إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الباحث ( مصطفى صالح مصطفى ) أديب وكاتب مسرحي وقاص أردني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الباحث ( مصطفى صالح مصطفى ) أديب وكاتب مسرحي وقاص أردني

    مصطفى صالح

    ولد مصطفى صالح مصطفى في لفتا/ القدس عام 1947، حاصل على دبلوم معهد المعلمين بحوارة/ اربد عام 1967، عمل معلماً خلال السنوات 1967-1988، وعمل في جريدة الصباح، وفي جريدة الدستور منذ عام 1975 وحتى الآن، وهو رئيس تحرير جريدة الدستور الرياضي، وكان عضواً في الهيئة الإدارية لرابطة الكتاب الأردنيين للعام 1978-1979، وهو عضو في الرابطة، وفي اتحاد الكتاب العرب. كتب المسلسلات التلفزيونية التالية: بريق السنين 1989، وردة الجل 1993، القلب الكبير 1994، الليل الطويل 1996، شارع السعادة 1996.
    وكتب المسرحيات التالية:
    الله يستر من بكره: مهرجان جرش، 1984.
    عمو أمين: مهرجان جرش، 1986.
    الجار الطيب: مهرجان جرش، 1987.
    القهوجي: دار الأوبرا، 1987.
    رجل في مهمة، عرضت في جميع المحافظات، 1990-1991.
    عرب 2000/1990.
    صدرت له مجموعة قصصية بعنوان:
    الجراد، عمان: رابطة الكتاب الأردنيين، 1981.
    الجراد
    *مصطفى صالح

    انفلتت الشمس من عقالها لتطل بأشعتها الصفراء الباهتة من خلف الجبال العالية على أهل القرية المنتشرين في الزرع يعشبونه ويقلعون ما به من النباتات الغريبة. كانوا يكومون هذه الأعشاب في أكوام متفرقة، فتحزمها النساء حزماً يحملنها على ظهور البهايم وينقلنها للقرية بمساعدة الصغار لتصبح فيما بعد غذاء للماشية بعد أن يجف الزرع ويقفر المرعى.
    أخذت الغزالة تسير ببطء نحو وسط السماء وأشعتها الصفراء تنشر لهباً حاراً فيسح العرق عن الأجسام المنكبة على العمل بنشاط موفور لا يثنيهم الحر ولا التعب عن متابعة العمل. ها هم على وشك أن يجنوا ثمار تعبهم. لقد أفاض الله عليهم هذه السنة فامتلأت الآبار وأغلت الأرض ونبت الزرع كثيفاً. وما عليهم إلا أن يعتنوا به قرابة شهر وتتم الحصيدة ويعم الخير الجميع.
    مد "أبو حمده" قامته وأخذ يرنو للجمع العامل يرمقهم بعين الناقد الخبير. كان طويلاً نحيلاً وكان أكبر رجال القرية سناً فكانوا يحترمونه ويجلونه ويرجعون إليه في كل صغيرة وكبيرة من أمورهم. صاح أبو حمده بصوته الجهوري:
    - راجح.. يا راجح ألا تجد لك عملاً أفضل من إطعام البغل.
    انتصبت قامة مديدة لشاب عريض المنكبين موفور الصحة... وأخذ يرنو لأبي حمده باحترام وكأنه يسأله ماذا يعمل.
    قال له أبو حمده:
    - اذهب وساعد ابنة عمك في تحميل حزمة العشب على ظهر الدابة دعك من البغل فهو يعرف كيف يطعم نفسه...
    وهمس راجح لنفسه مسروراً:
    - جيتك يا حمدة..
    رمى ما بيده من عشب أمام البغل وهرول ناحية ابنة عمه جذلاً شاباً يفيض بالحيوية. رفع حزمة العشب وقال لها هامساً:
    حطي ايدك مع ايدي...يا الله...
    ورميا بها على ظهر الدابة. تلاقت أيديهما بلمسة سريعة ارتعش لها كلاهما. سمر عينيه السوداوين الواسعتين فأدارت وجهها خجلى للناحية الأخرى. همس لها وهو يتظاهر بتعديل حمل الدابة..
    - البيدر السنة غلال يا حمده..
    تربعت الشمس في وسط السماء فتداعوا للغداء والراحة.
    جلسوا متقاربين يلتهمون ما بحوزتهم من طعام. يسوق "راجح" نظراته خلسة لابنة عمه فتلوك طعامها ببطء شديد، وحمرة الخجل تورد وجنتيها، فيسر لهذه المعابثة ويبتلع طعامه بشهية وابتسامة حب تعلو شفتيه.
    الغزالة تنحدر نحو المغيب، نسمات باردة منعشة تهب على القوم فتزيد من نشاطهم ومن بين النسوة يرتفع صوت "حمده" الرخيم شاقاً الفضاء بغناء رقيق فيه إثارة العزائم للرجال، تردده النسوة من بعدها فتلهب عزائمهم ويعملون كأنهم لم يعملوا منذ الصباح.
    الكلاب تدور حول الدواب وتعابثها بخبث لتظل بعيدة عن الزرع. انتشر الصغار بني السنابل الخضراء المتماوجة مع هبات الريح يلاحقون بعضهم البعض وعندما تشتد مضايقتهم يأمرهم "أبو حمده" بأن يبتعدوا عن العاملين فيبتعدوا عنهم موغلين في الزرع، فيضع "راجح" كفيه على فمه كالبوق ويأخذ بالصراخ عليهم منادياً إياهم بأسمائهم، فلا تمضي لحظات حتى يكونوا بين قدميه يزحفون كالأرانب لا يدري من أين أتوا. يرمقهم "أبو حمده" حب وحنان. هؤلاء الأشقياء سيصبحون رجال هذه الأرض. علا صراخ اثنين منهم وهما يطاردان بعضهما. تعثر أحدهما ووقع أمام "راجح". يا لهؤلاء الملاعين ألا يكفون لحظة واحدة عن الشجار. رفعه بين يديه ومسح التراب عن وجهه.
    ونادى على الآخر. قال الطفل:
    - لقد أخذ جرادتي.
    وقال الثاني: - إنه يكذب لقد رأيتها قبله.
    نقل "راجح" بصره بني الاثنين. أخذ الجرادة ونادى بصوت عال على أبي حمده وهو يلوح بالجرادة في يده، التف الجميع حول "أبو حمده" وهو يقبلها بين يديه بقلق.
    رفع بصره إلى السماء وكأنه يتوقع رؤية أسراب الجراد قادمة. استشعر الخطر بحسه. وهو لن ينسى سنة غزو الجراد وهو شاب. يومها أتى الجراد على الزرع والضرع ولم يبق لهم شيئاً وأصبحت تلك السنة تاريخاً. أفلت الجرادة من يده فتبعها الصغار يتراكضون ويتصايحون.
    اختفت الشمس وراء الأفق ساحبة وراءها أشعتها الذابلة فودع المعشبون نهارهم عائدين للقرية، النساء والصغار في المقدمة على ظهور الدواب، والرجال يسيرون على مهل يتحدثون ويتمازحون "وأبو حمده" صامت واجم.
    قال أبو راجح:
    - مالك يا أبو حمده صامت؟
    وقال آخر متهكماً:
    أنا خايف الجرادة تكون خوفتك يا أبو حمده.
    ارتفعت قهقهاتهم عالية حتى وصلت إلى مسامع النساء. نظر إليهم أبو حمده والقلق يطل من عينيه الغائرتين وقال...
    - قلبي ناخزني يا جماعة. وأنا غير مطمئن. يا خوفي يروح تعبنا خسارة.
    فقال أبو راجح:
    - والله خايف يكون جرى لعقلك حاجة يا أبو حمده.
    رفع أبو حمده باصرتيه لأعلى. السماء صافية ونجومها تلمع ولا شيء باد يثير الخوف.
    - هه يا بو حمده ماذا رأيت؟؟
    فرد أوب حمده:
    - لا شيء، لم أر شيئاً ولكن قلبي يقول لي بأننا سنرى عما قريب. وعندما وصلوا إلى بيوت القرية افترقوا على أمل اللقاء بعد العشاء في المضافة.
    تربع "أبو حمده" على الفراش في المضافة ورجال القرية جلوس حوله وقد أحسوا بخوف أزاء صمت هذا الشيخ وقلقه. ففراسته كانت دوماً صادقة وهو يعرف ما لا يعرفون. قام "راجح" على خدمتهم يناولهم ما يطلبون من ماء ويصب لهم الشاي والقهوة فيدعون له بالفرح والهناء وقال أحدهم..
    - يابو حمده أنت خايف ومخوفنا معك بلا سبب.
    وقال آخر:
    - لكننا يا "بو حمده" نرى الجراد كل عام. يأتي بأعداد قليلة لا نشعر به، يطارده الصغار ويتخذون منه تسلية لهم.
    رد الشيخ حانقاً:
    - لكن الأمر مختلف هذه المرة. إنني أشم رائحة الخطر.
    علا صوته وأخذ يخاطبهم بحدة.
    - اسمعوا! أريد أن أقول لكم شيئاً، إن هذه الجرادة كطليعة الغزو لا بد أن يتبعها جيش. يجب أن نهيء أنفسنا لهذا الأمر.
    قال أبو راجح:
    - "يا بو حمده" أنت تعلم أنك تبالغ في الأمر... آه لو كانت المرحومة موجودة لأعادتك إلى صوابك.
    هم الرجل واقفاً وقد أصابه اليأس منهم، واستأذن في الانصراف فتبعه الآخرون كل إلى بيته.
    تقلب أبو حمده في فراشه. لا يغمض له جفن، فالقلق والخوف يسيطران عليه. أبعد كل هذا التعب والشقاء يأتي الجراد ليأخذ كل شيء؟ ولكن لم لا يكون الأمر مبالغة وخوفاً لا مبرر له كما قال أبو راجح، ولعل هذه الجرادة ضالة. داعبه النعاس وكأنما اطمأن لهذا الخاطر فراح في سبات عميق.
    أفاق "أبو حمدة" على صياح الديكة معلنة بزوغ فجر جديد، ودوار خفيف يلم به من جراء إمعانه في التفكير الليلة الماضية. ألقى على ابنته النائمة نظرة أودعها كل ما في كيانه من حب وحنان. فهي كل ما له في هذه الدنيا بد وفاة زوجته. تخطى عتبة البيت في طريقه للبئر. لفحه هواء بارد منعش. أدلى الدلو في البئر ليتوضأ ويصلي الصبح. وقف يتنفس بعمق ريثما يمتلئ الدلو. أحنى ظهره وانتشله من البئر. أخذ يبسمل ويتمتم بأدعية وهو يصب الماء على يديه ووجهه. أعاد الدلو لمكانه وهم بدخول البيت. توقف وقد سمع صوتاً. أصاخ السمع جيداً. تسارعت أنفاسه وهرب الدم من عروقه فبات وجهه أصفر. هذا صوت لا يخطئه. صوت قضقضة متواصلة والظلام لم ينقشع بعد. أحنى ظهره وحملق في الأرض جيداً.. صوت القضقضة لا يفارق سمعه. وقف وقد أسقط في يده. تلجم لسانه ولم يدر ماذا يعمل. في تلك اللحظة كان الجراد يعتلي كل نبتة في حديقة البيت. أصيب بذهول شديد وأخذ يستعيذ بالله ويحوقل ولا يدري ما يصنع بعدها لهول الصدمة. أفاق لنفسه وقفز صارخاً بين بيوت القرية يوقظ أهلها بصوته الراعد..
    - جاي يا نشامه جاي.. الجراد طب الزرع.
    أفقت القرية على صوته المجلجل فأخذت الأبواب تفتح وتصفق وتراكض الرجال وتبعهم النساء. وقد ركبهم ذهول وخوف اجتمعوا حوله صامتين وكلهم شعور بالذنب. صاح فيهم محنقاً..
    - هل جئتم لتقفوا فاغرين أفواهكم هكذا؟
    سرعان ما هوت المعاول تحفر في الأرض حفراً واسعة وأخاديد. النساء ينقلن التراب من الحفر. وبعض الرجال والصغار أخذوا يطاردون الجراد ويدوسونه بأقدامهم مغيظين. أشعل أحدهم ناراً فانتشر الدخان يغطي الجميع. مر نهارهم وهم يجاهدون جهاداً مريراً. لم يفكر أحد أن يطلب طعاماً أو ماء. حتى الصغار أحسوا بفداحة الخطب فتركوا لهوهم وأخذوا يتنافسون بقتل أكبر كمية من الجراد. وعندما مالت الشمس ناحية الغرب معلنة انتهاء اليوم الكئيب كانت أعداد كبيرة من الجراد ترقد في جوف الحفر الواسعة ولكن ما تبقى من الجراد كان كافياً لأن يأتي على بقية الزرع. وفي طريق عودتهم للقرية لم ينبس أحدهم بكلمة كانوا يتطلعون ناحية أبي حمده بحذر وخوف وكلهم شعور بالذنب والتقصير. لو أنهم سمعوا كلام هذا الشيخ! فهم قد كلوا من التعب في نهارهم هذا ولكن بعد فوات الأوان. لو أنهم سمعوا كلامه وتعبوا البارحة لهان الأمر وسلم الزرع. كان "أبو حمده" يسير صامتاً وقد أحنى التعب قامته المديدة. هل نسلم بالهزيمة؟ لا. سيكون هذا الجراد سماداً لأرضنا في السنة القادمة. وعندما وصلوا إلى ساحة القرية هم الجميع بالتفرق و "أبو حمده" يخطو نحو بيته والألم يمضه ارتفع صوت أبو راجح مجلجلاً مليئاً بالثقة.
    - سنكون أكثر حذراً في المرة القادمة.
    توقف "أبو حمده" ونظر للجمع الحاشد فرأى العزم بادياً على الوجوه فهتف بفرح..
    - أجل سنكون أكثر حذراً في المرة القادمة.
    *من مجموعة "الجراد".
يعمل...
X