إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

بداية كتاب مذكرات ( همنفر) الجاسوس البريطاني مع محمد عبد الوهاب-1

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بداية كتاب مذكرات ( همنفر) الجاسوس البريطاني مع محمد عبد الوهاب-1

    مذكرات الجاسوس البريطاني همفر

    كتاب مذكرات الجاسوس البريطاني همفر مع مؤسس الحركة الوهابية محمد بن عبد الوهاب
    نشر مذكرات همفر في هذه النسخة الكاملة ليطلع عليها طالب الحقيقة وإن كانت لا تمثل دليلا قطعيا على تآمر الفرقة الوهابية إلا أننا سنرفق لاحقا منقولات من المؤرخين عرب وغربيين بل وحتى شيئا من تأريخ الوهابية لأنفسهم ليتبين للقارئ حقيقة هذه الفرقة.
    والجاسوس همفر هو الجاسوس البريطاني الشهير الذي التقى بمؤسس الحركة الوهابية الضال المدعو محمد بن عبدالوهاب لما كان في البصرة جتوبي العراق، ومن هناك تم بناء اولى الروابط في العلاقات الحميمة بين ابن عبدالوهاب وبين وزارة المستعمرات في الحكومة البريطانية التي استخدمته لضرب وحدة الصف الإسلامي وحاربت من خلاله الدولة العثمانية فأضعفتها داخليا، وتسببت لاحقا في انهيار الخلافة الاسلامية في اسطنبول، ثم حولت بريطانيا ابن عبدالوهاب ليكون اداة لقتل المسلمين في الطائف ومكة والمدينة وغيرها من بلاد المسلمين حيث كان الوهابية بعد ان أصبح لهم جيش يغيرون على قرى الشام فيقتلون رجال المسلمين ويسبون النساء والعياذ بالله تعالى من الضلال، و[همفر] هذا يكشف في المذكرات التي وضعها بعد عودته إلى وطنه الام بريطانيا جزءا مثيرا من هذه الحكاية وفي الموضوع: ترجمها للعربية السيد خ خ
    ***
    القسم الأول
    كانت دولة بريطانيا العظمى تفكر منذ وقت طويل حول إبقاء الإمبراطورية وسيعة كبيرة كما هي عليها الآن، من إشراق الشمس على بحارها حين تشرق وغروب الشمس في بحارها حين تغرب.
    فإن دولتنا كانت صغيرة بالنسبة إلى المستعمرات الكثيرة التي كنا نسيطر عليها في الهند والصين وفي الشرق الأوسط وغيرها. صحيح أننا لم نكن نسيطر سيطرة فعلية على أجزاء كبيرة من هذه البلاد لأنها كانت بيد أهاليها، إلا أن سياستنا فيها كانت سياسة ناجحة وفعالة، وكانت في طريق سقوطها بأيدينا كلية فكان اللازم علينا أن نفكر مرتين.
    مرة لأجل إبقاء السيطرة على ما تم السيطرة عليه فعلا .
    ومرة لأجل ضم مالم تتم السيطرة عليه فعلا إلى ممتلكاتنا ومستعمراتنا .
    وقد خصصت وزارة المستعمرات لكل قسم من اقسام هذه البلاد لجانا خاصة لأجل دراسة هذه المهمة، وكنت أنا من حسن الحظ مورد ثقة الوزير منذ دخلنا هذه الوزارة، وعهد إليّ بمهمة (شركة الهند الشرقية) التي كانت مهمتها في الظاهر تجارية بحتة، وفي الباطن تعزيز سبل السيطرة على الهند، وعلى طرقها الموصلة إلى هذه الأراضي الشاسعة الشبة القارة.
    وكانت الحكومة واثقة من الهند، حيث القوميات المختلفة، والأديان المتشتتة، واللغات المتباينة، والمصالح المتضاربة. كما كانت الحكومة واثقة من الصين حيث أن البوذية والكنفوشيوسية الغالبة على هذه البلاد لم تكونا يخشى من قيامهما، لأنهما دينان ميّتان يهتمان في الجانب الروحي، فلا صلة لهما بجانب الحياة. فكان من المستبعد أن يسرى الشعور بالوطنية في أهالي هاتين المنطقتين، ولذلك لم يكن يقلق بال حكومة بريطانيا العظمى هاتان المنطقتان. (نعم) لم نكن غافلين عن إمكانية تطور المستقبل، ولذا كنا نضع الخطط الطويلة الأمد لأجل سيطرة التفرقة والجهل والفقر وأحيانا المرض على هذه البلاد. وكنا لا نجد صعوبة في تغطية نوايانا بغطاء من المشتبهات النفسية لأهالي هذه البلاد براق في ظاهره متين في واقعه. فكنا بذلك نطبق المثل البوذي القديم دع المريض يشعر بحبه للدواء وأن كان مر المذاق.
    لكن الذي كان يقلق بالنا هى البلاد الإسلامية، فإننا وأن كنا قد عقدنا مع الرجل المريض (الامبراطورية العثمانية) عدة من المعاهدات كلها كانت في صالحنا، وكانت تقديرات خبراء وزارة المستعمرات أن الرجل المريض (الامبراطورية العثمانية) يلفظ نفسه في أقل من قرن.
    وكذلك كنا قد عقدنا مع حكومة الفرس – سرا- عدة معاهدات، وكنا قد زرعنا الجواسيس والعملاء في هذين البلدين، وكانت الرشوة و فساد الادارة وانشغال ملوكها بالنساء الحسناوات، قد نخرت في جسم هذين البلدين، إلا أننا لم نكن نثق بالنتائج، وذلك لعدة أسباب أهمها:
    قوة الإسلام في نفوس أبنائه، فإن الرجل المسلم يلقى قيادته إلى الإسلام بكل صلابة، حتى أنك ترى الإسلام في نفس المسلم بمنزلة المسيحية في نفوس القساوسة والرهبان، وتزهق نفوسهم ولا تخرج المسيحية منها. وكان المسلمون (الشيعة) في البلاد الفارسية أخطر، حيث أنهم يرون المسيحية كفارا نجسين، فإن المسيحي عند الشيعي بمنزلة القذارة المتعفنة في يد أحدنا حيث يصرف همته في إزالتها.
    وذات مرة سألت أحدهم: لماذا تنظرون إلى المسيحى بهذا المنظار؟ قال: إن نبي الإسلام كان رجلا حكيما وأراد أن يطوق كل كافر بدائرة من الضغط الأدبي لكي يحس بالضيق والوحشة ليكون من أسباب هدايته إلى الله وإلى الدين الصحيح، كما أن الحكومة إذا أحست من إنسان الخطر طوقته بدائرة من المقاطعة حتى يرجع إلى الطاعة والانقياد، والنجاسة التي ذكرتها هى نجاسة معنوية لا مادية ظاهرية، وهي ليست خاصة بالمسيحية بل تشمل كل كافر حتى المجوس الذين هم باريسيون من القديم هم نجس في منطق الإسلام.
    قلت له: حسنا ولكن لماذا المسيحيون نجس وهم يعتقدون بالله والرسالة ويوم الميعاد؟ قال: لأمرين (الأول) أنهم ينكرون نبينا محمدا، وهذا يعني أنهم يقولون أن محمدا كاذب، ونحن في قبال هذا الاتهام نقول أنتم أيها المسيحيون نجس طبقا لقانون العقل الحاكم بأن من آذاك فلك أن تؤذية.
    (الثاني) أنهم ينسبون إلى أنبياء الله أنسابا غير لائقة، مثل أنهم يقولون أن المسيح كان يشرب الخمر.
    قلت له في دهشة: لا يقول المسيحيون هكذا. قال : أنت لا تعلم أنهم في (الكتاب المقدس) عندهم يقولون ذلك. فسكتُ وأنا واثق بأن الرجل كان كاذبا في الأمر الثاني، وإن كان صادقا في الأمر الأول، ولم أرد أن أطوّل معه النقاش لأني خشيت أن تثار حولي شبهة، حيث كنت أنا في الزى الإسلامي وكنت أتجنب الزاوية الحادة دائما.
    إن الإسلام كان ذات يوم دين حياة وسيطرة، ومن الصعب عليك أن تقول للسادة أنتم عبيد، فأن نخوة السيادة تدفع بالإنسان إلى التعالي مهما كان في ضعف و انحطاط. ولم يكن بإمكاننا أن نزيف تاريخ الإسلام حتى نشعر المسلمين بأن السيادة التي حازوها كانت بفعل ظروف خاصة قد ولت إلى غير رجعة.
    لم نكن نأمن من تحرك الوعى في نفوس العثمانيين وحكام فارس بما يوجب فشل خططنا الرامية إلى السيطرة. صحيح أن الحكومتين قد بلغتا من الضعف مبلغا كبيرا كما ألمحنا إليه إلا أن وجود حكومة مركزية يواليها الناس و بيدها السيادة والمال والسلاح يجعل الإنسان غير آمن.
    كنا شديدي القلق من علماء المسلمين، فعلماء الازهر، وعلماء العراق، وعلماء فارس كانوا أمنع سدا أمام آمالنا، فأنهم كانوا في غاية الجهل في مبادىء الحياة العصرية، وقد جعلوا نصب أعينهم الجنة التي وعدهم بها القرآن. فكانوا لا يتنازلون قدر شعرة عن مبادئهم، وكان الشعب يتبعهم والسلطان يخشاهم خوف الفئران من الهرة. صحيح أن أهل السنة كانوا أقل اتباعا لعلمائهم، فأنهم يقيمون الولاء بين السلطان وبين شيخ الإسلام. وأهل الشيعة كانوا أشد ولاء للعلماء لأنهم يخلصون الولاء للعالم فقط، ولا يعيرون السلطان أهمية كافية، إلا أن هذا الفرق لم يكن ليخفف شيئا من القلق الذي كان يساور وزارة المستعمرات بل كل حكام بريطانيا العظمى.
    وقد عقدنا المؤتمرات الكثيرة، نلتمس الحلول الكافية لهذه المشاكل المقلقة، لكننا في كل مرة لم نجد أمامنا إلا الطريق المسدود. وكانت التقارير التي تأتينا بانتظام من العملاء والجواسيس مخيبة للآمال، كما كانت نتائج المؤتمرات كلها صفرا أو تحت الصفر. لكننا لم نكن ندع المجال لليأس فينا، حيث عودنا أنفسنا النفس الطويل، والصبر الا متناهى. وأذكر ذات مرة عقدنا مؤتمرا حضره الوزير بشخصه وأكبر القساوسة وعدد من الخبراء، وكان عددنا جميعا عشرين شخصا، وطال النقاش أكثر من ثلاث ساعات وأنتهينا بدون أية نتيجة، إلا أن القس قال: لا تنزعجوا، فأن المسيح لم يصل إلى الحكم إلا بعد ثلاثمائة سنة من الاضهاد والتشريد له ولأتباعه، وعسى أن ينظر إلينا المسيح نظرة من ملكوته فيمنحنا إزالة الكفار عن مراكزهم ولو بعد ثلاثمائة سنة، فعلينا أن نتسلح بالإيمان الراسخ والصبر الطويل وإتخاذ كافة الوسائل والسبل للسيطرة ونشر المسيحية في ربوع المحمديين ولو وصلنا إلى النتيجة بعد قرون، فأن الآباء يزرعون للأبناء.
    وحتى أنه -ذات مرة- عُقد في الوزارة مؤتمر حضره ممثلون من كل من بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا وكان مؤتمرا في أعلى المستويات، وكان الحاضرون لفيفا من الهيئات الدبلوماسية ورجال الدين، وكان من حسن حظي أن حضرت المؤتمر لعلاقتي الوطيدة بالوزير، وعرض المؤتمرون مشاكل المحمديين عرضا وافيا حيث ذكروا فيه سبل تمزيقهم وسلخهم عن عقيدتهم وأرجاعهم إلى حظيرة الإيمان كما رجعت إسبانيا إليها بعد قرون من غزو المحمديين البرابرة لها. لكن النتائج لم تكن بالمستوى المطلوب، وقد كتبت أنا كل ما دار من نقاش في ذلك المؤتمر في كتابي - إلى ملكوت المسيح:
    أنه من الصعب أن تقلع جذور شجرة أمتدت إلى شرق الارض وغربها، لكن الإنسان يجب عليه أن يذلل الصعاب مهما كان الثمن. إن المسيحية لم تأتي إلا لتنتشر، وقد وعدنا بذلك السيد المسيح نفسه، أما محمد فقد ساعده ظرف انحطاط العالمين الشرقى والغربي، وظروف الانحطاط إذا ولّت فقد يذهب معه أيضا ما رافقه من ويلات. ومن حسن الظن أن الأمر قد انعكس فقد إنحط المحمديون وارتفعت بلاد المسيح، فإنه الوقت لأن نطلب الثأر ونسترجع ما فقدناه طيلة قرون، وهاهى دولة قوية عصرية هى بريطانيا العظمى تأخذ بزمام هذه المبادرة المباركة.
    أوفدتني وزارة المستعمرات عام (1710) إلى كل من مصر والعراق وطهران والحجاز والاستانة لأجمع المعلومات الكافية التي تعزز سبل تمزيقنا للمسلمين، ونشر السيطرة على بلاد الإسلام.
    وبُعث في نفس الوقت تسعة آخرين من خيرة الموظفين لدى الوزارة، ممن تكتمل فيهم الحيوية والنشاط والتحمس لسيطرة الحكومة على سائر أجزاء الامبراطورية، وسائر بلاد المسلمين، وقد زودتنا الوزارة بالمال الكافي، والمعلومات اللازمة والخرائط الممكنة، وأسماء الحكام العلماء والحكام ورؤساء القبائل، ولم أنسى كلمة السكرتير حين ودعنا باسم السيد المسيح وقال: إن على نجاحكم يتوقف مستقبل بلادنا فابدوا ما عندكم من طاقات النجاح.
    فأبحرت أنا جهة الاستانة مركز الخلافة الإسلامية، وكانت مهمتى مزدوجة. وحيث كان من المفروض أن أكمل تعليمى للغة التركية، لغة المسلمين هناك، فقد كنت تعلمت شيئا كثيرا عن ثلاث لغات في لندن، اللغة التركية ولغة العرب (لغة القرآن) واللغة الفلهوية لغة أهل فارس. لكن تعلم اللغة شيء والسيطرة على اللغة حتى يتمكن الإنسان أن يتكلم مثل لغة أهل البلاد شيء آخر.
    فبينما لا يستغرق الأول إلا سنوات قلائل، يستغرق الأمر الثاني أضعاف ذلك الوقت، فإن المفروض أن أتعلم اللغة بكافة دقائقها حتى لا يثار حولي شبهة.
    ولكني لم أكن أقلق لهذه الجهة لأن المسلمين عندهم تسامح ورحابة صدر وحسن ظن كما علمهم نبيهم، فالشبهة عندهم لا تكون كالشبهة عندنا. ومن طرف آخر فإن حكومة الأتراك لم تكن في المستوى الائق لكشف الجواسيس والعملاء، فقد كانت حكومة آخذة في الضعف والهزال مما يؤمن جانبنا.
    وبعد سفرة مضنية وصلت إلى استانة وسميت نفسى (محمدا) وأخذت أحضر المسجد (مكان إجتماع المسلمين لعبادتهم) وراقني النظام والنظافة والطاعة التي وجدتها عندهم، وقلت في نفسى: لماذا نحارب نحن هؤلاء البشر؟ ولماذا نعمل من أجل تمزيقهم وسلب نعمهم؟ هل أوصانا المسيح بذلك؟ لكني رجعت فورا واستنفرت من هذا التفكير الشيطاني، وجددت العزم على أن أشرب إلى آخر الكأس.
    وقد التقيت هناك بعالم طاعن في السن أسمه (أحمد أفندم) وكان من طيب النفس ورحابة الصدر وصفاء الضمير وحب الخير، ما لم أجده في أحسن رجال ديننا، وكان الشيخ يحاول ليله ونهاره في أن يتشبّه بالنبي محمد، فكان يجعله المثل الأعلى، وكلما ذكره فاضت عيناه بالدموع. ومن حسن الحظ أنه لم يسألني -حتى مرة واحدة- عن أصلي ونسبي، وإنما كان يخاطبني (محمد أفندى) ويعلمني ما كنت أسئله ويحن عليّ حنوا كبيرا لما عرف أني ضيف في بلادهم جئت لأن أعمل، ولأجل أن أكون في ظل السلطان الذي يمثل النبي محمد، فقد كانت هذه حجتى في البقاء في الاستانة.
    وكنت قد قلت للشيخ: أني شاب قد مات أبي وأمي وليس لي إخوة، وتركوا لي شيء من المال ففكرت أن أكتسب وأن أتعلم القرآن والسنة، فجئت إلى مركز الإسلام لأحصل على الدين والدنيا.
    فرحب بي الشيخ كثيرا وقال لي ما نصه وقد كتبته بلفظه إن الواجب أن نحترمك لعدة أسباب:
    لأنك مسلم والمسلمون أخوة .
    ولأنك ضيف وقد قال رسول الله أكرموا الضيف .
    ولأنك طالب علم والإسلام يؤكد على إكرام طالب العلم .
    لأنك تريد الكسب وقد ورد نص بأن الكاسب حبيب الله .
    وقد أعجبت أنا بهذه الأمور أيما إعجاب، وقلت في نفسى يا ليت كانت المسيحية تعى مثل هذه الحقائق النيرة، لكني تعجبت كيف أن الإسلام في هذه الرفعة شمله الضعف والانحطاط على أيدى هؤلاء الحكام المغرورين والعلماء الجهلة بالحياة.
    قلت للشيخ: إنني أريد أن أتعلم القرآن المبين، فرحب الشيخ بالطلب وأخذ يعلمني من سورة الحمد ويفسر لي المعاني وقد كنت أجد مشقة في النطق ببعض ألفاظها وأحيانا كانت المشقة منتهاها.
    وأذكر أني لم أتعلم النطق بجملة (وعلى أمم ممن معك) إلا بعد تكرارها عشرات المرات في ظرف إسبوع، حيث قال لي الشيخ اللازم عليك الإدغام. وكيفما كان فقد قرأت القرآن عنده في مدة سنتين كاملتين من أوله إلي آخره، وكان إذا أراد تعليمى توضأ وضوء الصلاة وأمرني بالوضوء كما هو ونجلس جهة القبلة.
    والجدير بالذكر أن أذكر أن الوضوء عند المسلمين جملة من الاغتسال، فأولا يغسلون الوجه، وثانيا اليد اليمنى من الأصابع إلى المرفق، وثالثا اليد اليسرى من الأصابع إلى المرفق، ورابعا يمسحون الراس وخلف الأذنين والرقبة، وخامسا يغسلون الرجلين.
    ويقولون: الأفضل أن يدير الشخص الماء في فمه، وأن يسحب الماء إلى الأعلى في أنفه قبل البدء في الوضوء.
    وقد كنت أنزعج انزعاجا كبيرا من المسواك وهى__________________________يدخلونها في أفواههم لأجل تنظيف الأسنان قبل الوضوء، فقد كنت أعتقد أن هذه العودة تضر الأسنان والفم، وكانت أحيانا تجرح الفم ويخرج الدم منه، لكني كنت مجبورا، أن أفعل ذلك لأنها عندهم سنة مؤكدة أمر بها نبيهم محمد، وهم يذكرون لها فضائل كثيرة.
    لقد كنت أيام إقامتى في (الاستانة) أنام عند خادم المسجد لقاء ما أعطيه من المال وكان إنسانا عصبي المزاج واسمه (مروان أفندى) وهو اسم أحد أصحاب الرسول، وكان الخادم يعتز بهذا الاسم المبارك، وكان يقول لى: إن رزقت ولدا سمه (مروان) لأنه من كبار الشخصيات المجاهدة في الإسلام.
    وكنت أتعشى هناك عند الخادم حيث كان يهيىء لى الطعام، وأيام الجمعة وهى عيد المسلمين لم أكن أذهب إلى العمل، أما سائر الأيام فقد كنت أذهب إلى نجار هناك أشتغل عنده لقاء أجر زهيد، كان يدفعه لي أسبوعيا، وحيث كان عملي في فترة الصباح فقط، فقد كان يجرى لي نصف أجور عماله، وكان اسم النجار (خالد)، وكان يثرثر في أوقات فراغه عن فضائل (خالد بن الوليد) الفاتح الإسلامي الذي صحب محمد النبي وأبلى في الإسلام بلاء حسنا، لكنه كان يحز في نفسه – أي النجار - أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما تولى الخلافة عزل خالد بن الوليد. وكان خالد صاحب المحل سيىء الأخلاق، عصبي المزاج إلى أبعد حد، وكان يطمئن مني اطمئنانا لم أدر سببه، ولعله وثق بي حيث كنت مطيعا سماعا له، لا أناقشه في شؤونه الدينية ولا في شؤون دكانه. وكان إذا خلا بي طلب مني أن يلوط بي، وكان هذا العمل عندهم من أشد الممنوعات كما قال لى الشيخ أحمد، إلا أن خالدا كان لا يهتم بالشريعة في باطن أمره، وإن كان في ظاهر أمره ملتزما بالتظاهر عند رفاقه بها، و كان يحضر صلاة الجمعة، أما سائر الأيام لا أعلم هل كان يصلي أم لا؟ لكني كنت أمتنع عن إعطائه رغبته، وأظن أنه كان يعمل ذلك مع بعض آخر من عماله، حيث كان أحد العاملين شابا جميلا من (سيلانيك) وكان يهوديا قد أسلم، فكان يصحبه معه أحيانا إلى خلف المحل الذي كان مخزنا لأخشابه، و يتظاهران أنهما يذهبان هناك لإصلاح المخزن، لكني كنت أعلم أنهما يذهبان لقضاء الحاجة.
    كنت أتغذى في الدكان، ثم أذهب للصلاة في المسجد ثم أبقى في المسجد إلى وقت العصر، فإذا فرغت من صلاة العصر ذهبت إلى دار الشيخ أحمد وأبقى معه مدة ساعتين أتعلم عنده القرآن، واللغة التركية، واللغة العربية وفي كل جمعة كنت أدفع إليه زكاة ماحصلت عليه في الأسبوع من المال، و في الحقيقة الزكاة كانت رشوة مني له لاستمرار علاقتى به، ولأجل أن يعلمني أفضل تعليم، وكان هو لا يقصر في تعليمى القرآن ومباديء الإسلام ودقائق اللغتين العربية والتركية.
    ولما علم الشيخ أحمد أنني أعزب طلب إليّ أن يزوجني إحدى بناته لكني أبيت بحجة أنني (عنين) لا أملك ما يملكه الرجال، ولم أبد له هذا العذر إلا بعد أن أصر وكاد أن ينفصم معه علاقتى، من أجل أنه كان يقول: الزواج سنة الرسول وقد قال الرسول: من رغب عن سنتى فليس مني. وحينذاك لم أجد بدا من أظهار هذا المرض (المكذوب)، فاقتنع الشيخ وعادت العلاقة كما كانت من الود والصفاء.
    بعد إتمام سنتين من مكثي في ( الاستانة )، استأذنت العودة إلى وطني ولكن الشيخ لم يأذن قائلا:
    لماذا الرجوع؟ إن الاستانة فيها ما تشتهية الأنفس وتلذ الأعين وقد جمع الله فيها بين الدنيا والدين، وأردف، أنك قلت سابقا أنه مات أبوك وأمك وليس لك إخوة فاجعل الاستانة وطنك. ومع أن الشيخ كان يصر عليّ في البقاء لأنسه بي وكنت أنا أيضا أنست به أنسا كبيرا، لكن الواجب الوطني كان يجبرني بالرجوع إلى لندن لتقديم تقرير مفصل عن الأوضاع في عاصمة الخلافة، ولأتزود بأوامر جديدة حول مهمتي.
    وقد جرت العادة طيلة مكثى في الاستانة أن أقدم كل شهر تقريرا عن حالي وعن التطورات وعما شاهدته إلى وزارة المستعمرات، وأذكر ذات مرة قدمت تقريرا ضمنته ما أراده معي صاحب المحل من عمل اللواط، فجاء الرد أنه علي أن لا أمانع من ذلك إذا كان في ذلك الفعل تسهيل الوصول إلى الهدف، و لما قرأت الجواب دارت بي الأرض الفضاء، وفكرت كيف لا يستحى رؤسائي من الأمر بمثل هذا العمل الشنيع؟ لكنة لم يكن لي بد من شرب الكأس إلى الثمالة، فبقيت في وضعي دون أن أنبس ببنت شفة.
    وفي يوم الوداع مع الشيخ أنهمرت عيناه بالدموع، وودعني قائلا: الله معك يا ولدي وإذا عدت إلى هذا البلد وأنا ميت فأذكرني، وسوف نلتقي عند رسول الله في المحشر. وفي الواقع أني تأثرت تأثيرا بالغا وجرت دموعى حارة لكن الواجب كان فوق العواطف.
    كان الرفاق التسعة الآخرون قد تلقوا أوامر من الوزارة لحضورهم إلى لندن كما تلقيت أنا أيضا، ولكن لسوء الحظ لم نرجع إلا ستة فقط. أما الأربعة الآخرون فقد صار أحدهم مسلما وبقى في مصر كما أخبرنا بذلك السكرتير، لكن السكرتير أظهر ارتياحه بأنه لم يفش السر. وألتحق أحدهم بروسيا وقد كان هذا من أصل روسي، وكان السكرتير يبني قلقا شديدا حوله ليس لأنه ألتحق بالوطن الام ولكن من أجل أن السكرتير كان يظن أن الرجل كان جاسوسا للروس في وزارة المستعمرات ولما انتهت مهمته رجع إلى بلاده. وكان الثالث قد مات في مدينة عمارة (بلد في طرف بغداد) على أثر وباء إجتاح البلاد هناك على ما أخبرنا السكرتير بذلك. أما الرابع فلم يعلم أحد عن مصيره إذ راقبته الوزارة حتى وصوله إلى (صنعاء) في اليمن من بلاد العرب، وكانت تقاريره ترسل بانتظام إلى الوزارة فترة سنة، ثم انقطعت بعد ذلك، وكلما حاولت الوزارة الاطلاع على أحواله لم تحصل على شيء. وقد كانت الوزارة تعتبر خسارة كل واحد من العشرة كارثة، حيث كنا نحسب لكل إنسان حسابا دقيقا. فنحن أمة قليلة العدد كبيرة المهام، وفقد كل إنسان من هذا الطراز كان كارثة عندنا.
    بعد أن سمع السكرتير أولويات تقاريري، أرسلني إلى مؤتمر عقد لأجل الاستماع إلى تقاريرنا نحن الستة، وقد اجتمع حشد كبير من وزارة المستعمرات برئاسة الوزير نفسة للاستماع لتقاريرنا.
    وقدم زملائى تقارير أولية من المهمة التي أوكلت لهم، كما قدمت أنا تقريرا ألتقطت فيه رؤوس الأقلام. واستحسن أعمالي الوزير والسكرتير وبعض الحاضرين، ولكنني لاحظت أني كنت الثالث من حيث جودة العمل، حيث كان الزميلان (جورج بلكود) و(هنرى فانس) في الدرجتين الأولى والثانية من حيث جودة العمل.
    كنت قد نجحت نجاحا باهرا في تعلم التركية والعربية والقرآن والشريعة، لكني لم أحرز نجاحا في تقديم تقرير يدل الوزارة على مواقع الضعف في الدولة العثمانية. وبعدما انفضت الجلسة التي دامت ستة ساعات، لفت نظرى السكرتير إلى نقطة الضعف، قلت له أن مهمتى تعلم اللغة والشريعة والقرآن، ولذا لم أبذل وقتا كافيا لغير ذلك، وسوف أكون عند حسن ظنكم في السفرة القادمة أن أوليتم ثقتكم بي. قال السكرتير: لا شك أنك ناجح لكني آمل منك أن تحرز قصب السبق في هذه الحلبة، أن مهمتك يا همفر في السفرة القادمة أمران هي
    أولا - أن تجد نقطة الضعف عند المسلمين والتي نتمكن بها من أن ندخل في جسمهم ونبدد أوصالهم ، فإن أساس النجاح على العدو هو هذا.
    ثانيا - أن تكون أنت المباشر لهذا الأمر إذا ما وجدت نقطة الضعف، فإن قدرت على المهمة فسوف أطمئن بأنك أنجح العملاء وستستحق وسام الوزارة.
    بقيت في لندن مدة ستة أشهر وتزوجت بأبنة عمي (ماري اشواي) التي كانت تكبرني بسنة، فقد كان عمري إذ ذاك اثنين وعشرين سنة بينما كان عمرها ثلاثا وعشرين سنة، وكانت فتاة متوسطة الذكاء، بارعة الجمال وثقافتها عادية، وقضيت أجمل أيام حياتي معها تلك المدة، وحملت مني، وقد كنت أنتظر الضيف الجديد بفارغ الصبر وإذا بالأوامر الصارمة تصدر من الوزارة في أن أتوجه إلى إقليم العراق، البلد العربي الذي استعمرتة الخلافة منذ زمن طويل.
    وقد أسفت لهذه الأوامر في وقت كنت أنتظر فيه ولدي، لكن اهتمامي ببلدي وحبي للشهرة بين زملائى كانا يفوقان عواطف الزوجية والولد ولذا لم أتردد في القبول رغم الحاح زوجتى أن أرجىء الأمر إلى ما بعد ولادتها. ويوم فارقتها بكيت أنا وبكيت هى بكاءا مرا، وقالت لى: لا تنقطع عني بالرسائل كما سأخبرك أنا أيضا عبر الرسائل بعشنا الذهبي الجديد. وهذه الكلمة كانت عاصفة على قلبي حتى أني صممت أن ألغي السفرة لكني تملكت عواطفي وودعتها وخرجت إلى الوزارة لأحصل على الإرشادات الأخيرة.
    بعد ستة أشهر وجدت نفسى في (البصرة) بالعراق وهو بلد عشائري وأهله مختلط من السنة والشيعة، الجناحين الإسلاميين، كما أنهم مختلطون من العرب و الفرس، وفيهم قلة من المسيحيين.
    ولأول مرة في حياتي ألتقي بالشيعة والفرس، ولا بأس أن أذكر شيئا عن الشيعة والسنة، فالشيعة ينتسبون إلى علي بن أبي طالب وهو صهر رسولهم على إبنتة فاطمة، وكان في نفس الوقت ابن عمه. وتقول الشيعة أن رسولهم محمد عين عليا خليفة من بعده، فقال أن عليا وأولاده الأحد عشر خليفة بعد خليفة. وأني أظن أن الحق مع الشيعة في (خلافة علي والحسن والحسين) لأن الثابت من التاريخ الإسلامي حسب مطالعاتي أن عليا كان يمتاز بصفات نفسية عالية تؤهلة للخلافة، ولا استبعد أن يكون الرسول (محمد) قال أن الحسن والحسين إمامان، وهذا لا ينكره أهل السنة أيضا، لكني أشك في نفس الوقت بأن أولاد الحسين التسعة أيضا عينهم الرسول محمد خلفاء له إذ كيف يعلم المستقبل؟ لأنه قد مات والحسين طفل، فكيف يعلم بأنه سيكون للحسين أولاد ويكونون متسلسلين إلى تسعة؟ نعم لو كان محمد رسولا حقا لكان من الممكن أن يعلم كل ذلك بإرشاد من الله كما كان المسيح يخبر بالمستقبل، لكن نبوة محمد مشكوكة فيها عندنا نحن المسيحيون.
    إن المسلمين يقولون بأن القرآن دليل نبوة محمد لكني قرأت القرآن ولم أجد فيه دليلا. أنه لاشك كتاب رفيع بل هو أرفع مستوى من التوراة والانجيل، ففيه دساتير وأنظمة وأخلاقيات وغير هذه، لكن هل هذا وحده كفيل بالدلالة على صدق محمد؟
    إنني متحير في أمر محمد أشد الحيرة، أن رجلا بدويا لا يقرأ ولا يكتب كيف يمكنه أن يأتي بهذا الكتاب الرفيع، وشخصا ذا خلق وذكاء لم يعهد مثلهما في أي عربي دارس فكيف بالعربي البدوي الذي لم يقرأ ولم يكتب؟ هذا من جانب، ومن جانب آخر فهل يكفي مثل ذلك للتدليل على نبوته؟
    لقد كنت دائم التطلع لكى أتعرف على هذه الحقيقة وطرحت ذات مرة هذا الموضوع على أحد القساوسة في لندن، لكنه لم يأتي بجواب مقنع وإنما تكلم عن تعصب وعناد، كما أني مرات فتحت هذا البحث مع الشيخ احمد في تركيا فلم يأتي بجواب مقنع لي، لكني من الحق أن أقول أني لم أقدر أن اتكلم مع الشيخ بصراحة خوفا من أن ينكشف أمرى أو يشك بي
    وعلى أي حال فأنني أقدر محمدا تقديرا كبيرا، أنه لا شك كان من طراز أنبياء الله الذين نقرأ عنهم في الكتب، لكني غير مقتنع بنبوته إلى الآن، ولو فرضنا أنه لم يكن نبيا، لكن من المستحيل أن يعتقد الإنسان الذي يحترم ضميره أنه مثل سائر العباقرة، أنه لا شك فوق العباقرة، وأرفع من الأذكياء. أما أهل السنة فأنهم يقولون بأن المسلمين رؤوا - بعد الرسول - أن أبا بكر ثم عمر ثم عثمان أصلح للخلافة من علي، ولذلك تركو أمر الرسول (محمد)، واتخذوا هؤلاء خلفاء للرسول.
    إن مثل هذا النزاع موجود في كل دين، وموجود في المسيحية بصورة خاصة لكني لا أعلم ما هو المبرر لبقاء هذا النزاع، فقد مات عمر و علي، وعلى المسلمين أن يكونوا عقلاء وأن يفكروا في هذا اليوم لا في الماضي السحيق
    ذات مرة ذكرت لبعض رؤسائي في الوزارة اختلاف السنة والشيعة وقلت لهم أنهم لو كانو يفهمون الحياة لتركوا النزاع ووحدوا كلمتهم. فنهرني الرئيس قائلا الواجب عليك أن تزيد الشقة لا أن تحاول جمع كلمة المسلمين. وبهذه المناسبة أن السكرتير قال لي في إحدى الجلسات التي اجتمعت معه قبل سفرى إلى العراق: أعلم يا همفر أن هناك نزاعات طبيعية بين البشر منذ أن خلق الله (هابيل وقابيل) وستبقى هذه النزاعات إلى أن يعود المسيح:
    فمن النزاعات لونية
    ومن النزاعات قبلية
    ومن النزاعات إقليمية
    ومن النزاعات قومية
    ومن النزاعات دينية
    ومهمتك في هذه السفرة أن تتعرف على هذه النزاعات بين المسلمين وتعرف البركان المستعد للإنفجار منها، وتزود الوزارة بالمعلومات الدقيقة حول ذلك، وإن تمكنت من تفجير النزاع كنت في قمة الخدمة لبريطانيا العظمى. فإننا نحن البريطانيون لا يمكننا العيش في الرفاة إلا بإلقاء الفتن والنزاع في كافة المستعمرات، كما أننا لا يمكننا تحطيم السلطان العثماني إلا بإلقاء الفتن بين رعاياها، وإلا كيف تتمكن أمة قليلة العدد من أن تسيطر على أمة كبيرة العدد؟ فاجتهد بكل قواك كى تجد الثغرة و أن تدخل من الثغرة، وليكن في علمك أن سلطة الترك وسلطة الفرس قد ضعفتا فليس عليك الا أن تثير الشعوب على حكامها كما ثارت الثوار في كل التاريخ ضد الحكام، فاذا انشقت كلمتهم و تفرقت قواهم، ضمنا استعمارهم من أسهل طريق.
    لما وصلت إلى البصرة ذهبت لتوي إلى أحد المساجد وكان المسجد لعالم من أهل السنة عربي الأصل واسمه (أحمد الطائي) فتعرفت عليه وتلاطفت معه، لكن الرجل شك بي من أول لحظة وأخذ يحقق عن أصلي ونسبي وسائر خصوصياتي، وأظن أن لوني ولهجتي هما قادا الشيخ إلى الشك لكني تمكنت من الخروج من المازق بأني من أهالي (أغدير) في تركيا، وأني تلميذ الشيخ احمد في الاستانة، وكنت نجارا في محل خالد …وإلى ما هنالك من المعلومات التي حصلتها أثناء إقامتي في تركيا. وانتبهت أن الشيخ أشار بعينه إلى أحد الحاضرين مستفسرا منه هل أني أتكلم التركية صحيح ام لا؟ وأشار المسؤول عنه بالإيجاب، وفرحت إذ تمكنت من جلب قلب الشيخ، فقد علمت بعد أيام أن الشيخ كان ينظر لي بنظرة الريبة، ويظنني جاسوسا لتركيا، حيث تبين لي فيما بعد أن للشيخ عمر خلاف مع الوالى المعين من قبل السلطات، وبينهما تبادل إتهامات وسوء الظن، وعلى كل لم أجد بدا من أن أنسحب عن مسجد الشيخ عمر إلى خان كان محل الغرباء والمسافرين، وقد استاجرت غرفة في الخان، وكان صاحب الخان رجل أحمق يسلب راحتي كل صباح، فقد كان يأتي كل صباح إلى باب الغرفة ويطرقه بعنف لأقوم لصلاة الصبح، وكنت أنا مجبورا لمسايرته فكنت أقوم وأصلي صلاة الصبح، ثم يأمرني بقراءة القرآن إلى طلوع الشمس، ولما قلت له أن قراءة القرآن ليست واجبة فلماذا هذا الأصرار قال: بأن من ينام في هذا الوقت يجلب الفقر والنكبة للخان ولأهل الخان. وحيث لم يكن لى بد من إجابته إذ هددني بالطرد إن لم أعمل بما يقول، صرت مجبورا على أن أصلي أول الأذان ثم اتلوا القرآن أكثر من ساعة كل يوم. ولم تكن المشكلة لتنتهى إلى هذا الحد فلقد جاءني صاحب الخان و اسمه (مرشد افندم) ذات يوم وقال: أنك منذ أن استأجرت مني الغرفة ابتليت أنا بالمشاكل ولا أراها إلا من طالعك، وقد فكرت في أن سبب ذلك أنك أعزب والعزب شؤم، فإما أن تتزوج وإما أن تخرج من الخان. قلت أني لا أملك المال لأتزوج (وخشيت أن أقول له أني عنين) حيث لم أكن استبعد أنه سيرغب برؤية عورتى وهل أنا صادق أم لا؟ إذا اعتذرت بهذا العذر فإن مرشد افندم من هذا الطراز. قال لي الافندم: يا ضعيف الإيمان ألم تقرأ قول الله تعإلى (ان يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله)؟ فوقعت في حيرة من أمري ماذا أفعل؟ وبماذا أجيبه؟ قلت له حسنا كيف أتزوج من غير مال؟ وهل أنت مستعد أن تقرضني المال الكافي أو أن تجد لى زوجة بلا مهر؟
    فكر الافندم قليلا ثم رفع رأسه فقال: أني لا أفهم كلامك وأخيرك بين أن تتزوج إلى أول شهر رجب المرجب أو أن تخرج من الخان. وكان لم يبق إلى أول شهر رجب إلا خمسة وعشرون يوما حيث كنا في الخامس من شهر جمادى الثانية. وبالمناسبة فإن أسماء الأشهر الإسلامية بهذا التسلسل (محرم، صفر، ربيع الأول، ربيع الثاني، جمادى الأول، جمادى الثاني، رجب، شعبان، رمضان، شوال، ذو القعدة، ذو الحجة)، وأشهرهم حسب رؤية الهلال ولا تزيد أيامها عن ثلاثين يوما، ولا تنقص عن (29) يوما. وأخيرا رضخت لأمر الافندم ووجدت مكانا عند نجار تعاقدت معه أن أعمل عنده بأجرة زهيدة ويكون أكلي ونومي أيضا عنده، وقبل أن ينتهي الشهر خرجت من الخان لألقي رحلي في دكان النجار وكان رجلا شهما شريفا عاملني كأحد أولاده وكان اسمه (عبد الرضا) وكان شيعيا فارسيا من أهالي (خراسان)، وقد انتهزت فرصة وجودي عنده أن أتعلم منة اللغة الفارسية، وكانت الشيعة العجم يجتمعون عنده كل عصر ويتكلمون بكل اقسام الكلام من سياسة إلى إقتصاد، وكانوا يتهجمون على حكومتهم كثيرا كما يتهجمون على الخليفة في الاستانة، أما إذا جاء زبون لا يعرفونه انقطعوا عن الكلام وأخذوا يتكلمون في قضاياهم الشخصية، وأني لا أعلم كيف وثقوا بي كل هذه الثقة، لكني علمت أخيرا أنهم ظنوا أني من أهالي (أذربيجان) حيث علموا أني أعرف اللغة التركية، وساعدهم على هذا الظن لوني المائل إلى البياض، اللون الغالب على أهالي (أذربيجان)، وهنا على هذا الحال تعرفت على شاب كان يتردد على هذا الدكان يعرف اللغات الثلاث التركية والفارسية والعربية، وكان في زى طلبة العلوم الدينية ويسمى (محمد عبد الوهاب)، وكان شابا طموحا للغاية عصبي المزاج، ناقما على الحكومة العثمانية. وكان سبب صداقته مع صاحب المحل (عبد الرضا) هو أن الاثنين كانا ناقمين على الخليفة، وأني لا أعلم من أين كان هذا الشاب يعرف اللغة الفارسية مع أنه كان من أهل السنة وكيف صادق مع (عبد الرضا) الشيعي؟ إن كل الأمرين لم يكونا غريبين، ففي البصرة يلتقى السني بالشيعي كأنهما أخوة كما يعرف الكثير من القاطنين في البصرة اللغتين الفارسية والعربية، وأن كثيرا منهم يعرف أيضا اللغة التركية
    القسم الثاني
    كان الشاب الطموح (محمد) يقلد نفسه في فهم القرآن والسنة، ويضرب بآراء المشايخ. ليس مشايخ زمانه والمذاهب الأربعة فحسب، بل بآراء أبي بكر وعمر أيضا بعرض الحائط. إذا هو فهم من الكتاب على خلاف ما فهموه الآخرين، وكان يقول أن الرسول قال أني مخلف فيكم الكتاب والسنة، ولم يقل أني مخلف فيكم الكتاب والسنة والصحابة والمذاهب، ولذا فالواجب الكتاب والسنة مهما كانت أراء المذاهب والصحابة والمشايخ مخالفة لذلك. وقد جرى يوما حوار بين (محمد عبدالوهاب) وبين أحد علماء فارس اسمه الشيخ (جواد القمي) الذي كان ضيفا عند (عبد الرضا) على مائدة الطعام التي ضيفنا عليها عبد الرضا في داره، وكان يحضر بعض أصدقاء صاحب البيت، فجرى بين محمد والشيخ جواد القمي حوار عنيف لم أحفظه كله، وإنما حفظت مقتطفات منه.
    قال له القمي: إذا كنت أنت متحررا ومجتهدا كما تدعي فلماذا لا تتبع عليا كالشيعة؟
    قال محمد: لأن عليا مثل عمر وغيره ليس قوله حجة، وإنما الحجة الكتاب والسنة فقط
    قال القمي: ألم يقل الرسول (أنا مدينة العلم وعلي بابها) إذا ففرق بين علي وباقي الصحابة
    قال محمد: إذا كان قول علي حجة فلماذا لم يقل الرسول (كتاب الله وعلي بن أبي طالب)؟
    قال القمي: بل قال حيث قال (كتاب الله وعترتي أهل بيتي)، وعلي سيد العترة
    أنكر محمد عبدالوهاب أن يكون الرسول قال ذلك، لكن الشيخ القمي جاء بأدلة مقنعة حتى سكت محمد ولم يجد جوابا. لكن محمد أعترض عليه وقال: إذا قال الرسول كتاب الله وعترتي فأين سنة الرسول؟
    قال القمي: سنة الرسول هى شرح لكتاب الله، فلما قال الرسول كتاب الله وعترتي أراد كتاب الله بشرحه الذي هو السنة
    قال محمد: أليس كلام العترة شرحا لكتاب الله؟ فما الحاجة إليهم؟
    قال القمي: لما مات الرسول إحتاج الأمة إلى شرح القرآن شرحا يطابق حاجيات الزمن، ولذا فالرسول أرجع الأمة إلى الكتاب كأصل وإلى العترة كشرح له فيما يتجدد من حاجات الزمن
    لقد أعجبت أنا بهذا البحث أيما أعجاب، ورأيت إنما محمدا الشاب أمام القمي كالعصفور في يد الصياد لا يتمكن تحركا
    ووجدت في (محمد عبدالوهاب) ضالتي المنشودة، فإن تحرره وطموحه من مشايخ عصره، ورأيه المستقل الذي لا يهتم حتى بالخلفاء الأربعة أمام ما يفهمه هو من القرآن و السنة، كان أكبر نقاط الضعف التي كنت اتمكن أن أتسلل منها إلى نفسه، وأين هذا الشاب المغرور من ذاك الشيخ التركي الذي درست عنده في تركيا؟ فإنه كان مثال السلف كالجبل لا يحركه شيء. إنه كان إذا أراد أن يأتي باسم أبي حنيفة (كان الشيخ حنفي المذهب) قام وتوضأ ثم ذكر اسم أبي حنيفة، وإذا أراد أن يأخذ كتاب البخاري – و هو كتاب عظيم عند أهل السنة يقدسونه أيما تقديس – قام وتوضأ ثم أخذ الكتاب. أما الشيخ محمد عبد الوهاب فكان يزدري بأبي حنيفة أيما إزدراء. وكان يقول عن نفسه أني أكثر فهما من أبي حنيفة، وكان يقول أن نصف كتاب البخاري باطل.
    لقد عقدت بيني وبين محمد أقوى الصلات والروابط، وكنت أنفخ فيه باستمرار وأبين له أنه أكثر موهبة من (علي وعمر) وأن الرسول لو كان حاضرا لأختارك خليفة له دونهما. وكنت أقول له دائما آمل في تجديد الإسلام على يديك فإنك المنقذ الوحيد الذي يرجى به أنتشال الإسلام من هذه المسقطة.
    قررت مع محمد أن نناقش تفسير القرآن على ضوء أفكارنا الخاصة لا على ضوء فهم الصحابة والمذاهب والمشايخ، وكنا نقرأ القرآن ونتكلم عن نقاط منها. كنت أقصد منها ايقاع محمد في الفخ، وكان هو يسترسل في قبول أفكاري ليظهر نفسه بمظهر المتحرر، وليجلب ثقتي أكثر فأكثر. قلت له ذات مرة: الجهاد ليس واجبا، قال: كيف وقد قال الله (جاهد الكفار)؟ قلت له يقول (جاهد الكفار والمنافقين)، فإذا كان الجهاد واجبا فلماذا لم يجاهد الرسول المنافقين؟ قال محمد: جاهدهم الرسول بلسانه. قلت: إذا فجهاد الكفار أيضا واجبا باللسان. قال: لكن الرسول حارب الكفار. قلت: حرب الرسول كان دفاعا عن النفس حيث أن الكفار أرادوا قتل الرسول فدفعهم. فهز محمد رأسه علامة الرضا
    وقلت له ذات مرة أن متعة النساء جائزة
    قال: كلا
    قلت: فالله يقول فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن
    قال: عمر حرم المتعة قائلا: متعتان كانتا على عهد رسول الله و أنا أحرمهما وأعاقب عليهما
    قلت: أنت تقول أنا أعلم من عمر فلماذا تتبع عمر؟ ثم إذا قال عمر أنه حرمها وأن الرسول حللها فلماذا تترك رأي القرآن ورأي الرسول وتأخذ برأي عمر؟ فسكت، ولما وجدت سكوته دليل الإقتناع، وقد أثرت فيه الغريزة الجنسية (ولم تكن له إذ ذاك زوجة)، قلت له: ألا نتحرر أنا وأنت ونتخذ (متعة) نستمتع بها؟ فهز رأسه علامة الرضا، وقد اغتنمت أنا هذا الرضا أكبر اغتنام، وقررت موعدا لآتي بامرأة ليتمتع بها، من أجل أن أكسر خوفه من مخالفة الناس. لكنه اشترط على أن يكون الأمر سرا بيني وبينه وأن لا أخبر المرأة باسمه. فذهبت فورا إلى بعض النساء المسيحيات اللاتي كن مجندات من قبل وزارة المستعمرات لافساد الشباب المسلم، ونقلت لها كامل القصة، وجعلت لها أسم (صفية) وفي يوم الموعد ذهبت بالشيخ محمد إلى دارها، وكانت الدار خالية إلا منها، فقرأنا أنا والشيخ صيغة العقد مدة أسبوع، وأمهرها الشيخ نقدا ذهبا، فأخذت أنا من الخارج وصفية من الداخل نتراوح على توجيه الشيخ محمد عبد الوهاب. وبعدما أخذت صفية من الشيخ كل مأخذ، وتذوق محمد حلاوة مخالفة أوامر الشريعة تحت غطاء الاجتهاد والاستقلال في الرأي والحرية، في اليوم الثالث من المتعة أجريت مع محمد حوارا طويلا عن (عدم تحريم الخمر)، واستدليت بآيات القرآنية وأحاديث زيفتها وقلت له لقد صح أن معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس كانوا يتعاطون الخمر فهل من الممكن أن يكون كل أولئك على ضلال وأنت على صواب؟ أنهم لا شك كانوا أفهم لكتاب الله وسنة الرسول مما يدل على أنهم لم يفهموا التحريم وإنما فهموا الكراهة والإعافة، وفي الاسفار المقدسة لليهود والنصارى إباحة الخمر، فهل يعقل أن يكون الخمر حراما في دين وحلالا في دين؟ والأديان كلها من إله واحد؟ ثم أن الرواة رووا أن عمر شرب الخمر حتى نزلت الاية (فهل أنتم منتهون) ولو كانت الخمرة حراما لعاقبه الرسول. فعدم عقاب الرسول دليل الحلية
    أخذ يسمعني محمد بكل قلبه، ثم تنهد وقال: بل تثبت في بعض الاخبار أن عمر يكسر الخمر في الماء و يشربها، ويقول أن سكرها حرام، لا إن لم تكن تسكر. ثم أردف محمد قائلا: وكان عمر صحيح الفهم في ذلك لأن القرآن يقول (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة)، فإذا لم تسكر الخمر لم تفعل هذه الأمور التي ذكرت في الآية وعليه فلا نهى عن الخمر، إذا لم تكن مسكرة
    أخبرت (صفية) بما جرى، وأكدت عليها أن تسقي محمد في هذه المرة الخمرة مغلفة ففعلت وأخبرتني أن الشيخ شرب حتى الثمالة وعربد وجامعها عدة مرات في تلك الليلة، وقد رأيت أنا آثار الضعف والنحول عليه غداة تلك الليلة. وهكذا استوليت أنا وصفية على الشيخ محمد إستيلاءا كاملا. ويا لها من روعة تلك الكلمة الذهبية، قالها لى وزير المستعمرات حين ودعته (انا إسترجعنا إسبانيا من الكفار (يقصد المسلمين) بالخمر والبغاء، فلنحاول أن نسترجع سائر بلادنا بهاتين القوتين العظيمتين
    ذات مرة تكلمت مع الشيخ محمد عن الصوم وقلت له: إن القرآن يقول (وأن تصوموا خير لكم) ولم يقل أنه واجب عليكم، فالصوم بنظر الإسلام مندوب وليس واجب، لكنه قاوم الفكرة وقال لي:
    يا محمد تريد أن تخرجني من ديني؟ قلت له: يا وهاب أن الدين هو صفاء القلب و سلامة الروح وعدم الاعتداء على الآخرين، ألم يقل النبي (الدين الحب)؟ وألم يقل الله في القرآن الحكيم (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)؟ فإذا حصل للإنسان اليقين بالله واليوم الآخر، وكان طيب القلب نظيف العمل كان من أفضل الناس. لكنه هز رأسه علامة النفي وعدم الارتياح. ومرة اخرى قلت له:
    الصلاة ليست واجبة. قال: وكيف؟ قلت: لأن في القرآن يقول الله (وأقم الصلاة لذكري) فالمقصود من الصلاة ذكر الله تعالى، فلك أن تذكر الله تعالى عوضا عن الصلاة. قال محمد: نعم سمعت أن بعض العلماء كانوا يذكرون الله تعالى في أوقات الصلاة عوضا عن الصلاة. ففرحت لكلامه أيما فرح، وأخذت أنفخ بهذا الرأى حتى ظننت أني استوليت على لبه، وبعد ذلك وجدته لا يهتم لأمر الصلاة، فأحيانا يصلي وأحيانا لا يصلي خصوصا في الصباح، فإنه كان يترك الصلاة غالبا، حيث كنت أسهر معه إلى بعد منتصف الليل غالبا فكان منهوك القوى عند الصباح فلا يقوم للصلاة. وهكذا أخذت أسحب رداء الإيمان من عاتق الشيخ شيئا فشيئا. وأردت ذات مرة أن أناقش حول الرسول لكنه صمد في وجهى صمودا كبيرا، و قال لى: إن تكلمت بعد ذلك حول هذا الموضوع قطعت علاقتى بك. وخشيت أن ينهار كل ما بنيته، من أجل ذلك أحجمت عن الكلام، لكن أخذت في إذكاء روحه في أن يكون لنفسه طريقا ثالثا غير السنة والشيعة، وكان يستجيب لهذا الأيحاء كل استجابة، لأنه يملئ غروره وتحرره. وبفضل (صفية) التي دامت علاقتها معه بعد الأسبوع أيضا في متعات متعددة تمكنا بالأخذ بقيادة الشيخ محمد كاملا. وذات مرة قلت للشيخ:
    هل صحيح أن النبي آخى بين الصحابة؟ قال: نعم. قلت: هل أحكام الإسلام وقتية أم دائمة؟ قال محمد: بل دائمة لأن الرسول يقول (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة). قلت: إذا فالنواخي أنا وأنت. ومنذ ذلك الحين كنت أتبعه في كل سفر وحضر، وكنت أهتم لأن تأتي الشجرة التي غرستها ثمارها التي صرفت لأجلها أثمن أوقات شبابي. وكنت أكتب بالنتائج إلى وزارة المستعمرات كل شهر مرة. كما كانت عادتى منذ أن خرجت من لندن وكان الجواب يأتي بالتشجيع الكافي، فكنت أنا ومحمد نسير بالطريق الذي رسمناه بخطي سريعة، ولم أكن أفارقه لا في السفر ولا في الحضر، وكانت مهمتى أن أنمي فيه روح الاستقلال والحرية، وحالة التشكيك، وكنت أبشره دائما بمستقبل باهر وأمدح فيه روحه الوقادة ونفسه النفاذه. ولفقت له ذات مرة (حلما) فقلت له أني رأيت البارحة في المنام رسول الله – وصفته بما كنت سمعته من خطباء المنابر – جالسا على كرسى وحوله جماعة من العلماء لم أعرف أحدا منهم وإذا بي أراك قد دخلت ووجهك يشرق نورا فلما وصلت إلى الرسول قام الرسول إجلالا وقبّل بين عينيك وقال لك: يا محمد أنت سمييّ ووارث علمي والقائم مقامي في إدارة شؤون الدين والدنيا (فقلت أنت) يا رسول الله إني أخاف أن أظهر علمي على الناس؟ قال رسول الله لك: لا تخف إنك أنت الأعلى.
    فلما سمع محمد مني هذا المنام كاد أن يطير فرحا ، وسألني مكررا هل أنت صادق في رؤياك؟
    وكلما سأل أجبته بالإيجاب حتى أطمئن، وأظن أنه صمم من ذلك اليوم على إظهار أمره
    في هذه الأيام جائتني الأوامر من لندن أنه عليّ أن أتوجه إلى (كربلاء) و(النجف) مهوى قلوب الشيعة ومركز علمهم وروحانيتهم، ولهذين البلدين قصة طويلة. أما قصة (النجف) فإنها تبتدأ من يوم دفن فيها (علي) رابع الخلفاء عند أهل السنة، أول الخلفاء عند الشيعة. إن مدينة تبعد عن النجف فرسخ - أي مسيرة ساعة بالرجل – تسمى (الكوفة) كانت مقر خلافة علي، فلما قُتل علي دفنه ولداه (الحسن والحسين) خارج الكوفة في هذا المكان الذي يسمى الآن (بالنجف) ثم أخذت النجف تزدهر بينما أخذت الكوفة بالخراب، واجتمع عدد من علماء الشيعة وصارت فيها بيوت وأسواق ومدارس. وهى الآن مركز علماء الشيعة والخليفة في الاستانة يحميهم ويحترم جانبهم لعدة أمور
    أولا - إن حكومة الشيعة في فارس تساندهم وإذا مس الخليفة كرامتهم توترت العلاقات بين الحكومتين، وأحيانا تصل إلى حد الحرب
    ثانيا - إن عشائر كثيرة حول النجف تساند العلماء وهى مسلحة، وسلاحهم وإن كان ليس على المستوى الرفيع، ولا تنظيم لهم إلا التنظيم العشائرى، لكن يعني منازلة الخلافة، فتتدخل مع تلك العشائر في معارك دامية، وحيث لا ضرورة قصوى تلجىء الحكومة إلى كبح جماح العلماء تذرهم و شأنهم
    ثالثا - إن أولئك العلماء مراجع لكل المسلمين الشيعة في العالم من (هند) و(أفريقيا) وغيرها، فإذا مست الحكومة كرامتهم هاجت الشيعة في كل مكان. (وأما قصة كربلاء) فإنها تبتدأ منذ قُتل فيها سبط رسول الله (الحسين ابن علي وابن فاطمة بنت الرسول)، فقد دعا أهل العراق الحسين ليأتيهم من (المدينة - الحجاز) ليتخذوه خليفة، لكنه لما وصل هو وأهل بيته إلى أرض كربلاء التي تبتعد عن الكوفة قرابة اثنى عشر فرسخا، قلّب أهل العراق عليه الأمر، وخرجوا لقتاله بأمر من يزيد بن معاوية - الخليفة الأموي القاطن في الشام - فقاتل الحسين ابن علي مع أهل بيته الجيش الأموي الكثيف العدد قتال الأبطال حتى قُتل هو وأهل بيته، وقد أبدى الجيش الأموي في هذه المعركة كل نذالة وسفالة، ومنذ ذلك الحين أتخذ أهل الشيعة هذا المكان مركزا روحيا يأتونه من كل مكان، ويزدحمون فيه إزدحاما ليس عندنا في الروحانية المسيحية له مثيل
    هذه المدينة - كربلاء - أيضا مدينة شيعية وفيها علماء الشيعة ومدارسهم، وهى والنجف تسند إحداهما الأخرى، ولما وصلتني الأوامر للذهاب إلى هاتين المدينتين قطعت الطريق من البصرة إلى بغداد مركز الوالي المنصوب من قبل الخليفة في الاستانة، ومن هناك ذهبت إلى (الحله) وهى مدينة تقع على شط الفرات، والفرات ودجلة نهران كبيران يخترقان العراق من تركيا ويصبان في البحر، ويعود الفضل في زراعة العراق ورفاهها إلى هذين النهرين. وقد اقترحت أنا على وزارة المستعمرات بعد عودتي إلى لندن أن تخطط لوضع اليد على مصب هذين النهرين لنتمكن من إخضاع العراق في حالة الطوارىء، فإنه لو انقطع الماء عن العراق، لابد وأن يخضع أهلها لمطالب الوزارة. ومن الحله ذهبت إلى النجف في زى تاجر من تجار (أذربيجان)، والتقيت برجال الدين وأخذت أراودهم وأحضر مجالسهم وأعجبت بهم أيما أعجاب لصفاء روحهم، وغزارة علمهم وشدة تقواهم. لكني وجدتهم قد مر عليهم الزمن ولا يفكرون في تجديد أمرهم.
    فقد كانوا على شدة عدائهم للسلطة في تركيا (لا لأنهم شيعة وهى سنية) بل لضغط السلطة على حرياتهم ضغطا كبيرا لا يفكرون في منازلتها وفي التخلص منها
    كما أنهم كانوا قد حصروا أنفسهم في علوم الدين مثل قساوستنا في عصر الجمود، وقد تركوا علوم الدنيا إلا بمقدار قليل
    كذلك وجدتهم لا يفكرون في ما يجرى حولهم في العالم
    وقد قلت في نفسي مساكين هؤلاء، فإنهم في سبات عميق حيث الدنيا في يقظة، وسياتي يوم يجرفهم السيل، وقد حاولت مرار استنهاضهم لمحاربة الخلافة فلم أجد فيهم أذنا صاغية. كان بعضهم يسخر مني وكأني أقول له أهدم الكون، فقد كانوا ينظرون إلى الخلافة كأنها مارد لا يمكن أن يقصر إلا إذا ظهر (ولي الأمر). وولي الأمر عندهم هو إمامهم الثاني عشر من ذرية الرسول، غاب عن الابصار عام255 هجرى، أي بعد ظهور رسولهم (255) سنة، وهو حي إلى اليوم، ثم يظهر لعالم ليملىء عدلا بعد أن مليء جورا. وإني أتعجب كيف يعتقد أناس أفاضل بهذه العقيدة الخرافية. إنها مثل عقيدة الخرافيين من المسيحيين بأنه سيعود المسيح من عليائه ليملىء الدنيا عدلا
    قلت لأحدهم: أليس الواجب أن تغيروا الظلم كما غير رسول الإسلام؟
    قال: الرسول كان يسنده الله ولذا تمكن
    قلت: في القرآن الحكيم (إن تنصروا الله ينصركم) فأنتم أيضا يسندكم الله إن قمتم بالسيف في وجه طغيان الخليفة
    قال: أنت تاجر وهذه المواضيع علمية يقصر فهمك عن ملاحقتها
    أما مرقد الامام أمير المؤمنين كما يسمونه فهو مرقد جميل مزخرف بأنواع الزخرفة الجميلة، وله حرم جميل و عليه قبة ذهبية كبيرة، ومنارتان ضخمتان ذهبيتان، وأهل الشيعة يدخلونه كل يوم زرافات زرافات ويقيمون الصلاة بهيئة إجتماعية، ويقبلون ضريحه الذي أُلحد فيه، وينحني كل واحد إلى عتبته يُقبلها ثم يسلم على الامام، ويستأذن في الدخول فيدخل. ويحيط بالحرم صحن كبير فيه غرف كثيرة هى ماوى رجال الدين والزوار. وفي كربلاء حرمان على طراز حرم علي، الأول حرم الحسين، والثاني حرم العباس، وهو أخ للحسين قُتل معه في كربلاء. وتفعل الشيعة في كربلاء مثل ما تفعل في النجف، وكربلاء أحسن مناخا من النجف حيث يحيط بالبلد طوق كبير وكثيف من البساتين وفيها أنهار جارية
    في سفرتي إلى العراق وجدت ما يثلج الصدر، فقد كانت الأوضاع العامة والخاصة تنذر بنهاية الحكم. فالوالي من قبل الاستانة رجل مستبد جاهل يحكم بما يشاء، وكأن الناس عبيد وإماء له، والشعب بصورة عامة غير راض عنه. أما أهل الشيعة فإن الحكومة تضغط على حرياتهم ولا تعير لهم أهمية، وأما أهل السنة فإنهم يأنفون أن يحكمهم رجل تركي وفيهم الأشراف والسادة من آل الرسول الذين يرون بأنهم أحق بالحكم من الوالي التركي. والبلاد خراب يعيش الناس فيها في قذارة ووساخة وخرائب. والطرق غير مأمونة، فعصابات اللصوص يترصدون القوافل فينقضوا عليهم إذا لم تكن معهم مفرزة من الشرطة، ولذا فإن القوافل لا تتحرك إلا بعد أن تصحبهم الحكومة بالشرطة المدججين بالسلاح. والمخاصمات بين العشائر قائمة على قدم وساق، فلا يمر يوم إلا وعشيرة تنقض على عشيرة أخرى، ويكون بينهما القتل والسلب. والجهل والأمية متفشية بصورة مدهشة، تذكرني بأيام استيلاء الكنيسة على بلادنا، فباستثناء طبقة رجال الدين في النجف و كربلاء وقلة مرتبطة بهم، لا تجد قاريء ولا كاتب واحد في كل ألف إنسان. والاقتصاد منهار، فعيش الناس في فاقة شديدة وفقر مدقع. والنظام غير مستتب، فالفوضى هى التي تسود كل شيء وتنظر الحكومة والناس كل إلى الآخر بنظرة الريبة والشك، لذا لا تعاون بينهما. ورجال الدين غارقون في الأمور الدينية، عازفين عن الحياة الدنيا. والصحاري لا زراعة فيها، ويمر النهران (دجلة والفرات) عبر أراضيهم وكأنهما ضيف عليهم حتى يصبان في البحر، وإلى غير ذلك من الأوضاع المتردية الفاسدة التي تنتظر الإنقاذ
يعمل...
X