إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

في شعر امرئ القيس ( التكرار ) - بقلم : محمود محمد أسد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • في شعر امرئ القيس ( التكرار ) - بقلم : محمود محمد أسد

    التكرار في شعر امرئ القيس
    التكرار في شعر امرئ القيس

    بقلم : محمود محمد أسد


    إنَّ المتمعِّنَ والقارئ لديوان امرئ القيس يلحظ المقدرة الفنية التي يملكها الشاعر. فيقدِّرُ تلك الموهبة المتميِّزة، والتي تبوأت المكانة الأولى في طبقات الشعر الجاهلي. فامرؤ القيس من شعراء الطبقة الأولى إلى جانب النابغة وزهير بن سلمى والأعشي. وكذلك يتوصَّل القارئ المتفهِّمُ لهذا الإبداع السحري الذي خصَّ الله فيه اللغة العربية بالتميُّزِ، ألا وهو الشعر إلى صِحَّةِ هذا الحكم.
    عُرِف امرؤ القيس بأنه شاعرٌ وصاف يتقن فنَّ الشعر ورسمَ اللوحاتِ بجزيئاتها مِمَّا أهَّلهُ للتفوق والتميُّزِ على شعراء عصره. فنحن أمام لوحات فنّيّة مكتملةِ العناصر بألوانها وحركاتها وجزئياتها الدقيقة. ويظهر هذا في وصفه للفرس ورحلات الصيد وأيضاً في وصفه للمرأة ومغامراته الجريئة معها بشكل خاص. فهو لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلَّا ويخصُّها في وصفه، ولكن ما يعنينا في هذه الأسطر ظاهرة التكرار التي تبدو جليَّةً وهي التي تظهر أمامنا بدون مقدِّمات وكدٍّ ذهني. وأعتمد في توضيح هذه الظاهرة على ديوانه الشعري الذي صدر مجموعة " مختارات الشعر الجاهلي " أو دواوين الشعراء الستة الجاهليين. بشرح وترتيب عبد المتعال الصعيدي. الطبعة الرابعة عام ألف وتسعمئة وثمانيةٍ وستين. والسؤال الذي نطرحه ومن ثمَّ نجيب عليه. أين يظهر التكرار في شعر امرئ القيس؟ وما تفسيرنا لهذه الظاهرة؟.
    نسعى بما توفرَّ لنا من جهد واجتهادٍ في رصدِ وكشف أماكن التكرار في البداية. ثم نحاولُ الوقوف عند هذه الظاهرة وتفسيرها سلباً أم إيجاباً. فالتكرار وَرَدَ في أكثرَ من شكلٍ وفي أكثر من مكان. فهناك تكرار لبعض القصص المعادةِ في أكثر من قصيدة فقصة عَزْله ومغامراته مع محبوبته واقتحامه لخدرها وخوفها من الفضيحة وتمكُّنهُ من السيطرة عليها وعلى قلبها والافتخار بشجاعته دون خوف أو وجل من أهلها نراها في المعلَقة وغيرها من القصائد. ومنها القصيدة ذات المطلع:
    ألا عمْ صباحاً أيُّها الطَّلَلُ البالـــي وهلْ يَعِمَنْ مَنْ كان في العُصُر الخالي؟
    وكذلك نرى تكرار قصة الصيد في المعلقة وغيرها. حيثُ تدور جزيئاتها حول خروجه مبكِّراً بفرسٍ يمتلك كلَّ الصفات الإيجابية من سرعة وصبر ومقدرةٍ على التعامل في معمعة الصيد في الكرِّ والفرِّ، فيشبعه بالتشبيهات والوصف والإعجابِ وكأنَّهُ جزءٌ من حياته بل هو حياته اللاهية المبنية على اللهو بالنساء والصيد والعبثِ بأعراضهنَّ كما عُرِفَ عنه. ثمّ يستطرد في وصف لحاقه لبقر الوحش وسرعته الفائقة وصيده للفريسة دون عرقٍ أو تعب ثم يصف اللهو والطعام والشراب ففي المعلقة يقول في هذه المغامرة:
    فمثلك حبلى قد طرقْتُ ومرضعٍ
    فألهيْتُها عن ذي تمائِمَ مُحِولِ
    وفي قصيدة ثانية يقول:
    ومثلِك بيضاءَ العوارضِ طَفْلَةٍ
    كعوبٍ تُنَسِّيني إذا قمتُ سريالي
    وفي المعلقة يقول:
    فجئْتُ وقد نضَّتْ لنومٍ ثيابها
    لدى الستِر إلاَّ لبســةَ المتفضِّلِ
    فقالتْ يمينَ الله مالك حيلـةٌ
    وما إن أرى عنك الغوايةَ تنجلي
    وفي القصيدة الثانية يذكر:
    سموتُ إليها بعد ما نامَ أهلهـا
    سُمُوَّ حَبابِ الماءِ حالاً على حــالِ
    فقالت: سباك الله إنك فاضحي
    ألسْتَ ترى السُّمَّارَ والناسَ أحوالي؟
    فقلتُ: يمينُ اللهِ أبرحُ قاعـداَ
    ولو قطعوا رأسي لديـك وأوصالي
    فالمعنى مكرَّرٌ والحوارُ واحدٌ. وعناصر القصة متشابهة. وهناك تكرار للتشبيه في وصفه للمرأة. ففي المعلقة يصف جيدَها:
    وجيدٍ كجيد الرئِم ليسَ بفاحشٍ
    إذا هــي نَصَّتْهُ ولا بمُعَطَّلِ
    وفي القصيدة الثانية يظهر المعنى والتشبيه جلِيّاً:
    لياليَ سلمى إذ تريكَ مُنَصَّبـاً
    وجيداً كجيد الرِئم ليس بمعطالِ.
    وهناك تكرار للأسماء التي عشقها وبقيت في ذهنه تلاحقه وتثيره:
    ديارٌ لهندٍ والرَّبابِ وفُرْتنى
    لياليَنا بالنَّعْـــفِ من بَـدَلان
    وفي قصيدة أخرى يقول:
    دارٌ لهندٍ والرَّباب وفرتنى
    ولميسَ قبل حوادث الأيـــام
    وقد ورد التكرار في مطلع قصائده كمعلقته المشهورة بمطلعها:
    قفا نبك من ذكرى حبيبٍ وعرفان
    بسقط اللِّوى بين الدخول فحومَلِ
    وفي قصيدة أخرى يقول في مطلعها:
    قفا نبك من ذكرى حبيبٍ وعرفان
    ورسـمٍ عفَـتْ آياتُه من أزمان
    وفي ديوانه تكرار للصور في وصف الرسم والديار وتشبيهاتها بالكتابة والخط:
    لمَنْ طَلَلٌ أبصَرْتُــهُ فشجانـي
    كخطِّ زبورٍ في عسيب يمــانِ
    وقريب من هذا المعنى والتشبيه جاء في البيت التالي:
    أتَتْ حِجَجٌ بعدي عليها فأصبَحَتْ
    كخطِّ زبورٍ في مصاحفِ رهبانِ
    وهناك نوع من التكرار وردَ كاملاً باستثناء الكلمة الأخيرة من البيت نظراً لضرورة الروي والقافية وأذكر منها في وصفِهِ للجواد وهو يلحق فريسته:
    فعادى عداءً بين ثورٍ ونعجةٍ
    دراكاً ولم ينضحْ بماءٍ فيغسـل
    وقال قريباً منه:
    فعادى عداءً بين ثورٍ ونعجةِ
    وكان عداءُ الوحشِ منيِّ على بالِ
    وفي مكان آخر يقول وفي نفس المعنى:
    فعادى عداءً بين ثورٍ ونعجةِ
    وبين شبوب كالفضيمةِ قَرْهَــبِ
    وهناك مطابقة في بعض الأبيات مع تغيير الكلمة الأخيرة كما ذكرت سابقاً:
    وأنْتَ إذا استدبَرْتَهُ سدَّ فرجَهُ
    بضافٍ فويقَ الأرض ليسَ بأعزلِ
    ومثله: وأنت إذا استدبرته سدَّ فرجَهُ
    يضافٍ فويق الأرض ليسَ بأصْهَبِ
    فعند وصفه للجوادِ والصيد يبدو تكرار القصة في أكثر من قصيدة. ويأتي التكرار في التشبيه والجملة والمعنى. وهذا ما نعرضه ونوضحِّهُ. فهو يكرِّرُ الزمان وتحديده وهذا طبيعي لأن وقت الصيدِ باكراً:
    وقد أغتدي والطير في وكناتها
    بمنجردٍ قيد الأوابد هيكـلِ
    وفي مكان آخر:
    وقد أغتدي والطير في وكناتها
    لغيثٍ من الوسميِّ رائدُه خالِ
    ويعيد الشطر الأول في مكان آخر أيضاً:
    وقد أغتدي والطيرُ في وكناتها
    وماء الندى يجرى على كلِّ مُذْنبِ
    ومثله:
    وقد أغتدي والطيرُ في وكناتها
    بمنجردٍ عبـلَ اليديــن قبيض
    فالتكرار جاء في أكثر من شكل في إختياره لألفاظ الشطر الأول والبحر والروىِّ المكسور.فكيف نفسِّرُ هذا التكرار الذي لم بنتهِ بعد؟ هل كان الشاعر يدرك هذا التكرار، وهو ينظم شعره؟.
    ألا يدري ويحفظ ما قاله سابقاً؟ أهذا لضعفٍ أم لنهجٍ ينهجه الشاعر؟
    فما معنى إبراز أكثر من بيت في إطار واحد من اللفظ والمعنى والتشبيه:؟
    كأنَّ وماءَ الهاديات بنحرهِ
    عصارةُ حِنَّاءٍ بشيبٍ مُرَجَّلِ
    ومثله:
    كأنَّ دماءَ الهادياتِ بنحره
    عصارةُ حِنَّاءٍ بشَيْبٍ مفـرَّقِ
    هل كان التكرارُ مقصوراً في الخيال؟ وهل كان إلحاحاً على المعنى. وحصيلةً غيابٍ عن الوعي والشعور؟
    في كلِّ الأحوال نستطيع القول: إنَّ توظيف التكرار لم يؤثِّرْ على مقدرة الشاعر الفنية وهناك نوعٌ من التكرار جاء في اللفظ مع استعارة صورة مغايرة للصورة الأولى فيقول في المعلقة وهو يصف آلية الحركة المنتظمة لجوادة:
    مكرٍّ، مفرٍّ، مقبل، مُدْبرٍ معاً
    كجلمود صخرٍ حطَّهُ السيلُ من علِ
    ويقول:
    مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً
    كنيسِ ظباءِ الحُلَّبِ الغَــــذَوانِ
    وفي وصفه للجواد استعار صوراً محسوسةً من البيئة كرَّرها في مكان آخر. نرسم صورةً متكاملة لجواده في المعلقة وجَعَلَ خيالنا ينتقل في الصحراء من حيوان لآخر:
    له أيطلا ظبي وساقا نعامة
    وإرخاءُ سرحانٍ وتقريبُ تتفـــلِ
    تمر معنا هذه الصورة في مكان آخر: ص 32
    له أيطلا ظبي وساقا نعامة
    وصهوةُ عيرٍ قائمٍ فــوق منقَــبِ
    فنلحظ في تكراره إعادةً للصورة أو المعنى أو اللفظ والجمل وأحياناً كلَّها معاً كما وردَ معنا. ولكن في كلِّ مرَّةٍ لا يرى القارئ مللاً أو ضعفاً. فالتكرار لدى الشاعر منسجم مع الموضوع ومع شخصية الشاعر. وأترك للقارئ اللجوءَ إلى ديوانه ليرى مجالاً رحباً، يلتقط فيه مجالات أخرى للتكرار.سواء في اللفظ أم في الصورة أو التشبيه أو الجمل. فهناك صور وأبيات لم أذكرها كتشبيه حركة الجواد بحرَّارة الوليد وكذلك في وصفه للنعاج بالعذارى وتكرار لفظة " ربَّ مكروبٍ " وغيرها فإني ذكرت هذه الظاهرة وتبقى محاولة تفسيرها وتقييمها الصحيح. فالتكرار ورد في الغزل والوصف وهذان الغرضان يعكسان حياة الشاعر التي طُبِعَتْ على اللهو والعبث واللامبالاة. فهو إنسان غيرُ جدِّيٍّ.أحبَّ الصيدَ والفَرَسَ وعشقه ممَّا جعله قريباً منه وباستمرارٍ معه. فمن الطبيعي أن يكرِّر وصفه وأن يؤكِّدَ على أوصافه.وما مغامراته مع النساء إلا انعكاس للهوه وعبثه. فطبيعي أن تبقى صورةُ المرأة أمامه في كلِّ مغامرة، ولكن يُظْهر لنا مقدرته على وصف الجزيئات وإعاده الوصف وإلباسه ثوباً جديداً. وأرى تفسيراً آخر أجتهد في عرضه وإبدائه وهو نابع من طبيعة البيئة والعصر الذي عاشه الشاعر بكلِّ تفصيلاتها. فامرؤ القيس ليسَ من الشعراء الذين يُنَقِّحون أشعارهم ويقلِّبونها فهو يعيش للحظته ويعبِّرُعن حالته الشعورية بالإضافة إلى طبيعته النفسية الانفعالية التي تجعله بعيداً عن التأمل والتدبِّر والبحث والتذكير. وهو لا يقول الشعر تكسُّبا بل ترفاًوزهواً فلا تهمُّهُ الأحكام النقدية وهناك من يعلِّلُ الظاهرة بضيق أفق الشاعر المحصور بأفكارٍ معينة ومعالم ثابتة لا تتغير ولا تتطور فلا بدَّ أن يستعيَر من معالمها المحسوسة تشبيهاته وصورَه ومعانيه وهذا نقبله ونقتنع به لأنَّ المكان الواحد والغرض الواحد يجعل الإنسان يعيد نفسه أحياناً. فروميات أبي فراس توشك أن تكون قصيدة واحدة وكذلك قصائد الخنساء في رئاء أخويها أستطيع اعتبارها قصيدة واحدة. بعكس زهير بن أبي سلمى الذي عاش بهدوء واستقرار فنرى تنوَّعاً في الأداء والتعبير.. وقس على ذلك. وهذا التكرار قد يلتقى به الكثيرُ من الشعراء كظاهرة تكرارٍ وليس في التفاصيل الجزئية طالما أن البيئة متقاربة والظروف المحيطة متشابهة وهذا التكرار لا يقلِّلُ من شأن الشاعر إذا كان متمكِّنا من أسلوبه في التعبير وقادراً على نسج ثوبٍ مزيدٍ ومتميِّزٍ لها وقد قال عنترة في مطلع معلقته يشكو من تكرار المعاني والوقوف على الأطلال فالتساؤل بحدِّ ذاته ثوبٌ جديد متفرِّد:
    هل غادر الشعراء من مُتَرَدِّم
    أم هل عرَفْتَ الدار بعد توهُّمِ.
    ورغم ذلك وصف وأبدع ممَّا جعل قصيدته ضمن القصائد المختارة في الشعر الجاهلي وأنفسها.
يعمل...
X