إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الشاعرة ( نازك الملائكة) في الذكرى السادسة لغيابها

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الشاعرة ( نازك الملائكة) في الذكرى السادسة لغيابها

    نازك الملائكة: في الذكرى السادسة لغيابها

    نازك الملائكة

    عبد الكريم كاظم

    هي ماتت لفظةٌ من دون معنى
    هي ماتت، وخلا العالمُ منها
    صوتُ ماتت رنَّ في كل مكان
    صوتُ ماتت داوياً لا يضمحلُ
    يملأ الليلَ صراخاً ودويا
    مقتطفات من قصيدة بعنوان الخيط المشدود في شجرة السرو ـ 1948/ من ديوان الشاعرة المعنون شظايا ورماد
    القصيدة التي أطاحت بالجمود..
    في الذكرى السادسة لغياب الشاعرة نازك الملائكة نمسك ما تبقى من عاشقة الليل وقرارة الموجة وشجرة القمر وشظايا ورماد وأغنية للإنسان وصدى الصدمات الثقافية المتنوعة. يبدو أن النوم الثقافي العميق الذي ينوه على صدرنا يجعل هذه الصدمات مجرد إزعاج مؤقت فنعود إلى نومنا حالما يزول أثر الصدمة، أي نعود إلى حالة الاسترخاء الذهني والتوتر العقلي وهو التناقض الذي يحكم ثقافتنا من قرنين من الزمن والذي يصوغ لنا الإشكاليات في صورها المغلوطة فنختبرها على صورتها الأولى. يتراءى لي أحياناً أن شكل البلاد بجغرافيتها تشبه رأس أفعى متعددة الرؤوس وتأكد لي ذلك عندما بدأت بابتلاع الشعراء، فقد كان وجه الشبه واضحاً بين شكل البلاد وطريقة موت شعرائها، وهكذا يكون للموت صولته الغادرة البغيضة بعد أن استحال إلى أفعى لا يكتمل فعلها إلا وهي تبتلع الشعراء وتمنحهم بركاتها القاتلة، وبكلمات مقتضبة كان الموت ظلاً مطابقاً لصورة الشاعر/ة يحكم ويتحكم وبهذا أيضاً أصبح الشعراء، إلا قليلاً منهم، في موت وسوء حال فالحاكم باغٍ ومستشاره غشاش والخطيب عيّاب والواعظ المعمم منافق والسامع مستخف، أما المواطن فهو متعب أو لاهٍ بالبحث عن لقمة العيش وفسحة مضطربة قد يعتبرها الأمان.
    لقد أقفرت البلاد، فأي صحراء حقيقة هي الآن، وهل أصبح الشعراء كائنات طفيلية تعيش على هامش الحياة أو في جدب الصحراء، الشاعر/ة هو وحده الحر في عالمنا (السعيد) تماماً مثلما كان الحاكم وحده السيد في تأريخنا (العراقي الجميل) ومع ذلك بقي العراقي سواء كان شاعراً أو بائعاً للماء، في قيظ العراق، يبحث عن السعادة الوهمية عسى أن يجد في ذلك بعض الشفاء الفعلي، ورغم سوداوية المشهد حول موت هذا الشاعر أو تلك الشاعرة إلا أن مرارة الموت المستساغة في هذه الحالة لا تترك لنا فسحة، ولو ضيقة، للتفاؤل . كم هي عقيمة هذه البلاد التي أريد لها/أرادوا لها أن تتهدم على رؤوس أهلها حجراً .. حجراً، عن أي بلاد يمكن لنا أن نتحدث، عن أي قصيدة بينما الحياة والقصيدة يتلاشيان تحت ظلال الحراب، فهذا زمن العمائم والسواد والجيف وهي تغطي ما تبقى من حياة وهاهم شعراء العراق وشاعراته يمتّدون ـ طولاً وعرضاً ـ سياجاً من المقابر بينما عيونهم غارقة بالدمع وألسنتهم الجافة تلهج بالبلاد .
    إذا كان لمثل هذا الموت حسناته، حيث صار في مستطاع الميت الحصول على الكثير من الهدوء في موته مثلما حصل على الكثير من الإهمال والنسيان في حياته، ولأسباب جد كثيرة أولها غباء الحاكم أو المؤسسة الثقافية المكتظة بالعقائد وآخرها الجهل الفاحش لقيمة الشاعر أو الشاعرة حيث بات الحكام والوزراء والمستشارون والمؤسسات المملوكة على موعد يومي مع الجهل أو الإهمال المتعمد الذي يقدمونه لمجتمعاتهم، والشيء المدهش أننا نرى بعض الحكام أو الوزراء يتأففون ويتحسرون لموت هذا أو ذاك ويطالبون بنقل جثمانه إلى البلاد مدعيّن بفيض إنسانيتهم وبكائياتهم الكاذبة ومدى اهتماماتهم الواهمة بالثقافة والشعر على سبيل المثال وما هم بواقع الحال إلا عبارة عن مخلوقات ممسوخة ترى الحياة بالمقلوب.
    في ظل المذابح العراقية المتكررة التي يقوم بها (من لا نعرفهم) بين الحين والحين تظهر المذابح الثقافية هي الأخرى واضحة العيان في شارع ما زال يرزح بين أخبار الموت وعدد الأموات ولذلك دفع المواطن العراقي كل حياته وأعصابه بجوار وطن، أو بعيداً عنه، كان أسمه ذات يوم العراق.. قليلون هم المحظوظون الذين نجوا بأنفسهم من هذه المذابح أو تلك الكارثة، وهم إما احتفظوا بقصائدهم وبحوثهم وحياتهم وموتهم خارج إطار الكارثة أو أنهم امتلكوا حلماً أو وهماً أو أرضاً يقفون عليها.
    لم تر نازك الملائكة نفسها إلا كشاعرة ولم تطلب ما يرفعها إلى هذا المقام إلا الزهد في الحياة والرضا بالقصيدة لذلك رحلت عنا لأنها أدركت أن الحياة في المنفى أو البلاد لم تعد تطاق مثلما فعل الكثير من الشعراء العراقيين، وبين هذا الاختيار لمعت القصيدة من جديد وتجددت الأسرار فالحياة دائماً تبدأ كلما كان هناك موت، شعر، دمع وحزن، أليست هي القائلة في هذا البيت من قصيدتها المعنونة كبرياء ما يؤكد هذا الانطباع: (ومئاتُ الأسرارِ تكمنُ في دمعةِ حُزنٍ تلوح في مقلتينِ).
    لقد أطاحت نازك الملائكة بالقيود الكلاسيكية المضروبة على القصيدة حتى جعلت من مغامراتها التجريبية الممزوجة بالمعرفة الرصينة الغيث الأول الذي يفجر الينابيع ويجعل من الكلمات تخرج للهواء الطلق أو تسقط كالمطر ومن المفارقات العجيبة أن المتشككين في ذلك قد خرجوا من معاطفهم القديمة أو انطباعاتهم النقدية المحافظة بعد أن أدركوا جيداً أن غاية القصيدة الجديدة هو قتل الجمود والتقليد والسكون وبث التدفق الروحي الجمالي والتأمل الصارم للمعاني المبثوثة في فضاء الكلمات أو في الدلالات اللفظية المرتبطة بتفسيرات معرفية أو علاقات فنية لغوية وهذه الأخيرة، حسب رولان بارت، (هي التي تدفع باللفظة وتمضي بها باتجاه معنى هو دائماً معنى مُسقط في القصيدة الحديثة) وبهذا أُسقطت القناعات الجامدة وأُحرقت أعمدة القصائد البالية وتناثرت في الفضاء الفسيح حتى يومنا هذا.
    الشعر الحق ليس له عمود، بل هو في كل كتابة مبدعة، في المزامير نقرأه وفي الصوفيات، في الدواوين القديمة والحديثة، وكل نص جميل مغاير يثير فينا غبطة نسميه شعراً، وهو مثل كل شيء حي، وإن لم يحسن النقد تمييز قمحه من زؤانه فالشعر وحده، بوسائل دفاعه الذاتية يتقن نحت التماثيل للخالدين منه وصياغة التاريخ الثقافي المعرفي الفني من نصوص الذين صنعوا تاريخه.

    أنا بنت الهاشمي أخت الرجال
    الكاتبة والشاعرة
    الدكتورة نور ضياء الهاشمي السامرائي
يعمل...
X