة بين أهل قريته.
    ولم يكتف الشيخ رضا بمن يحضر دروسه في المسجد، فذهب هو إلى الناس في تجمعاتهم في المقاهي التي اعتادوا على الجلوس فيها لشرب القهوة والنارجيلة، ولم يخجل من جلوسه معهم يعظهم ويحثهم على الصلاة، وقد أثمرت هذه السياسة المبتكرة، فأقبل كثير منهم على أداء الفروض والالتزام بالشرع والتوبة والإقبال على الله، وبعث إلى نساء القرية من دعاهن إلى درس خاص بهن، وجعل مقر التدريس في دار الأسرة، وألقى عليهن دروسًا في الطهارة والعبادات والأخلاق، وشيئًا من العقائد في أسلوب سهل يسير.

    الاتصال بالأستاذ الإمام:
    في الفترة التي كان يتلقى فيها رشيد رضا دروسه في طرابلس كان الشيخ محمد عبده قد نزل بيروت للإقامة بها، وكان محكومًا عليه بالنفي بتهمة الاشتراك في الثورة العرابية، وقام بالتدريس في المدرسة السلطانية ببيروت، وإلقاء دروسه التي جذبت طلبة العلم بأفكاره الجديدة ولمحاتة الذكية، وكان الشيخ محمد عبده قد أعرض عن السياسة، ورأى في التربية والتعليم سبيل الإصلاح وطريق الرقي، فركز جهده في هذا الميدان.
    وعلى الرغم من طول المدة التي مكثها الشيخ محمد عبده في بيروت فإن الظروف لم تسمح لرشيد رضا بالانتقال إلى المدرسة السلطانية والاتصال بالأستاذ الإمام مباشرة، والتلمذة على يديه، وكان التلميذ النابه شديد الإعجاب بشيخه، حريصًا على اقتفاء أثره في طريق الإصلاح، غير أن الفرصة سنحت له على استحياء، فالتقى بالأستاذ الإمام مرتين في طرابلس حين جاء إلى زيارتها؛ تلبية لدعوة كبار رجالها، وتوثقت الصلة بين الرجلين، وازداد تعلق رشيد رضا بأستاذه، وقوي إيمانه به وبقدرته على أنه خير من يخلف "جمال الدين الأفغاني" في ميدان الإصلاح وإيقاظ الشرق من سباته.
    وحاول رشيد رضا الاتصال بجمال الدين الأفغاني والالتقاء به، لكن جهوده توقفت عند حدود تبادل الرسائل وإبداء الإعجاب، وكان جمال الدين في الآستانة يعيش بها كالطائر الذي فقد جناحيه فلا يستطيع الطيران والتحليق، وظل تحت رقابة الدولة وبصرها حتى لقي ربه سنة (1314هـ = 1897م) دون أن تتحقق أمنية رشيد رضا في رؤيته والتلمذة على يديه.

    في القاهرة:
    لم يجد رشيد رضا مخرجًا له في العمل في ميدان أفسح للإصلاح سوى الهجرة إلى مصر والعمل مع محمد عبده تلميذ الأفغاني حكيم الشرق، فنزل الإسكندرية في مساء الجمعة (8 من رجب 1315 هـ = 3 من يناير 1898م)، وبعد أيام قضاها في زيارة بعض مدن الوجه البحري نزل القاهرة واتصل على الفور بالأستاذ الإمام، وبدأت رحلة جديدة لرشيد رضا كانت أكثر إنتاجًا وتأثيرًا في تفكيره ومنهجه الإصلاحي.
    ولم يكد يمضي شهر على نزوله القاهرة حتى صارح شيخه بأنه ينوي أن يجعل من الصحافة ميدانًا للعمل الإصلاحي، ودارت مناقشات طويلة بين الإمامين الجليلين حول سياسة الصحف وأثرها في المجتمع، وأقنع التلميذ النجيب شيخه بأن الهدف من إنشائه صحيفة هو التربية والتعليم، ونقل الأفكار الصحيحة لمقاومة الجهل والخرافات والبدع، وأنه مستعد للإنفاق عليها سنة أو سنتين دون انتظار ربح منها.

    مجلة المنار:
    صدر العدد الأول من مجلة المنار في (22 من شوال 1315هـ = من مارس 1898م)، وحرص الشيخ رشيد على تأكيد أن هدفه من المنار هو الإصلاح الديني والاجتماعي للأمة، وبيان أن الإسلام يتفق والعقل والعلم ومصالح البشر، وإبطال الشبهات الواردة على الإسلام، وتفنيد ما يعزى إليه من الخرافات.
    وأفردت المجلة إلى جانب المقالات التي تعالج الإصلاح في ميادينه المختلفة بابًا لنشر تفسير الشيخ محمد عبده، إلى جانب باب لنشر الفتاوى والإجابة على ما يرد للمجلة من أسئلة في أمور اعتقادية وفقهية، وأفردت المنار أقسامًا لأخبار الأمم الإسلامية، والتعريف بأعلام الفكر والحكم والسياسة في العالم العربي والإسلامي، وتناول قضايا الحرية في المغرب والجزائر والشام والهند.
    ولم يمض خمس سنوات على صدور المجلة حتى أقبل عليها الناس، وانتشرت انتشارًا واسعًا في العالم الإسلامي، واشتهر اسم صاحبها حتى عُرف باسم رشيد رضا صاحب المنار، وعرف الناس قدره وعلمه، وصار ملجأهم فيما يعرض لهم من مشكلات، كما جاء العلماء يستزيدون من عمله، وأصبحت مجلته هي المجلة الإسلامية الأولى في العالم الإسلامي، وموئل الفتيا في التأليف بين الشريعة والعصر.
    وكان الشيخ رشيد يحرر معظم مادة مجلته على مدى عمرها المديد، يمده زاد واسع من العلم، فهو عالم موسوعي ملم بالتراث الإسلامي، محيط بعلوم القرآن، على دراية واسعة بالفقه الإسلامي والسنة النبوية، عارف بأحوال المجتمع والأدوار التي مر بها التاريخ الإسلامي، شديد الإحاطة بما في العصر الذي يعيش فيه، خبير بأحوال المسلمين في الأقطار الإسلامية.

    منهجه في الإصلاح
    كتب رشيد مئات المقالات والدراسات التي تهدف إلى إعداد الوسائل للنهوض بالأمة وتقويتها، وخص العلماء والحكام بتوجيهاته؛ لأنهم بمنزلة العقل المدبر والروح المفكر من الإنسان، وأن في صلاح حالها صلاح حال الأمة، وغير ذلك بقوله: "إذا رأيت الكذب والزور والرياء والنفاق والحقد والحسد وأشباهها من الرذائل فاشية في أمة، فاحكم على أمرائها وحكامها بالظلم والاستبداد وعلى علمائها ومرشديها بالبدع والفساد، والعكس بالعكس".
    واقترح رشيد رضا لإزالة أسباب الفرقة بين المسلمين تأليف كتاب يضم جميع ما اتفقت عليه كلمة المسلمين بكل فرقهم، في المسائل التي تتعلق بصحة الاعتقاد وتهذيب الأخلاق وإحسان العمل، والابتعاد عن مسائل الخلاف بين الطوائف الإسلامية الكبرى كالشيعة، وتُرسل نسخ بعد ذلك من هذا الكتاب إلى جميع البلاد الإسلامية، وحث الناس على دراستها والاعتماد عليها.
    وطالب بتأليف كتب تهدف إلى توحيد الأحكام، فيقوم العلماء بوضع هذه الكتب على الأسس المتفق عليها في جميع المذاهب الإسلامية وتتفق مع مطالب العصر، ثم تُعرض على سائر علماء المسلمين للاتفاق عليها والتعاون في نشرها وتطبيق أحكامها.

    التربية والتعليم:
    كان الشيخ رشيد رضا من أشد المنادين بأن يكون الإصلاح عن طريق التربية والتعليم، وهو في ذلك يتفق مع شيخه محمد عبده في أهمية هذا الميدان،
    "فسعادة الأمم بأعمالها، وكمال أعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف فيها".
    وحدد "رشيد رضا" العلوم التي يجب إدخالها في ميدان التربية والتعليم لإصلاح شئون الناس، ودفعهم إلى مسايرة ركب العلم والعرفان، مثل: علم أصول الدين، علم فقه الحلال والحرام والعبادات، التاريخ، الجغرافيا، الاجتماع، الاقتصاد، التدبير المنزلي، حفظ الصحة، لغة البلاد، والخط.
    ولم يكتف بدور الموجه والناصح، وإنما نزل ميدان التعليم بنفسه، وحاول تطبيق ما يراه محققًا للآمال، فأنشأ مدرسة دار الدعوة والإرشاد لتخريج الدعاة المدربين لنشر الدين الإسلامي، وجاء في مشروع تأسيس المدرسة أنها تختار طلابها من طلاب العلم الصالحين من الأقطار الإسلامية، ويُفضل من كانوا في حاجة شديدة إلى العلم كأهل جاوه والصين، وأن المدرسة ستكفل لطلابها جميع ما يحتاجون إليه من مسكن وغذاء، وأنها ستعتني بتدريس طلابها على التمسك بآداب الإسلام وأخلاقه وعبادته، كما تُعنى بتعليم التفسير والفقه والحديث، فلا خير في علم لا يصحبه خلق وسلوك رفيع، وأن المدرسة لا تشغل بالسياسة، وسيُرسل الدعاة المتخرجون إلى أشد البلاد حاجة إلى الدعوة الإسلامية.
    وقد افتتحت المدرسة في ليلة الاحتفال بالمولد النبوي سنة (1330هـ = 1912م) في مقرها بجزيرة الروضة بالقاهرة، وبدأت الدراسة في اليوم التالي للاحتفال، وكانت المدرسة تقبل في عداد طلبتها شباب المسلمين ممن تتراوح أعمارهم ما بين العشرين والخامسة والعشرين، على أن يكونوا قد حصلوا قدرًا من التعليم يمكنهم من مواصلة الدراسة.
    غير أن المدرسة كانت في حاجة إلى إعانات كبيرة ودعم قوي، وحاول رشيد رضا أن يستعين بالدولة العثمانية في إقامة مشروعه واستمراره لكنه لم يفلح، ثم جاءت الحرب العالمية لتقضي على هذا المشروع، فتعطلت الدراسة في المدرسة، ولم تفتح أبوابها مرة أخرى.

    مؤلفاته
    بارك الله في عمر الشيخ الجليل وفي وقته رغم انشغاله بالمجلة التي أخذت معظم وقته، وهي بلا شك أعظم أعماله، فقد استمرت من سنة (1316هـ = 1899م) إلى سنة (1354 = 1935م)، واستغرقت ثلاثة وثلاثين مجلدًا ضمت 160 ألف صفحة، فضلاً عن رحلاته التي قام بها إلى أوربا والآستانة والهند والحجاز، ومشاركته في ميادين أخرى من ميادين العمل الإسلامي.
    ومن أهم مؤلفاته "تفسير المنار" الذي استكمل فيه ما بدأه شيخه محمد عبده الذي توقف عند الآية (125) من سورة النساء، وواصل رشيد رضا تفسيره حتى بلغ سورة يوسف، وحالت وفاته دون إتمام تفسيره، وهو من أجل التفاسير. وله أيضًا: الوحي المحمدي ونداء للجنس اللطيف، وتاريخ الأستاذ الإمام والخلافة، والسنة والشيعة، وحقيقة الربا، ومناسك الحج.

    وفاة الشيخ
    كان للشيخ رشيد روابط قوية بالمملكة العربية السعودية، فسافر بالسيارة إلى السويس لتوديع الأمير سعود بن عبد العزيز وزوده بنصائحه، وعاد في اليوم نفسه، وكان قد سهر أكثر الليل، فلم يتحمل جسده الواهن مشقة الطريق، ورفض المبيت في السويس للراحة، وأصر على الرجوع، وكان طول الطريق يقرأ القرآن كعادته، ثم أصابه دوار من ارتجاج السيارة، وطلب من رفيقيه أن يستريح داخل السيارة، ثم لم يلبث أن خرجت روحه الطاهرة في يوم الخميس الموافق (23 من جمادى الأولى 1354هـ = 22 من أغسطس 1935م)، وكانت آخر عبارة قالها في تفسيره: "فنسأله تعالى أن يجعل لنا خير حظ منه بالموت على الإسلام".

    مصادر الدراسة:
    *- أحمد الشرباصي : رشيد رضا صاحب المنار – إصدارات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – القاهرة.
    *- إبراهيم ألعدوي – رشيد رضا الإمام المجاهد – المؤسسة المصرية العامة للتأليف – القاهرة – بدون تاريخ.
    *- أنور الجندي – أعلام وأصحاب أقلام – دار نهضة مصر للطبع والنشر – القاهرة – بدون تاريخ.

    المنار.. من رضا إلى البنا
    (في ذكرى صدورها: 22 من شوال 1315هـ)
    أحمد تمام
    كانت مجلة المنار في عصرها أكبر مجلة إسلامية في العالم الإسلامي، وأعظمها صيتًا، وأكثرها تأثيرًا، ولا تزال حتى اليوم تحتل مكانة مرموقة في الصحافة الإسلامية، على الرغم من انقطاع صدورها منذ نحو سبعين عامًا، وصدور عشرات المجلات الإسلامية في مختلف الدول والبلدان.
    أحدث صدور المنار دويًا هائلاً ونشاطًا واسعًا، وتغيرًا في الرأي والتفكير، ولم يكن وراء هذه المجلة العظيمة مؤسسة تنفق عليها وتشرف على طبعها وتحريرها، بل كان يقف وراءها رجل عصامي وإمام فقيه ومجاهد عظيم هو محمد رشيد رضا.
    صاحب المجلة.. وفكرة إصدارها
    وصاحب هذا العمل الكبير هو الشيخ محمد رشيد رضا، أحد رواد الإصلاح في العالم الإسلامي، ولد في إحدى قرى لبنان، وتلقى تعليمه هناك، واشتغل بالدعوة والإصلاح في بلدته، ومال في بادئ حياته إلى الزهد والمجاهدة والوعظ والإرشاد، ثم شاء له القدر أن يقع في يديه بعض أعداد من مجلة "العروة الوثقى" التي كان يصدرها من باريس الإمامان: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، فقرأ مقالاتها وتأثر بها غاية التأثر، وتغير كثير من أفكاره، وهو ما عبر عنه بقوله: "ولقد أحدث لي هذا الفهم الجديد في الإسلام رأيًا فوق الذي كنت أراه في إرشاد المسلمين، فقد كان همي قبل ذلك محصورًا في تصحيح عقائد المسلمين، ونهيهم عن المحرمات، وحثهم على الطاعات، وتزهيدهم في الدنيا، فتعلقت نفسي بعد ذلك بوجوب إرشاد المسلمين عامة إلى المدنية، والمحافظة على ملكهم، ومباراة الأمم العزيزة في العلوم والفنون والصناعات، فطفقت استعد لذلك استعدادًا...".
    ثم سنحت له الفرصة أن يلتقي بالإمام محمد عبده مرتين حين زار طرابلس، وازداد إعجابه به بعد المقابلتين، واشتد تعلقه به، وقوي إيمانه بأنه خير من يخلف جمال الدين الأفغاني في ميدان الإصلاح وإيقاظ الشرق من سباته. ولم يجد رشيد رضا ميدانًا أفسح له للعمل والإصلاح من مصر، فهاجر إليها، وقابل شيخه محمد عبده في القاهرة في (شعبان 1315هـ=فبراير 1898م)، ولم يكد يمضي شهر على نزوله القاهرة حتى فاتح أستاذه بأنه ينوي أن يصدر صحيفة يكون هدفها التربية والتعليم، ونشر الأفكار الصحيحة، ومقاومة الجهل والتخلف والبدع والخرافات.
    صدور المنار
    وبعد مناقشة حامية بين الرجلين المصلحين أيد محمد عبده تلميذه فيما يطمح إليه، وعرض رشيد رضا عدة أسماء للجريدة، من بينها المنار، ليختار منها محمد عبده ما يراه مناسبًا، فاختار "المنار"، وكان هذا هو الاسم الذي ارتاحت له نفس رشيد رضا كذلك، وصدر العدد الأول من مجلة المنار في (22 من شوال 1315هـ=15 من مارس 1898م)، وكانت أسبوعية، يتألف كل عدد منها من ثماني صفحات كبيرة على صورة الجريدة اليومية.
    وحددت افتتاحية العدد الأول أهداف المجلة التي تتركز في الإصلاح الديني والاجتماعي للأمة وإبطال الشبهات الواردة على الإسلام، وتفنيد ما يعزى إليه من خرافات، وتربية البنين والبنات، وإصلاح كتب التعليم وطريقة التأليف، ودفع الأمة على مجاراة الأمم المتقدمة في مختلف المجالات. وحرص رشيد رضا على أن يعرض على أستاذه الإمام محمد عبده كل ما يكتبه من مقالات، ليسمع منه توجيهاته وإرشاداته.
    وبعد عام من الصدور صارت المجلة تصدر على شكل مجلة أسبوعيًا، ثم أصبحت في العام التالي تصدر مرتين في الشهر، وبعد سنوات صارت تصدر كل شهر عربي مرة، وكان الشيخ رشيد يكتب على الصفحة الأولى :
    "المنار مجلة شهرية تبحث في فلسفة الدين وشؤون الاجتماع والعمران"
    وكانت المنار تطبع في أول عهدها في مطبعة المؤيد التي كان يملكها الشيخ علي يوسف، ثم اشترى رشيد رضا مطبعة خاصة للمنار، يطبع فيها المجلة، وغيرها من كتبه ومطبوعاته.
    موضوعاتها
    كانت المجلة تستهل عددها بتفسير القرآن الكريم، وهو إما بقلم الشيخ محمد عبده أو سائر على طريقته، ثم تأتي "فتاوى المنار" حيث تنشر فيها الإجابات على الأسئلة التي تتناول أمورًا فقهية أو اعتقادية تلقاها الشيخ رشيد من قرائه، ثم تأتي بعد ذلك بعض المقالات الدينية أو الاجتماعية أو التاريخية، أو بعض الخطب المهمة للشيخ رشيد أو لغيره من كبار الخطباء، ومن الأبواب الثابتة التي كانت تلتزم بها المجلة "باب المراسلة والمناظرة" وباب بعنوان: "آثار علمية وأدبية"، وباب للأخبار والآراء، وآخر بعنوان: "تراجم الأعيان".
    وكان رشيد رضا يكتب أغلب ما ينشر في المنار، على مدى عمرها المديد، وهو لا يوقّع مقالاته وبحوثه في المنار باستثناء الافتتاحية، ويقرر أن كل ما يكتب في المنار دون إمضاء فهو له، وكان وراء ذلك همة عالية، وزاد واسع من العلم، فرشيد رضا عالم موسوعي، ملم بالتراث الإسلامي، متمكن من علوم القرآن، على دراية عميقة بالفقه والحديث، مدرك لأحوال مجتمعه وعلله وأمراضه، شديد الإحاطة بما يدور في عصره الذي يعيش فيه، خبير بأحوال المسلمين في أقطارهم المختلفة.
    ولم تقتصر المجلة على البحوث الدينية، بل نشرت كثيرًا من المقالات عن السنن الكونية، والطب والصحة، وأفردت مساحات للأدب والشعر والقصة الطريفة، والبحث اللغوي الشائق، وكانت تنقل عن المجلات الأخرى عيون مقالاتها أو بحوثها الجيدة، مثل: مجلة المقتطف، وصحيفة المؤيد، والتزمت أمانة النقل فكانت تذكر المصدر الذي أخذت عنه.
    وشارك الشيخ رشيد في الكتابة في المنار أعلام الأمة من الأدباء والشعراء والعلماء، أمثال: أحمد الإسكندري، وحفني ناصف، ومصطفى صادق الرافعي، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وحافظ إبراهيم، وعبد المحسن الكاظمي، ومحمد روحي الخالدي، وعبد القادر المغربي، وشكيب أرسلان، ومحمد الخضر حسين، ورفيق العظم، وملك حفني ناصف، وهؤلاء جميعًا كانوا يتولون قيادة الفكر وتوجيه الناس في معظم أنحاء العالم العربي.
    قضاياها
    عنيت المجلة فيما عنيت بإصلاح العقيدة ومحاربة البدع والخرافات الشائعة في المجتمع، ونشر الفكر الصحيح، ونقد ما يحدث من انحرافات في الموالد الصوفية من منكرات، وما يقوم به بعض الناس من التبرك بالأولياء الأموات، وكانت المجلة شديد اللهجة، قوية الخطاب في معالجة هذا الوضع.
    واهتمت المنار بالتربية والتعليم باعتبارهما جوهر دعوة محمد عبده للإصلاح، ولا يكاد يخلو عدد من المنار من مقال في هذا الموضوع؛ ووقفت إلى جانب حركة تحرير المرأة في نطاق الشريعة الإسلامية، وحاربت الدعوة إلى العامية، واستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، وهاجمت العادات السيئة التي تسربت إلينا من الغرب نتيجة الاتصال بهم، في الوقت الذي نادت فيه بضرورة مسايرة أوروبا في مجال العلوم الحديثة ومباراتهم في الصناعات والاختراعات.
    انتشارها
    صدرت المنار والناس في شوق إلى معرفة دينهم، وتطلع إلى التقدم والإصلاح، فلقيت ترحيبًا حذرًا في أول صدورها، وتوجست منها الدولة العثمانية لجرأتها في العرض، وتناولها موضوعات جديدة، فمنعت دخولها في بعض بلدانها، غير أنها أخذت طريقها تدريجيًا إلى الناس وزاد إقبالهم عليها، وكثر المشتركون فيها، وانتشرت في أنحاء العالم الإسلامي، وأصبحت طريقتها في الكتابة والتحرير نموذجًا تحتذيه كثير من الصحف الإسلامية، ولم يكد العام الثاني عشر من عمرها يمر عليها إلا وتدعمت مكانتها وتبوأت ما تستحق من مكانة وتقدير، وتنافس الناس في اقتناء أعدادها القديمة والجديدة، وبيعت الأعداد الأولى بأضعاف ثمنها.
    وامتد تأثير المجلة إلى كثير من الأقطار الإسلامية، وصار لها مؤيدون ومحبون، كونوا مدارس فكرية في هذه الأقطار، وقد أشار إلى ذلك كتاب "وجهة الإسلام" الذي قام بتأليفه جماعة من المستشرقين على رأسهم هاملتون جب، فقال: "ولم يشرق منار الإسلام على المصريين وحدهم، ولكنه أشرق على العرب في بلادهم وخارجها وعلى المسلمين في أرخبيل الملايو الذين درسوا في الجامعة الأزهرية، وعلى الإندونيسي المنعزل الذي ظل محافظًا على علاقاته بقلب العالم الإسلامي بعد عودته لبلاده النائية.. وقد أصبح الذين اقتبسوا من نور المنار منارات صغرى في إندونيسيا بعد أن عادوا إليها…".
    ولم يكن استمرار مجلة المنار في الصدور أمرًا هينًا وسهلاً، بل صادفت صعوبات كثيرة، وأزمات مادية، ومنافسة من مجلات أخرى؛ وهجومًا من أعداء لها ضاقوا بفكرتها الإصلاحية ودعوتها التحريرية الواعية، ولم يكن الشيخ يملك جاهًا أو سلطانًا، بل كان يملك عقلاً واعيًا وقلبًا صادقًا، ورغبة ملحة في الإصلاح، وهمة عالية في الصبر والثبات ومواجهة الأزمات، ساعده ذلك على الاستمرار في صدور مجلته، وإن تعثرت أحيانًا عن الصدور شهرًا أو شهرين، لكنها لم تتوقف تمامًا حتى وفاته في (27 من جمادى الأولى 1354هـ=22 من أغسطس 1935م).
    بعد وفاة مؤسسها
    توقفت المجلة سبعة أشهر بعد وفاة الشيخ رشيد رضا، ثم أسندت رئاسة تحريرها إلى الشيخ "بهجت البيطار" من علماء سوريا المعروفين، فقام على تحريرها، وحاول إكمال التفسير الذي كان ينهض به الشيخ، فأتم تفسير سورة يوسف، ثم توقفت المنار مرة أخرى لمدة تقترب من ثلاث سنوات.
    ثم أسندت أسرة الشيخ إصدار المجلة إلى الإمام المرشد "حسن البنا" مؤسس جماعة الإخوان المسلمين وكان مقدرًا للمجلة وصاحبها، فأصدر العدد الأول الجديد في (غرة جمادى الآخرة 1358هـ=18 من يوليو 1939م) بعد تردد، وكان لرجوعها مرة أخرى صدى واسع، عبر عنه الإمام محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر بكلمة في افتتاحية الإصدار الجديد، قدم فيه حسن البنا إلى قراء المنار، مشيدًا بعلمه وقدرته في مجال الدعوة الإسلامية.
    وواصلت المجلة صدورها لكنه كان بطيء الخطى، والمهام جسيمة على رجل مثقل بالمسئوليات، مشغول بأعباء كثيرة، فلم يتمكن من الاستمرار، وتوقفت المجلة بعد أن صدر منها ستة أعداد على مدى أربعة عشر شهرًا، وذلك في سنة (1359هـ=1940م).
    مصادر الدراسة:
    · أحمد الشرباصي: رشيد رضا، الصحفي، المفسر، الشاعر – مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية – القاهرة – 1977م.
    · إبراهيم العدوي: رشيد رضا، الإمام المجاهد – الدار المصرية للتأليف والترجمة – القاهرة – بدون تاريخ.
    · أنور الجندي: إعلام وأصحاب أقلام – دار نهضة مصر – القاهرة – بدون تاريخ.
    · محمود منصور هيبة: الصحافة الإسلامية في مصر – دار الوفاء للطباعة والنشر – المنصورة – مصر – 1410=1990.
    سامي عبد العزيز الكومي: الصحافة الإسلامية في القرن التاسع عشر – دار الوفاء للطباعة والنشر – المنصورة – مصر – 1413هـ=1992م.
يعمل...
X